أُثيرت في الأيام الأخيرة، قضية اللغة «العامية» ودورها المفترض في التدريس وإنتاج المعرفة وتداولها. ولم تكن هي المرة الأولى التي يدعو فيها مثقفون وأدباء، أو فاعلون سياسيون واقتصاديون إلى التخلي عن الفصحى لصالح العاميات المحلية. فقد حدث ذلك قديما في مصر ولبنان، وحدث ذلك في أقطار عربية أخرى، ولم يلتفت الناس إلى هذه الدعوة، وطواها النسيان. وها هي تُثار اليوم في المغرب من جديد، لا باعتبار العامية بديلا للفصحى فحسب، بل باعتبارها تشكل جزءا من استراتيجية تروم توزيع الفضاء اللغوي بين لغات أجنبية تُستعمل في التدريس والبحث العلمي، وهي السبيل الوحيد نحو التحديث والرفاه والتطور الاقتصادي، وبين عامية موجهة إلى الاستهلاك وحده. بالتأكيد، لا يُعبِّر الداعون إلى الدارجة عن هذه الغاية بشكل صريح، ولكنها الحقيقة التي يتداولها الناس، أو خاصتهم على الأقل، في السر وفي العلن. ذلك أن الدعوة إلى التدريس بالدارجة لم يكن هو نقطة الارتكاز الأساسية والأولى في هذه الاستراتيجية، فقد أغرقت شركات إشهارية شوارع المغرب وحاراته وقنواته التلفزية منذ سنوات بملصقات ووصلات صوتية ومرئية تدعو إلى اقتناء سلع وخدمات «بلغة» هجينة وحده الحس الاستهلاكي يمكن أن يلتقط شيئا من مضمونها. ولقد كان المنطلق في هذه الدعوة ما يقال عن وجود تقابل صريح بين اللغة «الأم»، هي السبيل الأول للطفل نحو عالم الحياة، وبين لغة فصيحة لا يستطيع الناشئ فك «طلاسمها» في مراحل تمدرسه الأولى. وبناء عليه، ليس هناك من مدخل لخلق حالات انسجام بين هذا الطفل وعالمه سوى اللغة «الدارجة» المدعوة إلى التحول من مجرد تسميات أولية خاصة بمحيط مباشر، إلى أداة للتدريس وتلقي المعرفة، بل يجب اعتمادها في تعلم الكتابة والقراءة أيضا، وستحل محلها لاحقا، في الأسلاك المتوسطة والعليا، الإنجليزية أو الفرنسية، وذلك حسب التوجهات والتخصصات العلمية. ويبدو أن هذه الدعوة فاسدة من أساسها لعدة اعتبارات، نكتفي بالإحالة على ثلاثة منها: -ليس هناك من تقابل قطعي بين اللغة «الأم» المزعومة وبين الفصحى، فأكثر من 80 في المائة من الكلمات المتداولة في الدارجة هي من عربية القواميس والاستعمال الأدبي، مع تحويرات صوتية تكاد لا تُدرك أحيانا. وهو ما يعني أن هذه الدارجة لا تشكل لغة مستقلة بذاتها، فلا رسم لها، ولا ذاكرة دلالية سوى ما يمكن أن توفره العربية ذاتها؛ إنها مجرد شكل من أشكال تحقق الفصحى في وضعيات إبلاغية شفهية تتسم بالنفعية والوظيفية، أي ما يُستعمل في تدبير شأن يومي محدود من حيث عددُ الوحدات المعجمية المرصودة لتغطيته، ومن حيث التنوعُ الدلالي أيضا. فعادة ما تكتفي العامية المحلية باستعارة ما يسمي الشيء أو الظاهرة بشكل مباشر، دونما اهتمام بالتحديدات الدلالية الثانية، فتلك مضافات «عرضية» يجب البحث عنها في المخزون اللغوي الفصيح. لذلك، فالغاية من الدعوة إلى استعمال الدارجة، لا يعني استبدال لغة بأخرى، بل هو ما يمهد الطريق نحو التخلص من الفصحى لصالح لغات أجنبية، هي أداة التبادل التجاري والمالي بين مركز «متخم» بالحضارة، ومحيط يكتفي باستيراد نماذج جاهزة لم تنتج لحد الآن حداثة حقيقة، بل عوضتها ب»تحديث» براني أفرز «كائنات استهلاكية» ظلت مشدودة إلى القيم التقليدية في تدبير كل شيء في حياتها. لذلك، لا يتعلق الأمر من وراء هذه الدعوة باختيار يروم استنبات نموذج حضاري جديد تبنيه لغة «عالمية»، بل هو في أصله بحث عن «ربح اقتصادي سريع» بذهنيات استهلاكية رخيصة. إن سلوك الداعين إلى الدارجة شبيهٌ بسلوك التاجر، فعلى عكس «الصناعي» الذي يستثمر على المدى البعيد في الإنسان والآلة، فإن التاجر لا يقوم سوى بمبادلة المال بالمال، أي مقايضة بضاعة جاهزة بمقابل مالي مباشر. -وتجد هذه النظرة أساسها عند الداعين إلى الدارجة في تصورهم للغة، وهو ما يشكل السبب الثاني في وجوب استبعادها. فاللغة في تصورهم هي مجرد أداة خارجية لا تأثير لها على الذات التي تستعملها. فالأساسي في التبادل الاجتماعي والحوار الإنساني ليس لغة تعيد بناء العالم في مستويات تجريدية، بل ما يمكن تبادله من أشياء على مستوى الحاجات المباشرة وغير المباشرة. وهذا ما يتضح من الأسباب التي يقدمها الإشهاريون في المغرب لتبرير اعتمادهم الدارجة أداة للإقناع. فهم يعرضون على المستهلك «بضاعة» يجب أن يتلقاها بلغة «محايدة» تكتفي بتفسير دواعي الاستعمال والغاية والمنفعة، أما ما يمكن أن تحيل عليه هذه البضاعة من انفعالات دفينة لا تُرى بشكل مباشر، فلا يُشكل مبررا كافيا لتغيير لغة العرض. والحال أن اللغة ليست من هذه الطبيعة، ولا يمكن اختصار وظيفتها في توجيه الكائن البشري إلى التعرف على عالم موجود في ذاته. فنحن لا نتعرف على العالم من خلال أصوات تضع الأشياء أمام الحواس، بل نُدرك سرها بواسطة كلمات لا تستوعب وجودا جاهزا، بل تُضَمِّن التعيين والتسمية موقفا ورؤية وتصنيفا. بعبارة أخرى، إن اللغة ليست غلافا محايدا لفكر جاهز، بل هي الأداة التي يتخذ من خلالها الفكر شكلا (كاسيرير)، فما هو أساسي في الوجود ليس ماديات الأشياء وسلوك الكائنات، بل الوجه المفهومي الذي يكشف عن مضامينها. إن اللغة لا تتميز بتركيبها ونظامها الصوتي والدلالي فحسب، بل تتميز أيضا بنوعية مفرداتها وقدرتها على إعادة بناء الواقع داخلها وفق قوانينها هي لا وفق مظاهر الأشياء. لذلك، فإن التدريس ليس تلقينا لمعارف « بكر»، أو تعليما للكتابة والقراءة، بل هو في الأساس طريقة مهذبة لتقديم العالم إلى ناشئ يستهويه، في مراحل عمره الأولى، حس الأشياء، أكثر مما تستقر ذاكرته على مفهوم يدل عليها. فإما أن نقدم للمتعلم عالما غنيا متعددا واسعا يساعد الذهن على التفتح واستيعاب تعددية الوجود في الطبيعة والأفكار والمعتقدات، وإما أن يكون هذا العالم وثيق الصلة بما يمكن أن يمليه العيش الحافي. ذلك أن «البقاء»( survie ) ليس ميزة وحيدة للإنسان، تماما كما أن المشي ليس وظيفة وحيدة للأرجل، ولم يُخلق الصوت للكلام وحده، فنحن نمشي ونرقص، ونتكلم ونغني. هناك، في ما هو أبعد من الوجود الوظيفي، متعة الفضاء الروحي، يتعلق الأمر بإحساس لا يتحقق من خلال ما يعين أو يسمي، بل من خلال ما يوحي أيضا. ولقد كانت الدارجة، في جل استعمالاتها، مشدودة دائما إلى حالات البقاء هاته. وهي صيغة أخرى، للقول إن الذاكرة الدلالية قصيرة في التعبير الدارج، فإكراهات التواصل الشفهي المباشر يقلص من مدى هذه الذاكرة ويوجهها إلى الحاضر أمام الحس، لا المتواري في دهاليز النفس والوجدان. -وتَنوُّع هذه الذاكرة ذاتها هو الذي مكن اللغة من تنويع سجلاتها الداخلية ومنحها القدرة على التمييز بين حاجات الإنسان وأهوائه. وذاك سبب ثالث في عدم تبني الدارجة أداة للتدريس. ذلك أن اللغة، كما أكدنا ذلك أعلاه، ليست موجهة من تلقاء ذاتها نحو سيرورة تعيينية تكتفي بوصف الظاهر من الأشياء، إنها بالإضافة إلى ذلك، تشتق من نفسها لغة ثانية، أي تمنح ألفاظها «معنى» خاصا ينزاح بها عن استعمالها المألوف، ليدرجها ضمن قاموس جديد، هو ما نطلق عليه المصطلحية الخاصة بالعلوم وكل الأنشطة التقنية. وبدون هذه المصطلحية ستتشابه كل اللغات، ولن يكون هناك إنتاج معرفي. ذلك أن المعرفة تتضمن سيرورة فكرية غايتها وصف الواقع، وتحديد مجمل الروابط الممكنة بين عناصره، ولن يتم هذا الوصف إلا من خلال مصطلحية يتداولها المختصون فيما بينهم. والحال أن الدارجة لا تتوفر على هذه اللغة المخصوصة، وليس في «تراثها» ما يساعدها على استعادة هذا النشاط الجديد الذي يريدون إسناده إليها. إنها «حدسية» من حيث إنها تعين دون أن تعرف كيف تعين، وتدل دون أن تستطيع وصف السيرورة التي تتحول من خلالها الأصوات إلى مضمون مفهومي. إن اللغة التي لا تفكر في نفسها لا يمكن أن تكون أداة للتفكير المفهومي، ولا أداة لإنتاج معرفة نظرية. فقد تكون الدارجة مصدرا لإبداعات تعتمد الصور «الفطرية»، كما تلتقطها الذاكرة الشعبية من خبرة إنسانية هي جزء من حياة الناس، ذلك أن الإبداع يتصرف في المتاح المعجمي، كما هو متداول في اليومي والمألوف، أما العلم فنتاج لغة ثانية، لا يمكن أن تكون الدارجة مصدرها. وهذا العجز صريح وبَيِّن ولا يحتاج إلى دليل. فالفرنسيون»العاديون» الذين يتكلمون لغة أنتجت علوما وفلسفة لا يعرفون من لغات هذه العلوم أي شيء، فكيف يمكن للغة يتداولها الناس في الشوارع وهي أساس كل تبادلاتهم، أن تصبح بين عشية وضحاها لغة قادرة على استيعاب كل العلوم. إن «تلقين» المعارف العلمية باللغة الدراجة، شبيه بتكوين ميكانيكيين في الورشات وحدها، فهم قد يجيدون تركيب المحركات وفكها، ولكنهم لن يعرفوا أبدا قوانين الميكانيكا باعتبارها علما يتضمن الفيزياء والرياضيات وتخصصات أخرى لا أعرفها.