اعتراضي على ترسيم الأمازيغية إلى جانب وطننتها راجع لاعتبارات كثيرة. أولها أنها ستضع الأمازيغية في وضع يصبح معه ممكنا أن يطالب متكلموها باستعمالها في جميع المرافق العمومية، بما فيها مؤسسات التعليم، بتمزيغ أفقي وعمودي إجباري. فبعدما عانى الناس من تعريب عشوائي معمم بعربية، سبق وأن مارست كل وظائف الإدارة والمدرسة عبر قرون، يفرض عليهم تمزيغا معمما بلغة ليست مؤهلة لهذه الأدوار، لغويا وموسوعيا، وسياسيا، الخ. توحيد اللغة، مثلا، أمر سياسي، ويجب أن يستفتى فيه الشعب حتى يصادق عليه، أو على صيغته. واختيار حرف تفناغ لكتابتها سياسي وتعليمي، له انعكاسات على تركيبة المنظومة اللغوية التي نريدها، واختيار التنوع في إطار الوحدة، والكلفة التعليمية، الخ. اختيار الوطننة نفسه مازال يحتاج إلى بيداغوجية لشرحه للناس بما يكفي، لأن كثيرا ممن يتكلمون باللهجات الأمازيغية يختلفون بشأن هذا الاختيار، الخ. إقامة هندسة للهوية المركبة للغات تحتاج إلى أن يشتغل عليها مجلس أعلى للغات ، لتحديد التوازنات العادلة، وإطلاق مبادرة تواصلية، الخ. لا يمكن تصور معالجة ناجعة للمسألة اللغوية اليوم بالمغرب إلا في ضوء الثورات العربية الفائرة والإصلاح السياسي الشامل الذي يريده الديمقراطيون من الشعوب والحكام. ويخطئ من يريد استغفال الملك أو الشعب أو الأحزاب السياسية حين يلجأ إلى مقاربة تجزيئية غرضها هيمنة مكون لغوي على آخر، بدعوى الميز الإيجابي أو جبر الضرر (وما أكثر الأضرار التي لحقت بنا!)، نافيا شمولية المسألة اللغوية، وخاصة كونها لن تكون وليدة إلا ديمقراطية سياسية ووطنية مبنية على السيادة والكرامة والحرية، والحقوق والعدل، والمسؤولية والمحاسبة ونبذ الفساد، ونشر المعرفة والتمدن والتحضر، والقطع مع الجهل والجاهلية، التي تكبح النمو والرفاه، وتمنع الاندماج في القرية الكونية للحقوق والواجبات. والديمقراطية اللغوية هي على طرفي نقيض مع أي تطرف أصولي عرقي جاهلي ينبذ التعدد اللغوي الفعلي، المستلزم للتقبل والتسامح اللغوي (linguistic tolerance) والتكامل (complementarity)، والتعاون (cooperation)، من أجل التعايش على أرض واحدة، ووطن واحد، بهوية واحدة، مزيجة أو مركبة، ولكنك تشعر فيها أنك مغربي، لا تحتاج إلى أن تبحث في هوية أُحْفورية (fossilized)، أو عرقية. فكل الديمقراطيات قائمة على عدم الميز الهوياتي، لأن الوطن هو الهوية. والإسلام قام على هذا، إذ «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى». والهوية اللغوية ليست عرقية إثنية، حيث إن من «تكلم بالعربية فهو عربي» كما قال النبي، أو إن «الفرنسية لغة الجمهورية» في فرنسا، وليست لغة من كانوا يتكلمون لهجة oil، الخ. فكلنا متعددون بألسننا، قبل أن نكون بأعراقنا. ولا تعني العروبة اللغوية نفي المزوغة اللغوية (amazighit?)، أو الإفرنجية (francit?)، الخ. هناك أربعة اختلالات تطبع الواقع اللغوي الحالي بالمغرب: 1. تدهور الوضع الاعتباري والمؤسسي للغة العربية، جراء الحيف الذي تعرضت له حين امتنعت الدولة عن تطبيق المرجعيات الرسمية والتشريعية بشأنها، الهادفة إلى تعزيزها وتقويتها، وحرمانها من المؤسسة الملائمة للنهوض بها وبالمعربين، أي أكاديمية محمد السادس للغة العربية، وتوالد لوبيات متطرفة أمازيغية وفرنكفونية وحركات تلهيجية، داعية إلى العامية، تنشر العداء لها باستمرار، من أجل هز استقرارها وبقائها. 2. الحاجة إلى موقعة الأمازيغية والمزوغة بصفة واضحة في المنظومة اللغوية الوطنية، ودعمها وتحسين أوضاعها، حفاظا على بقائها ونمائها، وإدماجها في هوية ثقافية ولغوية مزيجة وتركيبية واحدة، بعيدة عن النزوعات الأصولية، مع المحافظة على استقلالية ذاتية لها لا تتنافى والوحدة. 3.إعادة النظر في موقعة الفرنسية، واللغات الكونية الأخرى، باعتبارها لغات انفتاح ثقافي وعلمي على الكونية، لا لغات تزحف للإجهاز على الوظائف الطبيعية لألسن الهوية، مما يؤدي إلى صراعات لغوية تنعكس سلبا على البيئة اللغوية المغربية عموما، وفي التعليم خاصة. 4. ممارسة الدولة لحِجر لغوي على الشعب، يمنعه من بلورة اختياراته، والتحرر من الهيمنة والتبعية، والابتعاد عن سياسة تجزيئية ميزية وغامضة، لفائدة سياسة شمولية واضحة وعادلة تجاه مختلف المكونات اللغوية. يكمن الحل في تدبير الملف اللغوي عبر سياسة لغوية جديدة، ديمقراطية، يحدد فيها الشعب اختياراته، وتعمل الدولة على تنفيذها وقَوْنَنَتِها، دون تسييس الحراك اللغوي لصالحها. ولابد من إقامة مجلس أعلى للغات، يتولى تدبير التوازنات بين مختلف روافد ألسن الهوية وألسن الانفتاح الكونية، وبلورة الهوية اللغوية المركبة والمزيجة للمغاربة، وإتاحة فرص الترقية والرفاه عبر هذه الألسن. وأما فيما يخص الوضع القانوني للغات، فينبغي دسترة عدد من المبادئ اللغوية، بما فيها إقرار تعدد لغوي محكوم بمبادئ التسامح والتكامل والتعاون، ووَطْنَنَة اللغة العربية واللغة الأمازيغية بتنوعاتهما، وترسيم اللغة العربية، وتوفير المواد التشريعية الداعمة للنهوض باللغتين، بما يساهم في تهييئ الأمازيغية سياسيا وعلميا وتعليميا وبحثيا للاشتراك في الرسمية على المدى المتوسط، بعد استفتاء الشعب، وتهييئ الظروف المناسبة. 1. هوية لغوية مغربية مزيجة، وتوزيع تكاملي، وتعايش بين اللغات تكونت للمغرب عبر العصور هوية لغوية مزيجة ومركبة بين العروبة والمزوغة، بعدما انتشرت العربية في المغرب بفعل انتشار الإسلام، ونزحت قبائل عربية ومسلمة وافدة إلى المنطقة امتزجت بالقبائل الأمازيغية، فتعرب منها من الأمازيغ من تعرب، وتمزع من الأعراب من تمزغ، ونشأت عربية مغربية (أو لهجات) يغلب عليها النظام اللغوي العربي الهلالي في الشمال، والحسانية، التي أصلها معقلي، من جنوب الجزيرة العربية، وإن تأثرت في نظامها النحوي والصرفي والمعجمي بالأمازيغية، ولغة (أو لهجات) أمازيغية جديدة داخلتها المفردات العربية، وبعض الخصائص النحوية والصرفية العربية، وإن ظلت أمازيغية بالأساس. وبالإضافة إلى هذه اللهجات المزيجة، تبوأت اللغة العربية الفصيحة الوظائف الرسمية، وخاصة على مستوى الإدارة المركزية والمحلية، وفي التعليم المدرسي. وخلال فترة ما قبل الاستعمار، كان التداخل والتمازج اللغوي شعبيا بالأساس، آل إلى لهجات مزيجة يتكلم بها الشعب في حياته اليومية، ولم تلعب العربية الفصيحة إلا دورا فوقيا في إطار توزيع طبيعي للألسن، حسب الوظائف، وتدبير شعبي عفوي. ولم تكن للدولة من عهد المولى إدريس إلى الحماية أي خطة لغوية تعريبية صريحة لتعريب المغاربة من فوق، فيما نعلم، باللغة الفصيحة، ولم تتدخل الدولة لنصرة اللغة العربية ضد اللهجات، بحيث يمكن الجزم بأن هوية المغرب اللغوية بمختلف روافدها استفادت من تقبل وتعايش لغوي سلمي وشعبي. وهذا يختلف عن تجارب ما وقع في بلدان أخرى، مثل ما حدث في نشر الفرنسية بعيد الثورة الفرنسية حيث تولى Robespierre و l?Abb? Gr?goireمهمة إرهاب الناس في لغتهم، أو ما حدث مع محاكم التفتيش (Inquisition) في إسبانيا، حيث قُطِع لِسَانُ من تحدث بغير الكاستيان (الإسبانية)، أو ما حدث في 1918 في Iowa في الولاياتالمتحدة، حين منعت الحكومة المحلية الحديث في الفضاءات العمومية بغير الإنجليزية، مع أن أمريكا متعددة، الخ. فما طبع المغاربة عبر تاريخهم اللغوي هو التسامح اللغوي، وهو إحدى ركائز أي تعدد لغوي. وفي عهد الحماية، نزل ليوطي بخطة لغوية متكاملة، مبنية أساسا على زعزعة التماسك اللغوي المغربي، وشطب اللغة العربية الفصيحة من الإدارة والمدرسة وتواصل الاعيان، وإحلال الفرنسية محلها، وتشجيع اللهجات (العربية والأمازيغية) على منازعتها في الوظائف اليومية، وتهديد بقائها. وبعد الاستقلال، لم يكن للدولة والحركة الوطنية والشعب بديل غير محاولة إعادة اللغة الفصيحة إلى وظائفها التاريخية. وقد رسمت مخططات للتعريب الفصيح، بغية التحرر من هيمنة الفرنسية، باعتبارها لغة المستعمر، ولأن اللغة أساس السيادة. إلا أن مخططات الدولة لم تكن مقنعة ولا موفقة، وسرعان ما انقلبت الدولة نفسها على العربية، لبخسها وإذكاء العداء لها، واتخاذها كبش فداء لإخفاقاتها في التعليم على الخصوص. ومما زاد في تفاقم هذا الوضع وتشعبه بزوغ ثلاث حركات لغوية أصبحت مناوئة للفصيحة، بصفة معلنة أو خفية: (أ) حركة أمازيغية تطالب بحقوق لغوية مشروعة (ولكنها لا تتوقف عند هذا)، و (ب) حركة دارجية تؤطرها جهات خارجية بالأساس، و (ج) حركة فرنكفونية في صيغة متطرفة، مضادة في العمق لألسن الهوية واللغات الكونية الأخرى (الإنجليزية والإسبانية على الخصوص)، مكرسة لتبعية لغوية غير مقبولة. فتوزيع اللغات في المغرب انتقل من فترة تعايش وتوزيع طبيعي بين لغة مكتوبة ولهجات شفوية وطنية، إلى فترة صراع (وحرب في بعض الأحيان) داخل ألسن الهوية من جهة، وزحف لغة أجنبية تريد أن تحقق ما لم تحققه الجيوش (كما كان يقول de Gaulle). والمطلوب هو العودة إلى سلم بين ألسن الهوية وبين ألسن الانفتاح على الكونية، قائم على إرادة الشعب في التعايش داخل هذا الوطن بألسنه التاريخية، وطموحه إلى تملك ألسن الكونية، خدمة لتنميته وفرصه الحضارية والاقتصادية على الخصوص. 2. اللغة العربية المفترى عليها وفي مقابل الحيف والعداء الذي يطبع تعامل الدولة مع اللغة العربية وطنيا، فلا ينكر إلا جحود لحود أن هذه اللغة لغة حضارة كبرى، ولغة بينية بامتياز، ولغة لا ترتبط بعرق أو قومية، ولا بقبيلة دون قبيلة، ولا بدين دون آخر، ولا بشعب دون آخر، الخ. وهي اللغة الرمزية لما يقرب من 1.5 من المسلمين، لأنها لغة القرآن، وهي كذلك مسيحية ويهودية، الخ. والعربية بدأت في شكل لهجات قبائل مختلفة عن بعضها في الجزيرة العربية، وتوحدت تدريجيا في أسواق الأدب والتجارة، لتخلق لغة أدبية مشتركة، وبعد انتشار الإسلام خرجت عن رقعتها الجغرافية، وتعربت ألسن كثير من الشعوب، تعريبا شعبيا، عن طريق لهجاتها المختلفة، التي تفاعلت مع اللغات المحلية، ففتح التعريب الشعبي والتعريب باللغة العالية (أو الفصيحة) آفاقا جديدة للآداب الرفيعة والشعبية عبر بقاع إسلامية واسعة. وفي هذه الحركة، برزت اللغة العربية الفصيحة كلغة الإدارة (أو الدولة) من جهة، ولغة تطوير العلوم والتقنيات والفكر، الخ. وفي هذا التاريخ الطويل، كانت اللغة العربية تشتغل بمكوناتها الفصيحة والعامية، التي تملكتها الشعوب، وامتزجت فيها اللغات، الخ. ولم يشهد هذا المد السريع للغة العربية أي اعتراض يذكر من قبل الشعوب التي تملكتها وطورتها، بل إن الدول ذات الأصول غير العربية من فرس وأتراك وأمازيغ وغيرهم، ساهمت أكثر من العرب في نشر العربية وتطويرها، بل حتى الشعوبية (وهي مضادة للقومية العربية) لم تشكك في عروبتها اللغوية عبر التاريخ. واللغة العربية اليوم في العالم ما زالت بخير نسبيا، رغم انتكاساتها المتعددة، في أساليبها الفوقية والشعبية. فعدد متكلميها حوالي 350 م. وقد أصبحت لغة الرقمنة بامتياز، إذ وصل عدد مستعملي الإنترنيت بالعربية إلى 65 مليون مستعمل، وهم في الرتبة السابعة عالميا، بتطور 2500% بين سنة 2000 و 2011، الخ. والعربية لغة عَبْرَ وطنية أو عَبْرية transnational، رسمية في 22 دولة عربية، وثلاث دول أخرى هي مالتا وتشاد وإسرائيل، الخ. وهي لغة المؤسسات الإقليمية والدولية، ولغة الاقتصاد، والبورصات في عدد من الدول العربية، ولغة المحتوى العنكبي، بين 1.6 إلى 3%، الخ. هذا الوضع الإيجابي إجمالا تقابله نقائصه ذكرتها في كتاب «أزمة اللغة العربية في المغرب»، عائدة خاصة إلى عدم وجود مؤسسة لتأهيل العربية والمعربين، وإلى عوامل أخرى دولية وإقليمية. ولكن هذا الوضع الجيد نسبيا على المستوى العالمي يقابله عداء وبخس لم يسبق لهما مثيل على المستوى الوطني. اتسم بالحملات التي يؤطرها جامعيون فرنسيون من أجل إحلال العامية محل الفصحى، وتكريس الفرنسية في الإعلام والإدارة والتعليم والاقتصاد، بانحرافات بعض النشطاء الأمازيغ الذين يجعلون منها عدوا لذودا لأختها الأمازيغية. والحال أن العربية الفصيحة لم تضايق الأمازيغية تاريخيا، لأن الوظائف مختلفة بين لغة مكتوبة بالأساس ولغة شفوية بالأساس. وإذا كانت مطالب بعض الفئات الأمازيغية التي تدعو الشعب والدولة إلى دعم مزوغة لغوية (وثقافية) غير مبوتقة (melted)، تجعل منها عنصرا منظورا (visible) في التشكيلة اللغوية للهوية المغربية (وتحافظ عليها)، فإن من العبث أن يتوهم البعض أن ذلك سيقوم على حساب عروبة المغرب اللغوية والثقافية، بالمعنى المحدد هنا. 3. من الحجر إلى الرشد اللغوي تميزت فترة ما بعد الاستقلال بممارسة الدولة للحجر اللغوي على المواطن، وهضم كثير من حقوقه اللغوية، بما في ذلك حقه في التحرر اللغوي، المرتبط بالسيادة، الذي حلت محله تبعية لغوية تريد في المجمل فرض الفرنسية في وظائف لا يمكن أن تكون لها، أو تنفرد بها، مثل جعلها لغة التدريس الشاملة الوحيدة، ضدا على مبدأ التعدد، أو لغة العمل والتواصل الاعتبارية، واضعة ألسن الهوية في دونية منافية للسيادة اللغوية، الخ. وقد اقترنت الوصاية والتبعية بازدواجية في التعامل مع الرسمية: رسمية قانونية de jure (للغة العربية)، ورسمية فعلية de facto ( للفرنسية). وتدخلت الدولة لنبذ الإسبانية من التعليم في المناطق الشمالية، بهدف توحيد لغة التعليم والمعاملات بالأجنبية، مما أضاع فرصا على هذه المناطق، كما أنها حالت دون تطبيق مقتضيات ميثاق التربية والتكوين المتعلقة بسياسة اللغات الأجنبية، بما في ذلك كبح انتشار الإنجليزية، في نفي صارخ لمبدأ التعدد اللغوي الذي تتغنى به. ومن مظاهر وصاية الدولة اللغوية على المواطن، عدم تطبيقها لقانون أكاديمية اللغة العربية، وعدم تطبيقها لمقتضيات ميثاق التربية والتكوين المتعلقة بتعددية التعليم التأهيلي والتعليم العالي، الخ. يؤكد استخفاف الدولة باختيارات المواطنين ومشاعرهم آخر تصريح لوزير الأصالة والمعاصرة في التعليم في مجلس المستشارين جوابا على سؤال السيد الرماش أن تجميد أكاديمية اللغة العربية يخدم الوطن والمنظومة التربوية، وأن العربية لا توجد محتوى في إنترنيت إلا بنسبة 0.1 % (كذا !)! لقد أضرت الدولة والحكومة فعلا باللغة العربية حين امتنعت عن تطبيق القانون المنظم لأكاديميتها، الذي تم إنجازه في سنة 1999، قبل نص الميثاق. وتم تعطيل صدور نص القانون أربع سنوات، ثم الامتناع عن تطبيقه ثماني سنوات أخرى، أي 12 سنة في المجموع. وفي مقابل هذا، لجأت الدولة إلى إصدار ظهير إنشاء المعهد الملكي للأمازيغية، وفعلته على الفور. وكنت أنوي أن من مهام وزير التعليم الأولى أن يعمل على التأهيل اللغوي والبيداغوجي والبحثي للغات التدريس، وخاصة الوطنية، وأن يُفَعِّل قانون الأكاديمية. فمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب الذي نشأ سنة 1960 بأطر أغلبها متوسطة، وأغلبها معاد للعربية وللعمل، وإن بأقلية شريفة وملتزمة، وبميزانية سنوية تراوحت في أوجها بين مليون ومليوني درهم، ليس مؤهلا للنهوض المناسب باللغة العربية. ومن هنا فشل التعريب المتسرع للدولة، دون تهييئ أو تخطيط، بل ربما كان مخططا لإفشاله، ومازال. فخطاب الوزير يترجم بالواضح الحيف اللاحق بالعربية، والمتمثل في ضرب أي مشروع للنهوض بأوضاعها في المستوى المطلوب، ضدا على الديمقراطية اللغوية المأمولة. 4. المزوغة والأمازيغية هناك تصورات متعددة للمزوغة أو العروبة، مثلما هناك تصورات للدين أو الأسلمة، وتصورات لعلاقة اللغة بالثقافة، والعرقية أو الإثنية أو القومية، الخ. وما يمكن أن يذكر هنا في باب ما هو متداول هو أن المأمول هو أن يتعلق الأمر بمزوغة ثقافية ولغوية، ديمقراطية ووطنية، تتفاعل مع مختلف مكونات الهوية الثقافية واللغوية الأخرى، من عروبية وأندلسية وإفريقية، الخ. وما لا نتمناه، وسَيُفَوِّت علينا فرصة الديمقراطية والتعددية، هو أن المزوغة أصولية عرقية تفكيكية، تهدف إلى تفكيك وحدة الوطن، والنيل من رموزه الوطنية الذين طبعوا التعايش الوطني السلمي، وأفرزوا تنوعا غنيا في تملك العروبة أو المزوغة وتنوعا في تحديد هويتهم الفردية أو الجماعية، ورفضوا بالواضح أن تفرض عليهم هوية عرقية أصولية، أذكر من بينهم الأساتذة المختار السوسي وعابد الجابري، رحمهما الله، وادريس السغروشني وأحمد المعتصم، و غيرهم كثير من الأساتذة والشخصيات والغيورين، لن أستطيع ذكر بعض منهم دون بعض. والمهم أن الأغلبية لا يجدون أنفسهم إلا في هوية مغربية، أو عربية مغربية، ومنهم من يتبنى هوية مركبة، الخ. وقد تعاطى البعض مع هؤلاء المغاربة واختياراتهم الهوياتية بلاتاريخية وعرقية غير مقبولتين، لأن هناك كثيرا من سوء الفهم الذي هو بحاجة إلى توضيح، حتى لا تنتج عنه سلوكات ابتزازية نعرية وفاشية، دأبت بعض الجمعيات على ترسيخها، تتنافى جوهريا مع الديمقراطية الثقافية واللغوية والسياسية التي نتطلع إليها جميعا. ويمثل نداء «تيموزغا» (الذي نأسف أن يحمل توقيع عدد من أعضاء المعهد الأمازيغي القدامى، بمن فيهم عميده السابق)، مثالا صارخا لنوع المزوغة التي لا يرغب فيها المغاربة. لقد استفادت المزوغة من المأسسة اللغوية والثقافية للدولة حتى تؤهل اللغة والثقافة في المستوى المطلوب، وقد حصل هذا بالفعل، في مجالات عدة بينها الكتابة، والكتاب المدرسي، والإعلام، وعدد من المجالات الثقافية. إلا أن إدماج المزوغة في هوية مركبة مغربية، حسب مبادئ تعددية وديمقراطية مازال غامضا في برنامج المعهد، ويحتاج إلى كثير من التوضيح والتدقيق، لئلا يؤول الوضع إلى صراعات (بل وحروب) طائشة تذكيها هويات غَلْقية (انغلاقية) ستجعل المغرب المعتد بتعدديته لا يجني منها الثمار المغنية، بل الصراعات المُفْقِرة. وإذا كنا متطلعين إلى تبني مبادئ التعددية الثقافية واللغوية والسياسية، فإن هذا لا يمكن أن يقوم بدون نشر مبادئ التعايش والتقبل والتعاون، والحرية في اختيار الهوية اللغوية والثقافية الفردية والجماعية، دون أن تكون الهوية مفروضة مُبْتَزَّة. 5. الوطنية، الترسيم، الحاجات اللغوية، والحقوق هناك حاجات لغوية تعمل الدولة أو الحكومة على تلبيتها إسعافا للمواطن أحيانا، واحتراما لحقوقه أحيانا، المتولدة عن حقوق الإنسان عموما، والحقوق اللغوية والثقافية التي تنص عليها بعض المواثيق الدولية. وفي هذا الإطار، يجب التنبيه إلى الخلط (المتعمد أو غير المتعمد) في الأدبيات بين هذه الحقوق والحق في وضع تشريعي معين للغة ما. فليس هناك نظرية معيارية أو ناموسية (normative) تربط بين هذا الضرب من الحقوق ونوعية الوضع التشريعي للغة التي تتكلم بها الجماعات المنضوية في الوطن. لقد نبه الأستاذ النقيب بنعمرو إلى هذا الأمر، وأؤكد هنا ما تذهب إليه الأبحاث السياسية المهتمة المختصة في التشريعات اللغوية. يقول Kymlicka وPattern في هذا الصدد: « لا تقر أي من المواثيق الدولية الحالية أن هناك حقا في وضع اللغة الرسمية، بل إنها لا تحث على ذلك». ونفس الشيء يصدق على أوضاع اللغة التشريعية الأخرى، مثل الوطنية، أو الجهوية، أو غيرها. يدحض هذا الكلام شيئين في النقاش اللغوي الدائر: (أ) ليس هناك قوانين أو مواثيق دولية تضطرنا أو تحثنا على جعل الأمازيغية لغة رسمية، خلافا لما قيل، ولا يدخل هذا في مجال الحقوق اللغوية. (ب) إن وَطْنَنَة الأمازيغية في الدستور (أي جعلها لغة وطنية) ليس عديم الجدوى، كما ادعى البعض، لأنه يكسبها شرعية دستورية، رمزية ونفعية. عنصر آخر في إثراء النقاش يتعلق بوضع الرسمية. هناك رسمية للغة تتم بالتنصيص عليها في الدستور (رسمية تشريعية)، وهناك رسمية تمارسها الدولة والمجتمع على أرض الواقع (رسمية فعلية)، دون أن ينص عليها في الدستور (كما الحال في الولاياتالمتحدة واليابان وبريطانيا، الخ). ولا ينص الدستور الفرنسي على أن اللغة الفرنسية رسمية، بل هي لغة الجمهورية، الخ. ومما يزيد الأمر خلطا هو أن بعض البلدان لا تنص على الرسمية، وإنما الوطنية، وتنزلها منزلة اللغة الرسمية، مثلما نجد ذلك في الصين، أو إيرلندا، أو اسكوتلاندا، الخ. والنقاش الأفيد في هذا الجانب هو الذي ينحصر في الدول التي يتضمن دستورها التنصيص على الفرق بين اللغة الرسمية واللغة الوطنية. فالدول الإفريقية مثلا تفرق بين الرسمية والوطنية حين تكون الأولى أجنبية، وترسيمها نفعي براغماتي، لتكون لغة الإدارة والعمل في مؤسسات الدولة. فالسينغال، مثلا، يدستر الوولف (wolof) وطنية والفرنسية رسمية. فالوطنية تفيد أن اللغة لها انتماء إلى أرض، ولها امتداد على التراب كله، عوض أن تكون جهوية أو محلية، في حين أن الرسمية مرتبطة بالنفعية والوظيفية، ولا علاقة لها مبدئيا بالوطن. فالعربية في لبنان وطنية ورسمية، والفرنسية والإنجليزية رسميتان فقط. فما تطالب به الحركة المزوغية يلبيها وضع الوطننة أكثر من وضع الرسممة، لأن الوطننة لها رمزية أعلى من الرسمية وحدها. فلماذا إذن هذا الإلحاح على الرسمية؟ تقول الحركات والمعهد أن وضع الوطنية سيمنعها من الدعم والحماية القانونية الضرورية للنهوض بها، وهذا غير صحيح. أولا، إن وضع الرسمية التشريعي لا ينتقل باللغة إلى الدعم بالضرورة. فاللغة العربية لم تحظ بالمؤسسة العصرية المؤهلة لها، حيث جمدت أكاديميتها رغم أنها رسمية، وهناك قانون لها. وحظيت الأمازيغية بمأسسة نفذت على الفور بظهير. وإذا ما دسترت وطنيتها، فإن أي حكومة قادمة ستدعمها طبقا لروح الدستور، ولديباجته. اعتراضي على ترسيم الأمازيغية إلى جانب وطننتها راجع لاعتبارات كثيرة. أولها أنها ستضع الأمازيغية في وضع يصبح معه ممكنا أن يطالب متكلموها باستعمالها في جميع المرافق العمومية، بما فيها مؤسسات التعليم، بتمزيغ أفقي وعمودي إجباري. فبعدما عانى الناس من تعريب عشوائي معمم بعربية، سبق وأن مارست كل وظائف الإدارة والمدرسة عبر قرون، يفرض عليهم تمزيغا معمما بلغة ليست مؤهلة لهذه الأدوار، لغويا وموسوعيا، وسياسيا، الخ. توحيد اللغة، مثلا، أمر سياسي، ويجب أن يستفتى فيه الشعب حتى يصادق عليه، أو على صيغته. واختيار حرف تفناغ لكتابتها سياسي وتعليمي، له انعكاسات على تركيبة المنظومة اللغوية التي نريدها، واختيار التنوع في إطار الوحدة، والكلفة التعليمية، الخ. اختيار الوطننة نفسه مازال يحتاج إلى بيداغوجية لشرحه للناس بما يكفي، لأن كثيرا ممن يتكلمون باللهجات الأمازيغية يختلفون بشأن هذا الاختيار، الخ. إقامة هندسة للهوية المركبة للغات تحتاج إلى أن يشتغل عليها مجلس أعلى للغات ، لتحديد التوازنات العادلة، وإطلاق مبادرة تواصلية، الخ. ترسيم الأمازيغية سينقلنا إلى رسمية ثلاثية، برسمية ثنائية وطنية، ورسمية الأجنبية الفعلية، وهذا سيساهم في تكريس التبعية اللغوية، نظرا إلى الصراعات المرتقبة بين الثنائية الرسمية للغات الهوية. والمهم في كل هذا، ومهما كانت الحسابات السياسية أو السياسوية لأصحاب القرار، فإن ما نتشبث به هو ديمقراطية لغوية شعبية، عادلة ووطنية، تتنافى والتطرف بجميع أشكاله، أو وصاية الحكام على مواطنيهم. وإنني لأستغرب أن يذكر المدافعون عن الأمازيغية في بياناتهم مشروعية حركة 20 فبراير، مع أنها حركة تتطلع إلى ديمقراطية تحكمها سيادة الشعب. فهذا يقتضي الاستفتاء الشعبي في الأمور اللغوية. وإني لأحث كافة الأحزاب في هذا النقاش أن تنصت إلى الأصوات (أصوات الرأي) voices، بدل الأصوات votes (الأصوات الانتخابية). ومن المهم في هذا النقاش استشراف إمكانات للتدبير والحكامة تتراوح بين تدبير بدور أدنى للدولة (بنوع من الليبرالية اللغوية)، يستلهم من النموذج الأنجلوساكسوني، إلى نموذج تلعب فيه الدولة دورا حاسما، بنوع من الجاكوبينية، على طريقة فرنسا. وهناك نماذج وسيطة بدرجات متفاوتة (النموذج الاسكندنافي مثلا). وقد تكون الحكومة مركزية (أو فدرالية)، وقد تكون جهوية أو محلية (على غرار ما يحدث في أمريكا). ويلعب المجتمع المدني والجمعيات المدنية دورا في حماية لغتها والمساعدة في تأهيلها وتدبيرها (كما في حال الجمعيات اللغوية الحمائية)، وكذلك النخب ببياناتها ومواقفها (مثل البيان الصادر عن علماء المغرب ومثقفيه في 23 ماي 1970، المطالب بوضع اعتباري للغة العربية، والذي وقعه 493 شخصية، يصعب ذكر الواحدة دون الأخرى، وتجد فيه أبرز أطر البلاد من الاستقلال إلى الآن، بمن فيهم رؤساء الأحزاب الوطنية، ورئيس لجنة مراجعة الدستور، الخ. (انظر عالم التربية رقم 4، 1996). وتلعب المؤسسات اللغوية الحكومية (مثل الأكاديميات) دور التخطيط والنهوض باللغة. وهناك حضور عنصر اللغة في المجتمع والتواصل والتداول. فاللغة العربية مثلا (بفصيحها وعاميِِّها) هي لغة التداول والتواصل لجل المغاربة في الفضائيات والصحف ومجالات كثيرة، خلافا لما يدعيه أعداؤها. وعلى كل، نحتاج إلى إحصاءات رسمية موضوعية بشأن اللغات، لندبير أرقام الأغلبيات والأقليات. هناك حاجات لغوية كثيرة للمواطنين، وكذلك خدمات على الدولة أن توفرها له، تدخل في تحديد السياسة والتدبير اللغويين. ففي الحاجات، هناك الحاجة إلى التعليم بلغة معينة وطنية أو محلية أو كونية، والحاجة التواصلية، والحاجة التداولية، والحاجة النفعية العملية، الخ. وتختلف الخدمات بكونها تتجه إلى الشخص مباشرة (شخصية)، أو تتوفر على مستوى جزء معين من التراب (ترابية)، أو على كل التراب الوطني (وطنية)، أو تجمع بين الفردي والترابي (عبر إقرار خدمة معيارية بلغة معينة وتوفير خدمة فردية أو جماعية تحت الطلب، الخ). فيمكن أن توفر مثلا الحاجات إلى الأمازيغية في المحاكم بتوفير مترجمين لمن لا يعرف العربية (بفصيحها أو عاميتها)، وهم أقلية ضئيلة. وهناك أشياء تتراوح بين أن تكون حكومية، أو غير حكومية خاصة (الفضائيات والصحف مثلا)، ووسائل الرقمنة، وفرض الشغل والمال والاقتصاد باللغة، الخ. ويمكن أن تتدخل الدولة بالدعم المادي أو غيره حسب فلسفتها، وحسب متطلبات السوق، الخ. أقصد بهذا أن مشكل اللغة معقد، وأن تدخل الدولة المفرط فيه قد يخل بدينامية وتوازنات تعوق اللغة، أو تخلق اختلالات جديدة، كما حصل في التعليم. وعليه، فقد آن الأوان أن تعتمد الدولة سياسة إقامة مؤسسات لغوية تؤهل اللغات، ومجلس أعلى لضبط التوازنات بينها، وتترك الباقي لحركية المجتمع، وللتنافسية الطبيعية بين اللغات المبنية على الحاجات. ولا بد من التنبيه إلى أن المساواة بين المواطنين في الحقوق اللغوية لا تعني بالضرورة المساواة بين اللغات، لأن اللغات، كما يعلم الجميع، تلبي حاجات مختلفة، قد تنقص أو تزيد، مما يؤثر سلبا أو إيجابا عليها وعلى بقائها. وقد تتاح أو لا تتاح لها فرص حضارية تاريخية، مما يجعلها غير متساوية، بكل تأكيد. وهي غير متساوية في قدرتها التراكمية أو البينية، بكل تأكيد. فالإيرلندية، مثلا، لا تستطيع أن تمتد إلى رقعة أكبر من رقعتها، مقارنة مع الإنجليزية، أو تكون لغة دول تشترك في هذه اللغة، كما هو شأن الفرنسية أو العربية. والأمازيغية مبيأة في المغرب العربي وبقاع أخرى في إفريقيا، وبذلك تكون أكثر حظا من الإيرلندية، إلا أن قدرتها التراكمية على مستوى الدول والمؤسسات الإقليمية أو الدولية عديمة، الخ. وعلى كل، فإن الدولة والحكومة المنتخبة والشعب لهم أن يراعوا حسابات الاندماج اللغوي الإقليمي والدولي في مقاييس التدبير، ولهم أن يُكَوِّنوا مختصين في ضروب من العلوم اللسانية، بما في ذلك علم التشريع اللغوي (forensic linguistics)، وعلم الاقتصاد اللغوي، وعلم السياسة اللغوي (politics of language)، ويا ما نادينا منذ 1980 بإنشاء شعب مختصة في علوم اللسانيات المختلفة في الجامعات. * رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب