يفصل ذراع بحري صغير وحيد شبه جزيرة كيرتش في اقصى شرق القرم, عن روسيا التي لا ترتبط بها في الوقت الراهن إلا عبر الزوارق. لكن هذا الوضع قد يستمر فترة اطول, لان اقامة جسر ما زال مشروعا ينطوي على مضمون رمزي كبير لهذه المنطقة الروسية بفعل الامر الواقع. وفي مكتبه الانيق الذي يليق برئيس مجلس ادارة شركة كبيرة, ألصقت على احد جدرانه بالكامل تقريبا خريطة ملتقطة بالاقمار الصناعية تظهر فيها مدينته وجزء من روسيا المترامية, يقول عمدة كيرتش في مقابلة مع وكالة فرانس برس, انه يؤمن ايمانا عميقا بجدوى بناء هذا الجسر. ويؤكد اوليغ اوسادتشي الذي انتخب للمرة الرابعة على التوالي عمدة لهذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 145 الف نسمة «يشكل الروس 74 % منهم», ان الجسر «الذي سيبلغ طوله 7,5 كلم سينجز خلال اربع الى خمس سنوات». وقد وقع رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف الاثنين مرسوما عهد بموجبه الى شركة روسافتوتور العامة مهمة تنفيذ هذا المشروع الطموح الذي تبلغ تكلفته 480 مليون يورو. وقد توصل الروس والاوكرانيون الى بروتوكول اتفاق قبل ما يفوق الثلاث سنوات, وتدأب موسكو منذ 70 عاما على التذكير بهذا المشروع. وعلى بقايا ما بدأ الجيش الالماني النازي إقامته في نيسان/ابريل ,1943 بني جسر يبلغ طوله 5,4 كلم في هذا المكان صيف 1944. لكن الانزلاقات الجليدية جرفته بعد ستة اشهر, لان المهندسين السوفيات لم يضعوا التصاميم المحكمة. ولم تبصر مشاريع عديدة اخرى عندما كانت روسياواوكرانيا «جمهوريتين شقيقتين» في اطار الاتحاد السوفياتي, النور وبقيت على الورق. لكن اوليغ اوساتشي قال ان «الحكومتين الروسية وجمهورية (القرم التي تتمتع بحكم ذاتي) ابدتا اهتماما شديدا» بالمشروع, ولم يلمح ابدا الى مسؤولي كييف التي تبعد حوالى الف كلم عبر الطريق البري, والذين يبدو في المقابل ان الجسور قطعت معهم بصورة نهائية. إلا ان علم اوكرانيا ما زال مرفوعا الى يمين هذا المسؤول, فيما استبدل بعلم روسيا في عدد من المباني الرسمية في القرم. والامر الاكيد هو ان كثيرا من المياه ستجري تحت الجسور قبل ان ينتقل حلم اوليغ اوساتشي الى ارض الواقع ... ويوافق العمدة ضمنا على هذا الامر عندما يقول ان المشروع ما زال في مرحلة «درس مجمل الامكانيات التقنية» التي ستنجز قبل نوفمبر. وقال سيرغي دجتيابنكو مدير مصنع بروليف المتخصص في تعليب المنتجات البحرية التي يفرد 20% منها للتصدير وخصوصا الى روسيا, «لم تبدأ في الواقع اي اعمال» في الموقع الذي اختاره المهندسون شمال كيرتش. واذ لم يسهب في الحديث عن النتائج الاقتصادية المأمولة ومسألة التمويل, تلمع عينا اوليغ اوسادتشي عندما يقدم وصفا للسكة الحديد والطرق المخصصة للسيارات التي سيؤمنها الجسر. ويتحدث كذلك بحماس عن «المليون شخص» الذين سيسلكون الجسر سنويا كما يقول, في مقابل 400 الف يقومون في الوقت الراهن بالرحلة من مرفأ كريمسك الى مرفأ كافكاز في روسيا. لكن عدد الذين يعبرون المضيق بات يتناقص, كما لاحظ مراسل لوكالة فرانس برس اكد له مواطن اوكراني ان «الناس خائفون» اليوم من الاقدام على المجازفة بسبب التوتر القائم. ولا بد من القول ان انتشار كتيبة من الجنود الروس الذين لا يحملون اشارات تميزهم على مقربة من المضيق, والذين كان يفترض ان ينتشروا على الجانب الاخر من الحدود ليس امرا مطمئنا على الاطلاق. تتار يفرون من القرم إلى لفيف مدينة القومية الأوكرانية - هربا من ازمة جمهورية القرم وبحثا عن الأمان بعيدا عن القوات الروسية, وجدت مجموعة من التتار ملجأ لها في مدينة لفيف الأوكرانية. وتقول والدة ثلاثة أطفال «سأبقى خائفة على أطفالي طوال فترة تواجد القوات الروسية في القرم». وتضيف «هنا أشعر بالأمان». وهي واحدة من 200 شخص من سكان القرم, الذين قبلوا دعوة السلطات في لفيف للقدوم والبقاء في هذا المعقل الأوكراني القومي في غربي البلاد, بالقرب من الحدود مع بولندا. وقد وقعت جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي تحت سيطرة القوات الروسية بحكم الأمر الواقع. كما صوت برلمانها بالإجماع على الانضمام إلى روسيا الأمر الذي يزيد من احتمال انقسام أوكرانيا. ويشكل التتار غالبية سكان القرم الذين يلجأون إلى لفيف. والتتار أقلية مسلمة في القرم طردوا إلى سيبيريا وBسيا الوسطى تحت حكم الزعيم السوفياتي جوزف ستالين في الأربعينات, ولم يعودوا إلا بعد سقوط السوفيات في 1991. وهم يرون في تقدم القوات الروسية في القرم منذ أواخر فبراير الماضي انذارا خطيرا. وفي لفيف, استقبل رئيس المجلس الإقليمي ليترو كولوديي القادمين الجدد. وكان المجلس أنشأ خط اتصال مباشر لأي شخص يريد المجيء إلى المدينة. وقال كولوديي للقادمين الجدد «مثل كل الأوكرانيين, أنتم تواجهون وضعا صعبا أوجده الكرملين. ولفيف تمد يدها لكم». وأضاف «عندما كنت صغيرا, قالت لي جدتي إن لفيف استقبلت أشخاصا من شرقي أوكرانيا خلال المجاعة الكبرى (1932-1933) وشاركتهم في Bخر قطعة رغيف لديها». وتابع «نحاول أن نقدم لأهالي القرم ما نستطيع». وبالإضافة إلى التتار, لجأت عائلات الجنود الأوكرانيين في القرم إلى لفيف. ويرفرف علم للبحرية الأوكرانية فوق مقر البلدية في لفيف في إشارة تضامن مع الجنود الأوكرانيين. وكان أحد ضباط الاحتياط قدم العلم إلى رئيس بلدية المدينة. ومنذ الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش الشهر الماضي, حاصرت القوات الروسية عددا من القواعد العسكرية الأوكرانية في القرم, حيث تندلع بعض المناوشات من وقت إلى Bخر. ونفت موسكو إرسال قواتها إلى المنطقة, فيما تصر على حقها في حماية مواطنيها. وفي رسالة متلفزة, دعا رئيس بلدية لفيف أندريه سادوفي سكان القرم إلى عدم تصديق الدعاية الروسية, بأن موسكو تريد الدفاع عن شعبها في شبه الجزيرة ضد متشددين أوكرانيين غربيين. وقال باللغة الروسية, متوجها إلى الغالبية الناطقة باللغة الروسية في القرم «إني أؤكد لكم أننا نريد تطورا سلميا لأوكرانيا كافة». واوكرانيا منقسمة بين غالبية مؤيدة لموسكو في الشرق وغالبية مؤيدة لأوروبا في الغرب الذي يشمل لفيف والعاصمة كييف. وبدوره, قال عالم علييف ممثل تتار القرم في لفيف إنه متفائل حول مستقبل المنطقة, مشيرا إلى أن رجال التتار يرسلون عائلاتهم بعيدا ليبقوا ويدافعوا عن أرضهم. وأضاف «ستبقى القرم جزءا من أوكرانيا طالما بقي التتار فيها». وحذر علييف من أن التتار سيبدأون حرب ميليشيات ضد القوات الروسية إذا لم يغادر هؤلاء المنطقة. وقال سنرقص رقصات التتار التقليدية والرقصات الأوكرانية التقليدية «فوق بقايا طموحات بوتين ما بعد الامبريالية». لندن قبلة الاثرياء الروس لندن التي تعتبر ملاذا Bمنا للمليارديرات الروس, يمكن ان تخسر الكثير في حال فرض عقوبات دولية على روسيا بسبب الازمة في اوكرانيا, وهو ما يفسر حذر الحكومة البريطانية من فرض مثل تلك العقوبات. وقد هدد الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية على موسكو لتدخلها في اوكرانيا, ولكن وفيما وعدت لندن برد قوي, الا انها مدركة تماما لعواقب ذلك. يقول المحلل جوشوا ريموند من شركة «سيتي اندكس» ان «فرض عقوبات على روسيا يمكن ان يضر بلندن وبالتالي ببريطانيا حيث ان لندن هي القلب النابض للاقتصاد البريطاني». واشار الى ان «كمية هائلة من الاصول الروسية موجودة في بريطانيا» سواء في البنوك أو في بورصة لندن او في العقارات. ولذلك فقد اختار العديد من الاثرياء الروس العاصمة البريطانية وطنا جديدا لهم لدرجة انها اكتسبت لقب «لندنغراد». وقد بلغ الغزو الروسي للعاصمة البريطانية الى درجة ان التلفزيون بث برنامج واقع تحت عنوان «قابل الروس» تظهر فيه نساء خضعن لعمليات تجميل يتحدثن بلهجة سلافية قوية وينفقن اموالهن بسخاء كبير في متاجر ومطاعم لندن. ويبلغ عدد الشركات الروسية المدرجة في بورصة لندن نحو 70 شركة من بينها شركات الطاقة العملاقة «غازبروم» و»روزنيفت» و»لوكاويل», اضافة الى شركة تشغيل الهواتف «ميغافون» وشركة «سبيربانك» اكبر مؤسسة ائتمانية روسية. كما اشترى الروس منازل فاخرة في منطقتي كينسغتون وشيلسي الراقيتين. واشترى رجل الاعمال الروسي رومان ابراموفيتش نادي فريق تشلسي لكرة القدم. ودلت دراسة نشرتها مؤخرا شركة «بيتشكرافت كوربوريشن» للطائرات الخاصة ان الروس انفقوا اكثر من 536 مليون جنيه استرليني (553 مليون يورو, 896 مليون دولار) على شراء 264 منزلا في لندن العام الماضي, اي اكثر من اي اجانب اخرين. وحذر ريموند انه «اذا تم تجميد هذه الارصدة ولم يعد الروس قادرين على شراء العقارات في لندن, ستختفي احدى العوامل الرئيسية لارتفاع اسعار العقارات في لندن, ما يهدد اسعار العقارات في هذه المدينة», وبالتالي الانتعاش الاقتصادي البريطاني الهش. ويعيش بعض الروس المتواجدين في لندن في المنفى بسبب خلافات مع الرئيس فلاديمير بوتين. ولكن غالبيتهم من الراغبين في استثمار ثرواتهم وانفاقها في متاجر كبار مصممي الازياء في شارع بوند وشارع نايتسبريدج. كما أن الروس يسهمون في الاقتصاد البريطاني بدفعهم رسوما مرتفعة للدراسة في عدد من افضل المدارس البريطانية. فقد ذكر مجلس المدارس المستقل ان 2150 طالبا روسيا كانوا يعيشون في مساكن داخلية في مدارس خاصة في بريطانيا العام الماضي ويدفعون رسوما معدلها 27600 جنيه استرليني في العام. واعلنت حكومة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون انها منفتحة على الخيارات الدبلوماسية والاقتصادية بشان معاقبة روسيا على تدخلها في اوكرانيا. الا ان وثيقة تسربت الاسبوع الماضي ذكرت ان الوزراء قلقون بشان المخاطر المحتملة على مصالح لندنالمالية في حال فرضت عقوبات على روسيا. وجاء في الوثيقة التي جرى تصويرها بينما كان يحملها مسؤول متوجه للقاء كاميرون في مقر رئاسة الوزراء ان «على المملكة المتحدة ان لا تدعم فرض اية عقوبات تجارية جديدة (على روسيا) .. أو اغلاق مركز لندنالمالي في وجه الروس». وذكر المحلل في شركة «اي تي اكس كابيتال» ايشاق صديقي ان الحكومة كانت محقة في حذرها. واضاف «يجب عليهم حماية سوق العقارات, فهن يحتاجون لحماية المركز المالي بطريقة او باخرى». وفي حال لم يتم التوصل الى اتفاق بين دول الاتحاد الاوروبي على فرض عقوبات على روسيا, ستتعزز سمعة لندن على انها الملجأ الامن للاموال, وبالتالي فانها ستجني المزيد من المكاسب. واكد صديقي ان «مبالغ طائلة من المال تخرج من روسيا حاليا» مشيرا الى انخفاض قيمة الروبل بسبب الاحداث المتسارعة خلال الايام الماضية. ولا يزال سوق العقارات في لندن مقصدا مفضلا للروس «لان الكثير منهم يعتبرون لندن ثاني اكبر المدن العالمية بعد موسكو», بحسب صديقي الذي توقع استمرار ارتفاع الاسعار. واظهرت دراسة جديدة اجرتها شركة العقارات «نايت فرانك» ان 37% من أثرى أثرياء روسيا أو الجمهوريات السوفياتية السابقة يعتزمون الانتقال من تلك الدول. وما هي وجهتهم المفضلة? بالطبع بريطانيا. (أ ف ب) الاتحاد الأوربي أخطأ عندما لم يشرك روسيا في شراكته تجاه شرق أوربا أندري غراتشيف كما لو أننا نعيش كابوسا، هناك إحساس بأننا نعود الى الماضي الذي كنا نعتقد أننا خرجنا منه الى غير رجعة بعد 25 سنة على نهاية الحرب الباردة، تعيش أوربا أزمة قارية تذكرنا بالاجتياح السوفياتي لأفغانستان. ومع كل التحفظات يطرح سؤال: هل نحن أمام أول اختبار ميداني لعقيدة بوتين الحديثة التي تمكنت من خلافة عقيدة بريجنيف التي أقبرها ميخاييل غورباتشيف بعد سقوط جدار برلين. أوكرانيا، بحكم علاقتها التاريخية الخاصة مع روسيا تستحق معاملة بكثير من الحذر من طرف البيروقراطية الاوربية المكلفة بالتفاوض حول بنود اتفاق الشراكة في إطار الشراكة الشرقية، وإشراك روسيا في تطبيق هذه الشراكة ربما كان أفضل وسيلة لتبديد مخاوفها وفي نفس الوقت إشراكها في تقاسم العبء الضخم الضروري لمساعدة أوكرانيا على الخروج من الأزمة. لكن برفضها المستفز لفكرة إشراك روسيا في التفاوض حول مقتضيات اتفاق الشراكة، تأخذ في الاعتبار مصالحها المشروعة، دون الانشغال بالوسائل المرصودة لتعويضها كأهم مانح مالي لفائدة أوكرانيا، يكون الاتحاد الأوربي قد تعامل بغباء واضح وفرض عمليا على أوكرانيا الاختيار المستحيل: إما اختيار أوربا أو اختيار روسيا. رد فعل روسيا التي رأت في ذلك أهدافا سياسية أكثر منها اقتصادية تتوخى انتزاع أوكرانيا من دائرة نفوذ أروبا، لم يتأخر. في تصور فلاديمير بوتين هذا الثمن الباهظ الذي لا يستطيع الاتحاد الأوربي مجاراته يجد تبريره في حرصه على إدماج وجذب أوكرانيا في مشروعه الطموح: الاتحاد الجمركي الأوربي الأسيوي الذي يضم الدول الكبرى في الجمهوريات السوفياتية السابقة والرامي الى تحويل روسيا الى قطب جيوستراتيجي عالمي. وهذا التحول غير المتوقع للمجتمع الأوكراني الذي يغريه سراب الاتحاد الأوربي، أدى الى رد فعل قوي عاطفي أكثر منه سياسي. ويسهل فهم غضب فلاديمير بوتين عندما ظهر أن مشروعه أقبر تحت أنقاض نظام بانوكوفيتش الذي عصفت به ثورة ميدان كييف الاخيرة، بالرغم من نصائح موسكو لشريكها الأوكراني، سيء الحظ، بالتشدد وعدم التراجع. وبعد استيلاء المعارضة على السلطة في كييف والذي يصفه بوتين ب «الانقلاب» الذي ساندته ترويكا وزراء خارجية الاتحاد الاوربي (ألمانيا، بريطانيا وفرنسا)، خرجت الازمة الاوكرانية، في نظر الكرملين، عن إطار العلاقات الثنائية، لتصل إلى مستوى جيو ستراتيجي، لأنه بالنسبة لموسكو، سقوط نظام فاسد لكنه «صديق» بشكل مفاجىء، أحيى كابوس تقارب الحدود الروسية من الخطوط الأمامية للزحف الاستراتيجي للغرب الذي يعتقد نظام بوتين أنه يستهدفه مباشرة منذ «الثورة البرتغالية» الأولى. أخطر من ذلك، وصول الجناح القومي المتشدد والمعادي لروسيا لقيادة دواليب الدولة في أوكرانيا يمكن، من وجهة النظر هاته، أن يعلن إمكانية تخلي هذا «البلد الشقيق» عن وضع «عدم الانحياز» الذي قبلت به الأنظمة السابقة، وإعادة فتح الطريق أمام تقارب أوكرانيا مع الحلف الأطلسي. وفي هذا السياق، تكتسي قضية القرم بعداً خاصاً. ويمكن أن تفهم موقف بوتين أن يصبح «موقع القدم» الاستراتيجي الوحيد للأسطول الروسي في سيباستوبول، ذات يوم قاعدة بحرية أمريكية، يشكل بسيكولوجيا خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، بل وقد يكون إعلان حرب. وبالنسبة لبوتين، الذي عاش بألم شديد، انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي كان مضطراً لأن يشاهد، وهو عاجز، تطبيق الغرب لاستراتيجية الهيمنة العالمية منذ الحرب في يوغوسلافيا مروراً بالحملات العسكرية في العراق وأفغانستان وليبيا واستعادة هيبة روسيا وقدرتها على مواجهة «التدخل الغربي» على الساحة الدولية قد تغير من مشروع سياسي إلى هوس شخصي. ورؤية هذا المشروع ينهار أمام بيته في وقت يحس أنه تمكن من بلوغه، يعني بالنسبة له تحدياً عليه مواجهته بكل الوسائل. لاسيما وأنه إلى جانب الاعتبارات الجيو استراتيجية، ينضاف عنصر صورته أمام مواطنيه وهو عامل لا يستهان به. فالمس بسمعته كزعيم قوي وفعال قادر على مواجهة مختلف «أعداء» روسيا في الخارج، بعدما ربح رهان «تحرير» وتهدئة القوقاز، قد يضعف موقفه السياسي في مواجهة معارضته الداخلية التي قد تستلهم مثال مظاهرات ميدان كييف المنتصرة. وفي ظل هذه الظروف، كان لابد لرد بوتين، الموجه في نفس الوقت للأعداء الخارجيين والمعارضين في الداخل، أن يكون رداً عنيفاً وحاسماً. وأمام فشله في «الجزء الأوكراني»، لم يبق له سوى «ورقة الملوك الأخيرة»، أي اللجوء إلى القوة. ويتعلق الأمر، وهذا ما نأمله، بضربة بوكير هدفها التأثير على شركائه الغربيين الذين لا يستعدون عليه الرد عليه بنفس المنطق، أكثر منها إصرار حقيقي على دفعهم إلى رهان قوة حقيقي، وباستعادة سيطرته على القرم، يستطيع ليس فقط ضمان التواجد الاستراتيجي الروسي على الواجهة الجنوبية، بل تصحيح «الظلم» التاريخي الذي اقترفه نيكيتا خروتشوف سنة 1954 (إهداء القرم لأوكرانيا)، وبالتالي رفع الإهانة التي تعرض لها في كييف. ويبقى الأمل ألا يتحول هذا التصعيد الأخير الذي انطلق، إلى «حادثة خطيرة» في العلاقات بين الشرق والغرب، وأن تخفي هذه الرغبة في تصعيد التوتر إلى حدوده القصوى، فقط مقاربة خطرة وطائشة هدفها فرض روسيا ورئيسها كمحاور أساسي ومحوري في تدبير المشاكل والنزاعات الدولية الكبرى. إلا أنه في مثل الوضعية الحالية، أي دفع التوتر بشكل مقصود إلى حدوده القصوى، يتعين على كل طرف، بدءا بالرئيس الروسي، التعامل بكثير من الحذر، وبإمكانه مثلا أن يستهلم مثال الأمير بوتمكين الذي احتل القرم وقدمها هدية لكاترينا الثانية، لكن عليه أن لا ينسى أيضا أن نفس هذا الأمير اشتهر في التاريخ الروسي بأنه مبتكر «قرى بوتومكين» التي كانت تخفي وراء الواجهات الضخمة والبادخة البؤس والفقر الحقيقي لروسيا. مؤرخ وصحافي، مستشار وناطق رسمي سابق باسم الرئيس ميخائيل غورباتشرف