1- وكأنه مطلع للقراءة: لا أقرأ الشعر موهما نفسي بالقبض على المعنى، و لا أقرأه رغبة في تقديمه، حيث لا يُعقل أن يُقدم النثر الشعر، ولا أقرأه رغبة في نقده، لأن النقد في اعتباري مسار تاريخي يُعيد بصمات المبدع إلى رحمها، قبل أن تنطبع في ذاكرة القراءة، أي عندما كانت مدخَرا يطفح به رصيد المبدع. لا أقرأ الشعر إلا لسبب غاية في البساطة، وهو متعة القراءة، ولذتها، بالمعنى الأبيقوري للكلمة، أي لذة نقل المادة الجمالية عبر الحواس إلى الإدراك. وأقرأ شعر الشاعر بوجمعة أشفري عادة بنهم وشغف لأنه في كل مرة يقدم لي تنويعا جماليا في الاشتغال على مادة الإنسان. 2- بورتريه للشاعر: لعل أهم ما يميز التجربة الشعرية لأشفري في نظري، هو غزارة قراءاته للشعر عربيا كان أم إفرنجيا، وسعة الإطلاع هذه هي ما يحصن نصه الشعري من اجترار القضايا الذاتية والموضوعية التي أنهكتها القصيدة، خاصة في زمنها العربي، فلا تجده في شعره محتفيا بموضوع ما، كما أن الذات تتوارى خلف الكلمات بصورة واضحة، لأنه شاعر يُتقن محاورة الآخر في قصيده. وحتى أرسم خطوطا جلية لبورتريه الشاعر، طرحت على نفسي هذا السؤال: لم أشفري شاعر رغم ولهه العظيم بالفن والفلسفة؟ لماذا لم يكن فنانا؟ ولماذا لم يكن فيلسوفا، أو حتى كاتبا في مجال الفلسفة يسعى لفهم هذا الفيلسوف أو ذاك؟ طبعا الإبداع اختيار، ولكي يقرَ ضميرُه اختار مسلكه. اختار أن يكتب وهو في أمَسِّ الشعر، وألا ينام إلا ورأسه مسنود للقصيدة. لكنه وفي شعره لم ينأ عن السباحة في هذين النهرين العظيمين: الفلسفة والفن. وهما يتميزان بالصفاء والعمق. الفن يمنح الصفاء، وأشفري صديق حميم للفن والفنانين مصورين وسينمائيين وفوتوغرافيين وغيرهم، وهو مواكب لمعارض الفن التشكييلي، وناقد فني رصين. أما الفلسفة فتمنح العمق آلية للتأمل الذي يتوغل في أقاصي المجهول. وأشفري، صديق نيتشه، كما يعرفه الجميع، يؤمن بقوة الفلسفة، معتنقا يقظة الحس والفكر، لذا ليس غريبا أن تراه يُجهد نفسه ساعيا إلى الاحتفاء ضمن حلقة «أصدقاء ديونيزوس»، بالفيلسوف الكبير جيل دولوز. لكن، ورغم انغماسه المستدام في مياه الفلسفة والفن، فإنه يعود مثل سمك السلمون إلى منبعه الأصل، والذي لا يستطيع التنازل عنه، يعود لنبع الحرية التي باعتناقها وتقديسها أصبح أشفري شاعرا، فرغم بلائه الحسن في مجال النقد الفني، وفي مختلف تأملاته الفكرية، غير أن اختيار الشعر هو اختيار الحرية المطلقة، إنه يكتب دونما إحساس بالنظريات تتحكم في خطوه، والتاريخ فوقه يغمره بالضوء أحيانا، والظل أحيانا أخرى. وقد اختار الشعرلأنه البيداء التي يرتع فيها غير آبه بما قال فلان، أو ما أنجز عَلان. هكذا يستوي بوجمعة أشفري شاعرا، لا تراه إلا متحررا كفنان أصيل. وليست الحرية المقصودة هنا، ما يرتبط بعلاقات الشخص وتصرفاته المعتادة، بل هي الحرية الجمالية التي يحدثنا عنها الفنان والناقد المصري حسن سليمان قائلا: »إن المبدع أو الفنان في رؤياه وممارسته للإبداع يستمتع ويعيش نوعا من الحرية لا يعيها أو يدركها الشخص العادي في التزامه وارتباطه بموقف اجتماعي وبقضايا أخلاقية«.(حرية الفنان ص:190). هذه الحرية هي راعية الفن والشعر، فحينما كتب الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب «أنشودة المطر» خلال خمسينيات القرن الماضي، بالضبط سنة 1954، كان الفنان العراقي الكبير جواد سليم يشتغل في نفس الفترة على عمله الرائع في النحت، «نصب الحرية» في بغداد الذي أنجزه بالضبط سنة 1959. فالحرية أصلٌ للحداثة، التي استقوت في قريحة الشاعر أشفري أيضا بسبب عشقه الأبدي للفلسفة، كما سبقت الإشارة لذلك، وفي اعتقادي ليس هناك ما هو أصلح لرجل حر حداثي من الشعر. 3- التسكع في القصيدة: ولأن أشفري حرٌ وحداثي بامتياز، فإني أستأذنه في التسكع في فضاء خمارة «بدون سراويل»، الديوان القصيدة، الصادر في نونبر من السنة المنفرطة. ومع الإطلالة الأولى يتأكد لي أنه لا يمكن أن تجد قصائد أشفري إلا في حلة أنيقة وجذابة، وكأنه يسكن تحفة فنية. ليس هناك غير الأسود والأبيض الغنيين بالإيحاءات الجمالية. ليس هناك في الغلاف غير العتمة والنور، وذاك الرمادي الذي يلدانه، والذي أفهم منه شغف الشاعر بثيمة الرماد التي سبق وأن قلّب دلالاتها ورموزها ومنحها حبا رؤياويا كبيرا في ديوانه السابق، ولا يزال هنا يُخاطب صديقه الشاعر الكبير محمد بنطلحة قائلا: »»يا ويحه الرماد» يا صديقي محمد بنطلحة« ص: 19. وقد حاولت أن أصف الصورة الفوتوغرافية الموسومة ب « Que de pluie sur paris» والممتدة على الغلاف بشكل مرآوي، فلم أجد أفضل من قول الشاعر نفسه في بداية القصيدة: »ها أجدني وجها لوجه مع مطر الصيف... كأنه لا يهطل من فوق.. كأنه يسير معي، جنبا إلى جنب، في الشوارع والساحات والحدائق وباحات المتاحف«. ص: 9 ومن جمالية هذا الغلاف دلفت إلى جمالية القصيدة وولجت عوالمها، مرافقا للميتافيزيقا، في شوارع باريس وأزقتها وساحاتها الشهيرة، وأنا أتأمل «لا ديفونس» في أعالي «لا سين»، مستمتعا برونق المعمار الباريسي، لا يرافقني غير المطر يغسلني من أدران التخلف، ويهيئني لاستقبال الحضارة، واستقطاب روح الحداثة. ويبدو الآن واضحا أثر باريس في شعر أشفري، فقد أصبحت بلدا يسكن الشاعر، وكما عبر الشاعر سيف الرحبي في أحد حواراته، »كل بلد يترك ندبة في الروح، يترك شخوصا، ذكريات ورياح تأكل المخ باستمرار«.(أنوال الثقافي سنة 1986). وما أن يدخل أشفري المدينة حتى يعوج بالسؤال عن خمارة البلد: »قلتُ: أقبِل أولى شفتي خمارة تلمحها العين«، ص:17. وهكذا ألج رفقة الشاعر خمارة «بدون سراويل»، أنصت لوصفه الجميل، وقد تركز بصره بعد دخول الخمارة، على الأشياء الدقيقة، عوض المناظر التي احتفى بها خارج الخمارة، هُنا: نهد الغجرية الأيسر يلامس الكونطوار، أثر العطر، خشب القرن العتيق، كؤوس فارعة الطول، قبلات مختلَسة هنا وهناك، المائدة المنزوية في منأى عن الضوء...إلخ. أشياء تفيض شاعرية لأن أشفري حولها إلى لوحات فنية، وجعل من قصيدته متحفا رائعا، لأنه رهن عملية الكتابة بوظائف الحواس البيولوجية المتنوعة، فالقصيدة هنا لا تتجه فقط إلى الأذن، بل وإلى العين أيضا، وفي هذا إغناء للمتخيل لدى القارئ ومساعدة على استيعاب أفق تخييل القصيدة، وكأن القصيدة عزيف خالد يتردد في سمع الزمن، فيرسم صداه لوحات يتداخل فيها المرئي بالملموس. ما أثارني أيضا في هذه القصيدة أيضا أن الشاعر لا يتعالم، ولا يتأوه، بل يصف، يتأمل، ثم يتساءل.. يبدو هذا بسيطا، لكنه غائر العمق، خاصة وأن الشاعر يقدمه في لغة تتميز بالحكمة والمعرفة، فمنذ دخلت رفقته الخمارة شعرت بالثوار الشعبيين العظام الذين أنجزوا الثورة الفرنسية سنة 1789، والذين نعتوا بازدراء «sans culottes» وهم يملؤون جنبات الخمارة يعلو صخبهم وهم يتأملون هذه الصورة: »وحين، في المرآة، اعتلى نيتشه صدر الغجرية، وصار اللهاث يهبط ويعلو في الجسد..« ص: 27. *- نص الورقة التي قرأتها بمناسبة الأمسية الشعرية المنظمة من طرف أصدقاء المقهى الأدبي، بنادي الإتحاد الرياضي المغربي لكرة المضرب بالدار البيضاء، عشية الثلاثاء 21 يناير 2014. والتي تم خلالها الاحتفاء بالشاعرين محمد عنيبة الحمري وبوجمعة أشفري إثر صدور ديوانيهما الجديدين.