أن يحلم عدد كثير من المسلمين بإقامة دولة «إسلامية»، إنّما يعني بالأساس أنّ القهر والفاقة الاجتماعية وآفة الجهل هم الأكثر انتشارا في مختلف بقاع الرقعة العربية والإسلامية. أكيد أنّه شيء طبيعي أن يحلم الإنسان، أيّ إنسان بالحرية إن كان يعيش في القهر، أن يحلم بدولة عادلة إن كان يصبح ويمسي على الظلم والجور، أن يحلم بمجتمع يحفظ له كرامته إن كانت هذه الكرامة تُداس يوميا أمام عينيه. والحال هذه، وبما أنّ «الإسلام» لا زال يمثّل في مخيّلة النّاس ولاوعيهم رمزا للعدل والمساواة والحرية، فمن الطبيعي إذن أن يتشبثوا بهذه «الطوبى» التي تبقّت لهم، بهذا الحلم المستعصي عن التطبيق. أتحدّث هنا عن تصوّرات الناس العاديين، وليس عن دعاة ووعاظ وإيديولوجيي آخر زمان الإسلام السياسي. وإذا كان هؤلاء الدعاة ومن على شاكلتهم، يدّعون أنّ الدولة الإسلامية ربطت موضوعيا بين السلطة والشورى والعدالة، وأنّ النبي وضع لها دستورا يكفل التّعدد والتنوع، وأنّ الخلافة «الراشدة» أعدل الأنظمة السياسية على وجه الأرض، فإنّي لا أرى مثل هذا الكلام إلاّ علامة جهل فظيع بوقائع التاريخ، وعمى فكري لا مثيل له. وهنا أسوق ملاحظتين : كلّ من أراد من دعاة الإسلام السياسي، الخفيف منه والثقيل، أن يثبت لنا أن الدولة الإسلامية كلّها عدل ومساواة وحقوق يحاججنا بمسألة «الشورى». غير أنّه لا يشرح لنا المفهوم. ما هي الشورى تحديدا؟ ما آلياتها؟ هل حدث حقا أن كانت أمرا فعليا؟ لا جواب، أو لنقل أجوبة فضفاضة تقول كلّ شيء، ولا تقول أيّ شيء. يقولون أنّ «أهل الحل والعقد» هم رجالها، ولكن من هم هؤلاء بالتحديد، بل ومن نصّبهم على رؤوس عامة المسلمين ليحلّوا ويعقدوا؟ وإن كان هذا المفهوم فعلا حقيقة واقعة، فليذكروا لنا من بين مجموع الخلفاء والملوك والسلاطين الذين تعاقبوا على الحكم اسم خليفة واحد كان يلجأ لمجلس أو هيئة ما قبل أن يتخذّ قراره. أبدا، ما كان يحكم السلوك السياسي لرجال السلطة في تاريخ الإسلام هو القوة وليس الحق، هو العصبية القبلية وليس الدين، هو الشوكة وليس مكارم الأخلاق. ومن لم يقتنع بهذه العبارات فليعد لما كتبه ابن خلدون في «مقدّمته»، بل وما دوّنه مؤرّخو التاريخ الإسلامي وإخبارييه. أمّا عن كون النبي وضع دستورا يكفل التعدّد والتنوع، فهذا كلام لا يمكن أن ينطق به من له إلمام، ولو كان متواضعا، بظروف وملابسات الدعوة النبوية. نعلم أنّ النبي محمد نزل عليه الوحي، وهو في الأربعين من عمره، وأنّه توفي وهو في سنّ الثالثة والستين. وهذا يعني أنّه قضى ثلاث وعشرين سنة من أجل نشر الدعوة الجديدة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مجموع سنوات الفترة المكية، قبل اضطراره للهجرة إلى المدينة، وقد كانت فترة «نضال» إن جاز استعمال هذه العبارة- من أجل نشر الرسالة، فالواضح أنّه لم يكن له لا الزمان ولا المكان للتفكير في أمر دولة مفترضة، و تقعيد أجهزتها وآلياتها، وبالأحرى أن نتحدّث بشأنها عن «دستور» و عن قبول «التعدّد» و»التنوع»، وربّما «فصل السلطات»، وكأنّنا نتحدّث عن بريطانيا أو سويسرا، وليس عن جزيرة عربية بدوية منذ 15 قرن خلت ! والواقع أنّه من الصعب الحديث عن «دولة إسلامية»، بغضّ النظر عن عدلها أو جورها، ليس فقط في زمن الرسول المشغول بأمور الدعوة الجديدة، ولكن أيضا حتّى في زمن ما يُطلق عليه «الخلافة الراشدة». فالخليفة الأول لم يحكم أكثر من ثلاث سنوات، وكلّها انشغلت بمواجهة تمردّات داخلية، أو ما يُعرف ب»حروب الردة». أمّا الخليفة الثاني فصرف اهتمامه للغزو الخارجي أكثر ما انشغل بتقعيد مفترض لشيء اسمه الدولة الإسلامية، والبقية معروفة مع الخليفتين المتبقيّين، وما ميّز عصرهما من اغتيالات وفتن بين المسلمين أنفسهم. والواقع هو أن الدولة في الإسلام، إنّما بدأت مع معاوية بن أبي سفيان أوّل ملك ? خليفة في التاريخ الإسلامي، وهذا موضوع آخر...