مجرد سؤال، من له المصلحة في تحريك و حفز النقاش حول الدارجة في التعليم وإشغال الناس به جدير بنا –بدءا- أن نطرح التساؤل البديهي الذي يثار بمجرد ما نفكر في هذا الموضوع ونستحضر السياق الذي دعى إليه وتداعياته على الحياة الثقافية والسياسية والعامة في مغرب اليوم ، السؤال هو : من هي الجهة التي لها المصلحة في إثارة هذا النقاش، وإقحام النخبة المغربية والبلد برمته في أتون هذا الصراع حول قضية شبه محسومة دستوريا وثقافيا، هل هو نزوع لحسم سياسي نخبوي وسلطوي لقضية تحظى بالإجماع الوطني، أم أن القضية لها صلة برهانات أكبر لقوى ونخب وتحالفات يمكن توصيفها بالرهانات الثقافية لما يمكن نعته بحزب فرنسا الكامن في ثنايا الدولة والمتدثر في بؤر حساسة داخل المجتمع، وهي لا زالت تقاوم للإبقاء على قدرتها الاحتكارية لقطاعات المال والأعمال والاقتصاد والثقافة وتريد مصادرتها لصالحها، جملة هذه الأسئلة سنحاول أن نعالج بعضها ونثيرها للتداول والنقاش العام بغية الإسهام في تخصيب النقاش الدائر حول الموضوع والمطارحات التي تفجرت بشكل مفاجئ داخل الساحة العمومية واستأثرت بالرأي العام بلا مقدمات،الكلام هنا يتوجه صوب الفاعلين الأصليين والموجودين في خلفية الصورة، ولا يلتفت إلى أصحاب الإثارة الظاهرة والمتصدرين للمشهد، تقديم عام جدا، ليس صحيحاً أن الدعوة الفرنكوفونية ونزعة الفرنسة في المغرب تعيش لحظة انكسار وأفول، أو هي وهنت وانتكست، وأن أصحابها وحوارييها وضعوا أسلحتهم واستسلموا في الحرب الثقافية الدائرة حول اللسان والعمران والوجدان والإنسان والبنيان، وحول نمط العيش والعلاقات والتقديرات والأفكار والمؤسسات والسلطة والثروة والمعرفة وغيرها، وليس صحيحا أيضا أن تلك النزعة والدعوة هي نبتة طارئة، أو هي مجرد لحظة عابرة وليدة حقبة التعريب في المغرب المعاصر المتشكل غداة حقبة الاستقلال السياسي، أو امتداداتها في دول المغرب العربي الكبير استطرادا، ولا هي مجرد تعبير عن حالة من الفزع النخبوي المعزول ولا الخوف المركب أوالهلع الغريزي الذي يتهدد السلطة الفعلية والرمزية للنخب الوريثة للاستقلال السياسي في تلك المجتعات والدول، وبالضبط خشية النخب المغربة والقائدة في تلك الأوطان من رؤية الميراث الرمزي الثقافي و رديفه اللغوي الفرنسي وهو منكس الأعلام، مرمياً على قارعة الطريق وملقى به مهمشا، بل ومتروكا للإهمال والتجاوز من قبل النخب الجديدة التي تسلمت دفة تدبير الأمور وإدارة الشأن العام، خصوصا بعد مصالحة المجتمع مع مراجعه الثقافية و نسقه الحضاري الأصيل، المعركة الدائرة حول لغة التدريس، حضارية شاملة في طبيعتها إن أمام أبناء هذا البلد الحبيب الأصلاء و القوى الوطنية في هذه المنطقة الممتدة مغاربيا، مهمة غاية في التعقيد والمصيرية تتعلق بأولوية التصدي لمعركة حضارية شاملة تستهدف الكيان والوجدان والعمران من خلال استهداف البنيان الثقافي واللسان،، النهو في محاولة منها لاستكمال المهام التاريخية للحركة الوطنية في التحرير والاستقلال والبناء الوطني، وهي مسؤولة بشكل أكيد عن التصدي لمهمة حاسمة واستحقاق مصيري ذو صلة بمستقبل أبنائها وأجيالها القادمة في العيش الكريم والكرامة الإنسانية والأهلية لأن يكون لنا كأمة مكان تحت الشمس في هذا العالم، ويتعلق الأمر باستعادة لسانهم المغتصب ومرجعهم الثقافي المصادر في تدبير الحياة العامة تعليما وإدارة وبحثا وتوجيها عقب الغزوة الاستعمارية التي استهدفت كياننا الحضاري مطلع القرن المنقضي، وإن كانت لتلك الغزوة نصيب من الصحة ليس ينكر في الاستعمار الاقتصادي والسياسي،فإن لها أيضا أثر غائر على المستويات الثقافية والحضارية والاجتماعية الشيء الذي استباح كياننا الجماعي للغزاة فيما يمكن أن تسميته بالقابلية للاستعمار كحالة ثقافية اجتماعية تستدعي الاستعمار الشامل على تحليل المفكر الألمعي مالك بن نبي رحمة الله عليه . بل الأولى بنا التصريح بالقول إن وطأة تلك الدعوة وسطوة تلك النزعة الشاملة الجانحة للتفرنس قد اشتدت في حقبة التعريب هذه المنبثقة عن مرحلة التحرر الوطني والاستقلال السياسي، وفي امتداد الحقائق الثقافية التي أطلقتها على صعيد الاجتماع السياسي الوطني برمته، والمتعلق أساسا بتوجيه الحياة العامة في مستوياتها الثقافية والاجتماعية والإدارية والتعليمية والسياسية والإنتاجية وغيرها. أما الحري بالعناية والتسجيل في هذا الباب –في خضم النقاش المحتدم والجاري حول التلهيج ومسخ اللسان العربي المبين من طرق قلة مغربة متنفذة- فهو أن الفكرة الفرنكوفونية ونزعة التفرنس والإلحاق والتبعية الثقافية تلك قديمة قدم المشروع الاستعماري الفرنسي في بلادنا وهي محايثة له ومتزامنة معه تكتنفه وتتلبس به، بمثل ما هي باقية وستبقى ما بقي في جعبة فرنسا –الدولة والكيان-بصيص من تطلع إلى مقاربة مصالحها عندنا من خلال الامعان في الإلحاق لا التكافؤ في العلاقة، وهي قطعا تقصد من خلال نهجها ذاك مقاربة عالمنا ووطننا بعين توسعية وسياسة هيمنية وإرادة تدخلية نزاعة للاستمرار في التحكم الثقافي ومن ورائه الاقتصادي ورعاية مصالحها وتأبيد سيطرتها، هي لا ترى في مجتمعاتنا غير تركات وأملاك استعمارية خضعت ذات زمن انقضى ومضى، تقدم لها الجزية الثقافية كضريبة عن حيازة وطننا حقه الإنساني المستحق في التحرر والاستقلال الوطنيين . درس من التاريخ، شيء من الوعي كانت فرنسا –في تاريخ القوى الكبرى لحظتها- في طليعة جملة الدول الغربية التي خاضت تجربة الاستعمار امتدادا لأوطاننا وتحقيقا لأوفاق استعمارية واستيطانية، وذلك في نهاية القرن الثامن عشر، بعيد ثورتها الكبرى في العام 1789 . ومن سوء الصدف ان تكون أرض الكنانة (مصر) أولى استهدافاتها بعد جوارها الأوروبي الذي خر مستسلماً بحراب نابوليون بونابرت في غزوته على القاهرة . لكن انقلاب أحوال غلبتها في أوروبا عليها أعاد جيشها إلى موطنه، حتى وإن لم يمنعه من التطاول على مواطن الآخرين وأوطانهم . ولم تكن هي إلا عقود ثلاثة عن خروجها من مصر، حتى زحفت قواتها إلى الجزائر مخرجة إياها من إطار السلطنة العثمانية، ومجربة إخراجها من إطارها الحضاري والثقافي العربي الإسلامي الأشمل والأوثق. وحتى قبل أن تستكمل فصول عملية إطباقها الكامل على بلدان المغرب الكبير باحتلالها تونس في مطالع عقد الثمانينات من القرن التاسع عشر واحتلالها المغرب الأقصى في مطالع العقد الثاني من القرن العشرين كانت صريحة في الجهر بطبيعة استعمارها وتميزه عن سائر أشكال الاستعمار الأخرى التي جايلته، وأخصها بالذكر الاستعمار البريطاني. تفرد نمط التحكم الفرنسي، وطبيعته الخاصة في المغرب فرنسا لم تكتفي بالتحكم المباشر فقط، وما كانت تكتفي من مستعمراتها كأهداف ومرامي بما يطلبه منها سائر ملل الاستعمار ونحله: نهب الثروة، وجلب العمالة الرخيصة، وتأمين السوق للسلع الرأسمالية، وتوفير مواطئ قدم للجيوش البرية والبحرية، وقاعدة بشرية تستخدم لأداء السخرة العسكرية في جيش المحتل، بل هي كانت تطلب أكثر من ذلك بكثير: إنجاز جراحة ثقافية ولغوية تستتبع المستعمر للمستعمر، وتأتي بمعاول الهدم على استقلال شخصيته وكيانه، فتدفعه إلى اقتداء الغالب والإذناب له، والتماهي معه من طرف المغلوب ، هكذا هي حكمة ابن خلدون قالت، وفقدان القدرة على وعيه لذاته إلا في علاقته الإنجذابية به، بل هي فعلت ذلك الإلحاق والإتباع بنجاح عزيز الأشباه وناذر النظائر في إفريقيا السوداء كلها، مستثمرة بناها القبلية والاجتماعية الانقسامية المفتتة، وغياب عوامل التوحيد الثقافي واللساني في الأغلب الأعم من مجتمعاتها، ثم جربت تكرار ذلك النجاح في الجزائر ابتداء ثم في سائر بلاد المغرب العربي الكبير تالياً. ولعل فرنسا بهذا الخيار: خيار الاستعمار الثقافي كانت أحد ذكاء من سائر الدول الاستعمارية التي شغلتها شهية النهب الاقتصادي المباشر للمقدرات والخيرات عن السعي إلى إحراز أهداف أخرى بعيدة المدى، عظيمة العائد عليها. كانت تدرك على نحو أكيد أن حقبة الاحتلال الاستعماري حقبة انتقالية في تاريخ البشرية، وأن جيوش الغزاة لا بد منكفئة يوما ما إلى حدودها الأصلية بعد أن تحقق مقاومة الشعوب المستعمرة وحركات التحرر فيها القدر الضروري من التراكم النضالي الذي به تجبرها على ذلك الانكفاء، إن لم نقل الهزيمة في معركة التحرر السياسي. لذلك انصرفت بعناية إلى العمل على توفير شروط ديمومة سيطرتها في المستعمرات حتى بعد اضطرارها إلى الجلاء عنها، وأفرغت جهدها الجهيد للاستيلاء على العقل واللسان والوجدان استدرارا لصلة اتباع يرتبط بها المغلوب بالغالب رباط زواج عصي على الفهم، ولقد كان ذلك في أساس عناية السياسة الاستعمارية الفرنسية بما من شأنه أن ينتج الشروخ والفواصل العميقة في النسيج الاجتماعي والوطني لمستعمراتها، وعنايتها بنظام التعليم أساسا في تلك المستعمرات ما بعد استقلالاتها. العبقرية المغربية في صد العدوان على الثقافة الوطنية الموحدة ولعله من حسن حظ المغرب، وتاريخه، ومستقبله، أن الحركة الوطنية وعت مبكرا هذه الإستراتيجية الفرنسية مبكرا، وقدمت ردا وطنيا حاسما عليها من خلال فتحها المعركة ضد "الظهير البربري" الذي سعى إلى شق الوحدة الوطنية والكيان من خلال محاولة التفرقة بين العرب والبربر في النظام العدلي كما من خلال إنشائها المدارس الحرة الوطنية للدفاع عن اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية في وجه محاولات الفرنسة اللغوية والثقافية في النظام المدرسي الفرنسي المفروض على أبناء المغاربة. يمكن القول أن فرنسا نجحت بهذا الخيار الثقافي الاستعماري في مسخ الشخصية الثقافية واللغوية لعديد من المجتمعات الإفريقية التي استعمرتها. ويكاد لا يوجد اليوم مجتمع إفريقي باستثناء أقطار المغرب العربي لا تمثل اللغة الفرنسية لغته "الوطنية" والرسمية الجامعة بالتفرد . ومع أن فرنسا فشلت في أن تئد اللغة العربية وتدمرها كلغة أم وطنية ورسمية للمغرب، أو تخرجها من ميدان بناء الهوية الوطنية وإدارة الحياة العمومية التعليمية والإنتاجية في بلدان المغرب الكبير، كما فعلت بنجاح في سائر مستعمراتها الافريقية التقليدية، إلا أنه سيكون من باب المكابرة الوطنية الجوفاء الإدعاء بأنها لم تحرز نجاحات هائلة في مجال تحقيق هدف الإغتصاب الثقافي واللغوي في بلداننا، والشواهد على ذلك اليوم وافرة : يكفي أن لسان فرنسا ما زال، حتى الآن، لسان الإدارة في هذه البلدان، ولسان التعليم فيها من الطفولة حتى الكهولة، والرأسمال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعي وسبيا للترقي في سلم المهام والمواقع التدبيرية والإدارية وتحصينها دون غيرهم من النخب الصاعدة والبديلة والفئات الشعبية النابعة من رحم أصالة المجتمع، عمق المعركة وامتداداتها الشاملة وتلك لعمري هي المعركة الحقيقية في عمقها، والتي يريد أصحاب الزيف الثقافي والسياسي المتاجرون أن يلهوننا عنها بشن الهجوم هذه المرة على اللغة العربية واتهامها بالقصور، وإدارة معركة سخيفة حول تلهيج التعليم وإقحام العامية الدارجة في التعليم بغية نسفه وتدميره والانتصار لنزعتهم الدفينة، بل والمعلنة في إعادة أمجاد الاستعماريين القدامى التي فشلوا فيها والتي تكرس اللغة والثقافة الفرنسية كلغة وثقافة للتفوق الطبقي والسيطرة النخبوية . يمكن التأكيد أن حزب فرنسا خسر جولة، لكنه لم ينهزم بعد في المعركة، فهي جولات ومستويات، ساحتها التعليم والإدارة والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية والعلاقات الإنتاجية والفنية والثقافية وغيرها، هي معركة للاستقلال الثقافي والحضاري الشامل والفعلي ، فلنحذ،