«أتذكرين يا كارولين الشيء الذي رأيناه، ذات ليلة خريفية دافئة، عندما كنا ذاهبين إلى ضفة نهر السين المحاذية لشارع «أوطيل دو فيل» والجسر المسمى باسمه... أتذكرين الشيء المزدوج الذي سميناه «إدواردا» و«أرطو»... أتذكرين كيف تعانقنا وجلسنا نراقب الشيء، من بعيد قليلا، في أقسى درجات الألم... أتذكرين كيف كنت تمارسين معي بودلير، تسرفين في منح القبل والعض حتى يسكن فيك الغضب الخفي...» الجنس والموت: هذه التوليفة ليست غريبة عنه، فهو قد خاض معارجها منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان غارقا في محبة التصوف الخارج عن النص الديني.. كان حينها ينسج (أو يفترض) أواصر العلاقة بين الجنس والموت شعريا، ويخضعها لمهالك الاستعارة البيضاء، معتمدا في ذلك على فلسفة صديقه المستقبلي فريدريك نيتشه. وكانت نصوصه الشعرية، حينذاك، تحبل بهذا الزوج اللزج الكامن في الرحم: الجنس والموت. وساح الشاعر بوجمعة أشفري زمنا في معاشرة ومعاقرة أنخاب كل من صادفه(م)ن، في الحياة وفي الكتابة، من طرفة بن العبد وأبي نواس وعمر الخيام وأدونيس والماركيز دو ساد ولوتريامون وجورج باطاي وإميل سيوران وهيلين سيكسوس ولوس إيريغاراي وكاميل كلوديل وعشيقة موديغلياني، ومن خليلاته وصديقاته وأصدقائه، إلى أن فاجأنا بديوانه الداعر «أرنب الغابة السوداء» الذي تمثل (فضح) فيه سرية الرعشات والوشوشات الثنائية في الزوايا والممرات والغرف الليلية.. وصار كل من يلتقيه يناديه بالأرنب، إلى أن أعلن ذات جلسة نبيذية أن الأرنب سيتحول إلى وحيد القرن. عندها اتسعت أحداق العيون لاستقبال هذا الضوء الجديد، أو بالأحرى هذا التحول المفترض من الأرنب إلى وحيد القرن. وتجلى الوحيد القرن في إحدى قصائده الحديثة العهد: في «هيجان وحيد القرن»، حيث انتصب قائما قائلا: «رغبة غامضة تراودني لملاحقة المنفلت والعابر في لحظات السكر والغواية. رغبة متوحشة تشبه هيجان وحيد القرن، تحاول أن ترسم ملامح بورتريهات عابرة تكره التجسس عليها. رغبة لا تطلب العقل بقدر ما تطلب الاندساس بين نهود المانيكانات وجميلات الشاشة الكبيرة. رغبة تذهب للسهرات الليلية عارية من الأخلاق كي تلتهم الأجساد الراقصة دون رحمة ولا شفقة. رغبة تمتلك شراهة نمر وخفة غزال، لا تفتأ تحاصرني كلما دعوت امرأة أو دعتني هي لمعاشرتها. الأجساد محشوة بالرغبات، فحذار من الخروج قبل ممارسة الالتهام». وسافر الشاعر بعدها إلى باريس، في إقامة فنية بمدينة الفنون دامت تقريبا عاما، ليدخل في تجربة مؤتلفة ومختلفة لسبر أغوار هذه العلاقة القائمة بين الجنس والموت، فاختلى بفضاءات وكائنات مغايرة عما ألفه في فضاءات وكائنات مسقط رأسه. تجلت العلاقة أكثر، وتخلت عما بقي مترسبا فيها جراء سلطة الأخلاق والدين.. وصارت الأنثى في القصيدة أكثر مرحا وشبقا، وأكثر دفئا وحرارة وجرأة على الإعلان عن رغباتها ونزواتها.. وتخلص ضمير المتكلم في القصيدة من اعتقاده بأنه المتحكم في الرغبة، بحكم انتصاب القضيب فيه.. وصارت العلاقة بين الجنس والموت تفاعلا: يتمايلان معا، ويتحابان معا، ويتعاركان معا، ويتلاسنان معا.. وكان هذا الديوان: «الموتى (لا) يحبون السكر»، فضاء ومرتعا وفراشا لهذا التفاعل بين الجنس والموت، بين الذكر والأنثى، بين الذكر والذكر، وبين الأنثى والأنثى. وكان ضمير المتكلم في كل مرة يتذكر «مأدبة» أفلاطون و«جمهورية كاليغولا».. كان يتذكرهما في الحاضر (حاضر القصيدة)، ويرى كم هو عنيف لقاء الجسد بالجسد أثناء ممارسة الحب. نصفان (لا يهم جنسهما) يرتميان في أحضان بعضهما البعض، يدخلان في بعضهما البعض، يتلاسنان، يتجاسدان، يصيران كتلة لحمية واحدة.. وحين يبلغ ألم الاتصال حده الأقصى، ينشطران من جديد، ليعيدا التضام والتحاب مرة ومرتين ومرات. ألهذا كان ضمير المتكلم، كلما دخل إلى حانة «لابيل أورطونس» بشارع «عجوز المعبد» بحي «لوماري» بباريس، يجد النادلة الغجرية كارولين تنادم «كاليغولا» وتلاسن أخته «جوليا دروسيلا»، وبين الفينة والأخرى ترمق امرأة أخرى، هي (ربما) «إدواردا» جورج باطاي، ترتكن زاوية «الكونطوار» المطلة على باب الدخول والخروج. ويهيم ضمير المتكلم بالغجرية كارولين وبجوليا ومدام إدواردا، وببريجيت سيدة الحانة التي تسكب نبيذها المشتهى «كوت دي الرون» في كؤوس الندامى المائلين الحائرين بينها وبين صاحبتها في «السيرفيس» كارولين. في «لابيل أورطونس«، (هل هذا الاسم مشتق من الكلمة الفرنسية «أورطونسيا» التي تعني الأشجار الصغيرة ذات الورود الكبيرة البيضاء، الزرقاء والوردية؟)، سمعت امرأة، قالت إنها من الجنوب، تعد بريجيت بعودتها لهذه الحانة حاملة معها في حقيبة يدها «أزهار الشر» لبودلير، وإن حدث ونسيت ستهبها ليلة تفعل فيها بها ما تشتهي وتشاء. وفي «لابيل أورطونس»، رأيت بأم عيني التضام العنيف للجنس والموت. رأيتهما وأنا أنادم بريجيت.. ورأيتهما وأنا أعانق كارولين.. ورأيتهما في كل مرة أدخل الحانة وأغادرها... وحتى في مداخل ومخارج أنفاق الميترو، رأيتهما: في سان بول، وشاتلي ليهال، وسان لازار، ومونبارناس بيانفوني، وسان ميشال، وسان جيرمان دي بري، ولاديفونس، والأولمبياد، والشانزليزي كليمونصو، واللوفر ريفولي، والقصر الأحمر، وقصر الماء، وساحة إيطاليا، ولاكونكورد... وحتى قرب الكنائس والكاتدرائيات: نوتردام دو باري، والقلب المقدس، وسان بيير دو بوفي، ولامادلين، وسان جيرمان لوكسيغوا، و... وأعود (يعود ضمير المتكلم) إلى النبيذ المشتهى، المنسكب من فم بريجيت أو كارولين، يسري في العروق ويدب في المفاصل.. وكيف لا وهو قد «أخذ برد الماء ورقة الهواء وحركة النار وحمرة الخد إذا خجل وصفرة اللون إذا فزع وبياض العارضين إذا ضحك».. كيف لا وهما معا (النبيذ وبريجيت/كارولين) يستويان عند سدرة المنتهى، في الحانة وليس في السماء السابعة، في خليط من التوجع من الألم والشهوة.. كيف لا «وكل شراب لا يزال في نقصان إلى أن يعود مكروها، إلا النبيذ فإن القدح الثاني أسهل من الأول والثالث أيسر والرابع ألذ والخامس أسلس والسادس أطرب إلى أن يسلمك إلى الصحو في حضن المعشوق، أو يسلمك إلى النوم الذي هو حياتك أو أحد أقواتك»، كما يقول الجاحظ.. كيف لا وكل واحد منهما يدنو ويتدلى، فيكون قاب قوسين أو أدنى.. وأغمض عيني وأفتحهما، فأجدهما وقد تبعثرا في شفاه الندامى.. وأنظر حولي فلا أجد البدء والمنتهى، وأذهب وأعود إلى مكاني في المسافة بينهما.. وهكذا، هكذا، بين قدح وقدح تفرغ الحانة وتمتلئ... وها أنا (ضمير المتكلم) ألثم، في لحظة منفلتة، شفاه كارولين، وأتصادى راقصا مع بريجيت في الحانة وفي القصيدة: «هناك خيط حرير يتدلى من سقف الحانة.. بلمسة منها حاكت الغجرية فستانا نبيذيا سكبته في أباريق من ثلج بارد تنز دفئا حين تعانقها أكف العاشقين المانحين الشفاه بقسوة ليس سواها في صحو الحياة. ناحلة والحانة مرآة، حيث تشاء تذهب وتجيء.. وها هي «مدام إدواردا» تخرج من حلمة نهدها الأيسر، تهرب إلى زاوية معلقة بين الظل والضوء، تنزل إلى وشم يتنساسل عند ملتقى الفخذين، تحاصر تخاصر النديم الأقرب إليها.. تكاد شفتاها تقضمان تنهشان جسده. ذئب يعوي في أحشائها...». وخرجنا من «لابيل أورطونس» متجهين إلى نهر السين.. وفي طريقنا، بشارع «جوفروي لانيي» المؤدي مباشرة لضفة النهر المحاذية لشارع «أوطيل دو فيل» بالدائرة الرابعة، صادفنا رجلا نحيفا شاحب اللون يضاجع امرأة عارية الجسد مغطاة الرأس بقناع من الجلد. وهمست كارولين في أذني: أتذكر المشهد الذي تبتدئ به رواية «مدام إدواردا»، «رجل وامرأة يدخلان في بعضهما البعض بعنف حيواني داخل سيارة قرب محطة في جو معتم وصقيعي»، ها هي تلك المرأة نفسها، ورغم أنها تضع القناع الجلدي على رأسها فإني متأكدة من أنها هي، أما الرجل فأظن أنك صادفت صوره كثيرا، إنه أنطونان أرطو، وهما يعيشان كل ليلة موتهما بهذه الطريقة، تماما كما كنا نفعل قبل قليل في الحانة، وما سنفعله كذلك بعد قليل على ضفة نهر السين: ارتعاش الألم وتدفق رضاب النبيذ من الشفاه. (باريس، 3 أبريل 2011) هامش: (+) شهادة حول الذات بصيغة الغائب ديوان بوجمعة أشفري الشعري: «الموتى (لا) يحبون السكر»، منشورات أمنية للإبداع والتواصل، الدارالبيضاء، فبراير 2011.