شيء ما استفزني في بورتريهات الكاتب «الروحاني» بوجمعة أشفري. شيء ما يدفعك إلى الاسترسال في قراءته من الغلاف إلى الغلاف. شيء ما يجذبك إلى معانقة هذه البورتريهات واحدا واحدا. تقرأها بانتباه، تفحصها، ترتبها على مزاجك. قد تقرأها من الأخير إلى الوسط أو الأول. لا يجبرك الكاتب على الالتزام بمنطقه في قراءة وجوهه الأحد عشر. لا يقيدك بتفضيل الوجه عن الآخر. إنها باقته. والباقة دائما نختار أزهارها بعناية، ونحرص على أن نتقاسم الجمال والإبداع. وحتى لا يكون الكاتب «ظالما» ومتحيزا لأحد، حذف الأسماء من محتوى الكتاب وترك لنا العناوين. كل عنوان يحمل وجها مفترضا. قبل الدخول «نغتسل» بالعناوين. أحد عشر عنوانا لأحد عشر اسما. كل اسم كوكب وقارة من التفاصيل الدقيقة والحيوات. كم من الصعب أن تعتقل الحياة في بضعة سطور وبضع صفحات. لقد كانت دليلة أردان دقيقة في وصف عمل البورتريتيست. إنها تقول في مقدمة الكتاب: «كم هي صعبة تلك العملية التي يقوم بها البورتريتيست: نقل صورة الموديل من وجهه الشخصي إلى القماش أو الورق الأبيض. إنها علاقة «سادومازوشية»، حيث الموديل لا يراقب ما يعطي، والبورتريتيست لا يحسب ما يأخذ. وحده الثالث بينهما (الجني) يستطيع أن يصير هذا التحويل إيجابيا. في هذه المغامرة توجد القسوة والثقة، توجد رغبة الخلود والتخلي، يوجد التملك والتنازل.. إنها عملية ممارسة الحب والقتل». وتقول أيضا: «البورتريتيست يعمل على تحريك اللحظة. إنه يحكي قصة موديله في تلك اللحظة بالذات». دليلة أردان في «نافذة الروح» استنجد بها بوجمعة أشفري لفك شفرات بورتريهاته. استنجد بها مرتين: لنشر كتابه من باريس في المرة الأولى، ولفتح نافذة نطل منها على البورتريهات في المرة الثانية، باسم تلك «العلاقة الحارة» التي كانت بينهما (ولا تزال). أكاد أصدق أن «دليلة» بوجمعة أشفري هي وجهه المضاعف، هي «ذاك النور الذي نحتته فتاة كورينثيا من خلال حواف وجه حبيبها المرتسم على الجدار.. أو هو تلك العين الإضافية التي وهبها الإله «زيوس» للشاعر الإغريقي «تيريزياس» حين عاقبته الإلهة «هيرا» على كشفه لأسرار الشهوة الجنسية عند النساء». لن تدخل البورتريهات قبل أن تستوقفك «دليلة»، تحملك برفق، أنت شبه النائم، وتسمعها تقول لك: «تعال، إذن، أيها القارئ لنطل معا على هذه الوجوه من نافذة الروح...». مثل جنية تخدرك، تلحس عقلك في لحظة خاطفة. شخصيا لا أصدق هذا البريد الإلكتروني: [email protected] أخشى أن يكون بريدا وهميا، بريدا من سراب. أتذكر في هذه اللحظة رواية الكاتب جبرا إبراهيم جبرا «يوميات سراب عفان». في هذه الرواية كانت سراب عفان تصدق ما تتخيله، تمحو الخيط الفاصل بين الواقع والخيال. عزيزي بوجمعة، لا أدري لماذا لا أصدقك، ألأنك فنان؟ والفنان يملك عينا ثالثة يرى بها ما لا يراه الإنسان العادي. دعني أتحدث بلسان إحدى شخصيات عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا في روايتهما المشتركة «عالم بلا خرائط»: «هناك فرق بين الروائي والإنسان العادي. الروائي الفنان، رجل حالم، مليء بالرغبات، يريد أن يهدم العالم ويبني عالما جديدا، عالما خالصا لا يعني الآخرين. ولذلك أخاف كثيرا من هؤلاء الفنانين، وأخاف عليهم الوقت نفسه. إنهم يكثرون من الأحلام إلى أن يعيشوا فيها. والعالم الذي يهدمونه لكي يبنوه من جديد، قائم في أحلامهم فقط. وحتى أصغر الأشياء وأقلها أهمية إذا كانت قائمة ملموسة أمامهم، لا يعرفون كيف يعالجونها. أقول ذلك لكي أؤكد لك حقيقة أساسية: هؤلاء الفنانون، بمن فيهم الذين يكتبون الرواية، ينظرون مثلا إلى المرأة وكأنها جاءت من عالم آخر لا صلة له بالواقع. المرأة التي تكون أمامهم لا يرونها. إنهم يرون شيئا غيرهم، طيفا يتحرك في حلم...». البورتريه أصدق كتابة عن الآخر. «عندما تتكلم الشفاه» يخفق القلب، والقلب لا يخفق إلا للأشياء الرقيقة والمؤثرة. الشفاه هي اللغة، هي ما نمارس به الحب. والبورتريتيست لا يكتب إلا بورتريهات من يحبهم.. يعجن الوجوه.. وجه لا يشبه الوجه في الظاهر.. لكنها وجوه تتماس في عمقك، أنت الإبرة وهي الخيط. أقرأ «عندما تتكلم الشفاه»، وأتخيل نفسي في حديقة متنوعة الثمار. ليس المهم هي الحديقة، ولكن الثمار هي الأهم. ثمار ناضجة وطازجة، ولولا براعة الزارع لما كان لهذه الثمار وجود. الزارع مثل الحاكي، لأن البورتريه شكل من أشكال الحكي والسرد.. هناك الحقيقة والخيال بأقساط متساوية، إلى أن يصدق القارئ أن الوجه الذي يدخل فيه قطعة من الخيال. وجه صعب القبض عليه. وجه يكتبه البورتريتيست بالاستعارات. وجه يقلمه ويبريه جيدا. وجه مرشح كأنه خرج اليوم من الفرن إلى الحياة. تفتح الكتاب، تطالعك الوجوه، تقرأ الشفاه، شرفات مضيئة، أسماء، أحلام، تعليق... يبدو الكاتب كالرائي، يملك حاسة سادسة، عينا ثالثة يرى بها الأعماق وما لا نراه نحن. كل وجه شخصية تطوعها اللغة في حكاية لها أول وليست لها آخر. «البورتريه» يكتب نفسه، يكتبك بالأحرى. تأخذ منك وتضيف إلى الآخر، أنت الموديل، وفي النهاية لا تحاكي إلا صورتك وموديلك والكائن الذي تريده... لعبة التماهي والحلول. لقد أخرجت كتابا مدهشا بتصميم فني فريد، وجرأة محارب.. لنحصي كم كتابا في جنس «البورتريه» صدر إلى حد الآن: واحد، اثنان، ثلاثة... «خذ نفسا عميقا، وانتظر».. إنهم يقرأونك بريبة ويتساءلون: «لماذا لم يرني هذا الشقي؟». أردد مع أستاذي مصطفى جباري: «تقول حكاية قديمة: خلق الله ثلاث تفاحات. وهب الأولى للحاكية، ووهب الثانية لشخصيات (وجوه) الحكاية، والثالثة لسامع، قارئ الحكاية. أما أنا فقد أحرزت تفاحتي، والدور لك أيها القارئ، فتفضل...».