«أغمض عينيك، وارم جسدك في لجة الضوء...»، لعلها الوصفة المناسبة التي يمنحنا إياها بوجمعة أشفري في آخر الاستهلال لولوج الطقوس المُجسدة في ديوان «الموتى (لا) يحبون السكر» (1)، الطقوس المفعمة بحيوية مفرطة ذات نزعة طبيعية Naturaliste، تقوم على ثنائية المجون والسكينة: الجسد الماجن المنذور للعري والغواية والرغبة والشبق...، في مقابل الجسد الساكن المنذور للتحلل. هي إذن توليفة التواشج بين الحب من حيث كونه تفاعلا جسديا والموت باعتباره انطفاء أبديا. أو على الأصح، العلاقة القائمة بين الجنس والموت المحكوميْن بلغز الرحم. كيف يمكن تصور تطابق النقيضين، «كيف نساوي الحب بالموت.. الرحيل بالرجوع.. الولادة بعذابات المرض، والجنس بإطلاق الرصاص على السجين؟». الحب «أوله سقم وآخره قتل» عند ابن الفارض، فيما الحب عند باتريك سوسكيند في كتابه عن الحب والموت، «هو اللامنطق، والموت هو اللامنطقي الكبير، وعلينا، والحال هذه، أن نبحث عنهما معا لأن سيرهما الأثير يدا بيد هو الذي طغى على صور الوجود (...) هناك في ذلك الإرث الإنساني الهائل كان الحب، كما الموت، هما الثنائي الذي لا ينفصل ولا يمكن فصله: حين يقترب الحب، يحضر الموت.. النقائض تلتقي في غير موعدها ولكنها لا تكف عن اللقاء الأسطوري هناك..» (2)، والإرث الإنساني هنا، يمس الأساطير والأديان مثلما يمس الأدب على اختلاف أجناسه، حيث يبقى الحب كالموت لغزان كبيران في هذا العالم كما ترى الروائية أحلام مستغانمي: كلاهما مطابق للآخر في غموضه وشراسته ومباغثته وعبثيته وأسئلته. ذلك أن الذات تبقى الساحة أو «الحلبة» التي يتم فيها صراع مهم وأساسي بحسب فرويد، «وهو في رأيه الصراع بين ال «إيروس Eros» أو غريزة الحب، وغريزة الموت أو تدمير الذات (...) إنها الحلبة التي يتم فيها تمييز أساطير الإنسان الدائمة ويُعاد تمثيلها» (3). في الجزء الأول الذي كُتِبَت قصائده بين الدارالبيضاء وباريس التي مدّته بكمال النَّفَس والرؤية في إطار إقامة إبداعية بمدينة الفنون، تضاعفت الجرأة في قول ما لاينقال، بناء على التجرد التام من الإلزاميات الدينية، وهدم جدران المؤسسة الأخلاقية لبلوغ أقصى درجات الكشف، ليتحول من السرائر الإيروتيكية المقيمة بين الهمسات واللمسات والمداعبات والرعشات المنسوجة عبر تراتيل «أرنب الغابة السوداء» (2000)، إلى الجَهْر ب «هَيَجان وحيد القرن» المقرون برغبة متوحشة: رغبة تذهب للسهرات الليلية عارية من الأخلاق كي تلتهم الأجساد الراقصة دون رحمة ولا شفقة رغبة تمتلك شراهة نمر وخفة غزال، لا تفتأ تحاصرني كلما دَعَوْتُ امرأة أو دعتني هي لمعاشرتها. الأجساد محشوة بالرغبات، فحذار من الخروج قبل ممارسة الالتهام (4). كأن الشاعر، بإشهاره هذه الرغبة الشَّهَوية العارمة المقرونة ب «الأكل الرمزي»، ينحدر بنا إلى حياة ما قبل الكِساء، إلى شفافية الإنسان البدائي الموجه بالسجية والعفوية والانطلاق الجسدي، كعودة إلى المنابع البدائية «كما تعود النار إلى الهواء»، حيث تكمن «قيمة متعادلة للأشياء المرئية وغير المرئية، وهو اعتقاد لدى الإنسان البدائي، ولعل هذا هو أقصى معاني السحر في الفن» (5). من ثمة يمسي اللاشعور، المدفوع بالمد الغريزي، قوام هذا التصوير الموصوف جمالية متوحشة beaut? sauvage: وأيقنت أن اللاشعور يمنح الجمال لمن لا يجلد جسده بسياط الأخلاق (6). إذا كانت حالات الوعي لا تفي بإظهار كيان الإنسان كليا، فإن اللاشعور يعمل على رسم الخطوط الدقيقة والأصيلة لهذا الكيان، مما يفسر كون الحالات الحُلْمِية والغريزية المتجذرة تعكس صورة الإنسان بشكل أكثر صدقا. من هذا المنظور تتأسس القصيدة عند أشفري الذي يؤمن بحرية الحب المضاد لمفهومي «الحب النبيل» و «الحب العذري»، لذلك لا يجد حرجا في تبني حرية «تهور» تعبيري بالمعنى السريالي، على الشاكلة التي تتم فيها المعادلة بين التداعي المنساب والانكشاف التلقائي، لانتزاع صورة الأنثى من قاع اللاشعور ورفعها إلى كفة الوعي باندفاع وقوة بدائيَيْن، كاشتغال أركيولوجي يحفر في الخبايا الإنسانية الأولية والأزلية. خاصة وأن «الحب هو التجربة الأكبر من الإنسان نفسه الذي يُسجِّلُها ويُنْتِجُها، إنها أقدم منه وأكثر قسوة في وحدتها (...) فالحب يتكون من الرغبة واليأس مما يُبقيه في حركة دائمة» (7). وإذا كان الحب الوسيلة المؤكدة للهروب من العالم، فإنه وفي الحين ذاته، أقرب المسافات في معرفة العالم. من ثمة، وفي نهج التجاوز العقلي لتفجير «الأنا» وملاحقة الصيرورة والمخالَفَة، تتشكل الانفعالات اللَّعْبِية القريبة من صور السريالية التي جعلت من الحب غاية الوجود كله: - عطرها يطاردني.. تحوم حولي أعضاؤها.. كل عضو يحمل رأس ذئب هائج.. حاولت أن أقفز مرة ثانية لأعود إلى الغرفة من النافذة لكنني فشلت.. أدرت رأسي إلى الوراء، فرأيت فلليني يخرج من خرطوم فيل يمتطي صهوته كازانوفا. صرخت بأعلى صوتي، إيزابيل، فجاء جهتي عضوها التناسلي، وانحنى علي كما ينحني الرضيع على صدر أمه. أفواج من الآهات خرجت لتوها بين الشقوق المتراصة على الحائط الذي أمامنا.. ذلك الشيء يدخل ويخرج في الحياة كما في الموت (8). - وهاهي «مادام إدوارد» تخرج من حلمة نهدها الأيسر (9). - كان لا بد أن يصير العالم غيمة في يد الهواء (10). - هنا، ما بين القبو وسطح الأرض، يُخرج موديغلياني كائناته الأنثوية من أصابعه ويروضها على عصيان الأخلاق.. (11). - هناك صمت حزين يئن يتدلى من النافذة التي قفز منها الأب الأصغر إلى منتصف الليل (12). هذا إلى حين الدخول إلى «جنة النبيذ والنساء»، ليطلع دالي الذي طالما انْشَغَل بتوليف الحي والجامد في لوحاته، وصاحب لوحة «ميلاد رغبات سائلة» (1932) التي تشي بانتصار اللاوعي الذي تكون تناقضاته أكثر اتساقا من الواقع في أحايين كثيرة: - ويَمْثُل فجأة أمامها سلفادور دالي بشاربيه معلنا انحطاط العالم وذوبان الزمان.. النادلة الغجرية لا تكترث له لأنها لا تحب تصاويره الذائبة في الهذيان.. كأنها توأمُه وخصمُه، تسيل حيث لا يميل، وتموت حُبّا في نُدَمَائها حين يتبختر هو كطاووس فاتلا شاربه السوريالي بأطراف أصابعه اليمنى (13). ليس دالي وموديغلياني وحدهما الموصولان بالإشارة في الديوان، بل عدد من أصدقائه الفنانين ذائعي الصيت: دافينشي، جياكوميتي، رودان، رامبرانت، أورلان، سولاج، مور... هذا هو الوجه التشكيلي المنبثق من متحف بوجمعة الخيالي القائم على اهتمامه المستديم بثقافة العين المتعلقة بجميع أجناس الفنون البصرية والفرجوية، إن على مستوى المعاينة والمتابعة والنظر المباشر والتدخل أحيانا (كما هو الشأن بالنسبة لتصميم غلاف الديوان الأنيق للغاية)، أو على مستوى التنظير والكتابة النقدية. وقد مثلت الجماليات أول إصداراته تحت عنوان: «الفن بين الكلمة والشكل» (1995)، مما جعل لغته خاضعة لترويض مُتنوع وشاق، من التقريرية الصحفية إلى التجريد الشعري والتأمل الجمالي، إلى الحد الذي حول فيه لُغَته إلى أداة لرسم الوجوه من خلال كتابه الطريف «عندما تتكلم الشفاه» (2004): إنَّ فِعل النقل هنا، الممارس من لدن البورتريتيست يتأرجح بين الخلود والتخلي ضمن عملية «ممارسة الحب والقتل»، حيث البورتريه «أصدق كتابة عن الآخر. عندما تتكلم الشفاه، يَخفِق القلب، والقلب لا يخفق إلا للأشياء الرقيقة والمؤثرة. الشفاه هي اللغة، هي ما نمارس به الحب. والبورتريتيست لا يكتب إلا بورتريهات من يحبُّهم.. يعجِن الوجوه.. وجهٌ لا يشبه الوجه في الظاهر.. لكنها وجوه تتماسُّ في عمقك، أنت الإبرة وهي الخيط» كما كتب توفيق مصباح (14). ففي كل كتاباته، مهما اختلفت أجناسها، وخاصة منها الشعرية، تستند إلى خلفية فلسفية تنهل من التراث الصوفي بقدر ما تنهل من الفلسفة والفكر المعاصرين، إيمانا منه بكون «الفلسفة تنتمي إلى مملكة الشعر»، بوصف هذا الأخير كما الفلسفة، يبحث عن الحقيقة ضمن مقاومة «الرحيل الدائم» المرهون بسيرورة الحياة والوجود، حيث الشعر بطبيعته «ينطوي على الكشف» (غوته). تماشيا مع هذا المنحى، «أَحَبَّ فلسفة نيتشه كمكان طبيعي له، وأقام بين جدرانها بيتا للخديعة. لم يقل الشعر في الأصنام، بل قاله في ذلك التمازج الداعر بين مخلوقات رودان وراهبات المعابد القديمة»، على حدّ تعبير القاص سعيد منتسب. هذا الكل المتداخل والمنسجم، هو ما يمنح القصيدة تلك الطاقة المبهرة لكشف الذات عبر تنشيط حِسِّي يُذكّرني بالأشكال الفَجْوية والعضوية المُؤثثة لأعمال الفنان فريد بلكاهية، بينما يحيلني الشق الثاني من ديوان موتى أشفري على أعمال الفنان خليل غريب المتحللة بتفاعلات الأكسدة والرماد. بين فيض الغواية و «عسل الرماد»، ينبعث المُدهش Le merveilleux المفتوح على رغبة خارقة ومُشاعة، تجعل من صاحبها صورة قريبة جدا من توصيف قديم لسقراط: «الشاعر ضوءٌ، شيء مجنح ومقدس، وهو لا يُبدع ما لم يُلْهَم ويَفْقِد وعْيَهُ، ويَبْطُل فيه عَملُ العَقْل». بالرغم من المجون والمرح والجنون والصعلكة المصورة بالألوان القانية في قصائدك، والمستقاة من تجربة حياتية قاسمتُك بعض طقوسِها، أعرف جيدا عزيزي بوجمعة أنك حين تعْكِف على طاولة الكتابة، تصبح صرامة كاليغولا شِمَتُكَ، والتأمّل المُضْني دَيْدَنُك. بل يتضح عمقك من اختيارك الذكي والصعب القائم على الاستغراق اليقظ، كي تنسج شعريتك الشفيفة عبر القصيدة التي تُمسي لديك مجازفة كما الحب نفسه الذي صَيَّرْتَه أوقيانوس برزخي، أعاليه تماهي وأعماقه تلاشي. هوامش * نص المداخلة التي ألقيتها في حفل توقيع ديوان «الموتى (لا) يحبون السُّكَّر» للشاعر بوجمعة أشفري، المسرح الوطني محمد الخامس، الرباط، 23 يناير 2012 (1) بوجمعة أشفري، الموتى (لا) يحبون السُّكَّر، منشورات أمنية للإبداع والتواصل، السلسلة الإبداعية 16، البيضاء، يناير 2011 - لوحة الغلاف: الفنانة المقيمة بفرنسا كريمة بناري (2) نائل بلعاوي، «عن الحب والموت لباتريك سوسكيند»، الدوحة، وزارة الثقافة والفنون والتراث، الدوحة- قطر، ع 52، فبراير 2012، ص 82 - 83 - باتريك سوسكيند Patrick Suskind، عن الحب والموت (بالألمانية)، دار ديوجينيز للنشر والتوزيع، زيوريخ - سويسرا (3) والاس فاولي، عصر السريالية، ترجمة: خالدة سعيد، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2011، ص 139 (4) بوجمعة أشفري، Op-cit، ص 34 (5) والاس فاولي، Op-cit، ص 228 (6) بوجمعة أشفري، Op-cit، ص 46 (7) والاس فاولي، Op-cit، ص 192 (8) بوجمعة أشفري، Op-cit، ص 35 (9) Ibid، ص 49 (10) Ibid، ص 43 (11) Ibid، ص 53 (12) Ibid، ص 45 (13) Ibid، ص 48 (14) توفيق مصباح، «عندما تتكلم الشفاه لبوجمعة أشفري : خذ نفسا وانتظر»، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، ع 9905، 07 أكتوبر 2011