عرف المغرب ، في العشرية الأخيرة، تطورا مهما في جميع الميادين المرتبطة بالخدمات المقدمة للمواطنين و المواطنات من خلال سياسة تطوير المرافق العامة و تبني سياسات عمومية تستهدف الرفع من مستوى نجاعة المقاربة التشاركية و ترسيخ الحكامة الجيدة و تبني صورة حديثة لمفاهيم مثل تقريب الإدارات و المرافق العمومية للمرتفقين عموما . ويبقى القطاع الصحي أحد أهم الميادين نظرا لحساسية و قداسة ما يقدمه من خدمة تعكس أدوارا اجتماعية كبرى و مسؤولية تنموية جسيمة ، ففي هذا الإطار ظهرت معطيات تؤكد تراجع دور المستشفيات العمومية و نجاعة السياسة الاستشفائية ، و تنامت في نفس السياق ظاهرة استثمارية جادة تهم الميدان الصحي من خلال المصحات الخاصة تتخذ غالبا شكل شركات تجارية تمارس مهام تقديم الخدمات الصحية لفائدة زبنائها وفق شروط إذعانية لا تقبل المساومة، مقابل جودة و عناية طبية أعلى مستوى . فهل يمكن الحديث عن توجه استراتيجي يهدف إلى تحقيق الشراكة والتكامل بين القطاعين الخاص والعام، واستفادة المواطنين أولويا من خلال مراعاة مصلحتهم عند التشريع للنظام القانوني المنظم لهذا المجال و القطاع الحيوي و الهام ؟ أم أن النظرة الإستثمارية المؤسسة و المضمونة دستوريا ستكون ضمانة يمكن أن تستعمل بشكل لا يساير المتوقع الإيجابي من هذا التأسيس و التنظيم ؟ يمكن مقاربة هذه الإشكالية الاجتماعية مستقبلا، نظرا لأنها تستهدف الأفراد، و ذلك من خلال زاويتين إحداهما قانونية من خلال تبيان الإطار الدستوري و القانوني، و الأخرى حقوقية حول مدى توفر الضمانات الكفيلة بحماية الفئة المستهدفة من قبل المصحات الخاصة و الاستشفائية . المحور الأول : المظاهر القانونية المؤسسة للاستثمار في قطاع الصحة لما كان الدستور هو أسمى قانون في الدولة فإن الضمانات و الحريات المنصوصة في متنه هي منارة تشريعية للقوانين الأخرى التي تتوخى تنزيل مراميه ، فإن الدستور نص في فصول مختلفة على مسؤولية الدولة في دعم القطاع الصحي ، فقد جاء في دستور 29 يوليوز 2011 ضمن الفصل 31 أن : « تعمل الدولة و المؤسسات العمومية و الجماعات الترابية ، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسر أسباب استفادة المواطنات و المواطنين، على قدم المساواة ، من الحق في : - العلاج و العناية الصحية » . و تبقى الضمانات المكفولة دستوريا كذلك بالنسبة لحرية المقاولة و المبادرة و الاستثمار بوجه عام، داعمة أساسية للتنافس في جميع المجالات وفق الشروط التي يحددها القانون ، فقد نص الفصل 35 من الدستور المغربي في مطلع فقرته الثالثة على ما يلي : « تضمن الدولة حرية المبادرة و المقاولة ، و التنافس الحر . « كما أن الشكل القانوني الذي يمكن أن تتخذه المصحات الخاصة من كونها شركات تجارية تعطيها الصبغة و الشكل التجاري و تتمتع بكافة الضمانات التي يوفرها القانون التجاري و تعتبر الخدمات و الأعمال التي تقوم بها أعمالا تجارية استنادا إلى شكلها مما يمكن أن ينتج عنه تهرب الشركة ، الشخص المعنوي ، من الوفاء بعديد التزاماتها سواء مع زبنائها أو صعوبة إلزامها ككيان معنوي للخضوع إلى نظام المسؤولية التقصيرية ، حيث يمكن أن يخلق الخطأ الطبي إشكال إسناد المسؤولية الشخصية بناء على الخطأ الشخصي المرتكب من قبل الطبيب الذي يعد مستخدما داخل المصحة الخاصة ، في حين أن المطالبة القضائية و المواجهة بحكم قضائي قضى بالتعويض يكون في مواجهة الشركة التي يمكن لها كباقي الشركات كذلك حق الاستفادة من مساطر صعوبات المقاولة، و أساسنا حكم المحكمة التجارية بالدار البيضاء الذي قرر في حيثياته : حيث أن طلب المدعية يرمي إلى الحكم بإخضاعها لنظام التسوية القضائية و ذلك لتوقفها عن سداد ديونها... وحيث أن المدعية تمارس نشاطا يكمن في تقديم الخدمات الطبية و تعمل في إطار شركة ذات المسؤولية المحدودة... ارتأت فتح مسطرة التسوية القضائية في حق المدعية ...» المحور الثاني : الأمن الصحي بين حرية المقاولة و مهنة الطب. إن الأمن الصحي في مفهومه الشامل لا يقتصر على الخدمات الصحية التي تقدم وفق جودة و مهنية عالية وفق حس المسؤولية و الالتزام، بل تتعداه إلى ضوابط و مقاربات أخرى يمكن أن تنعكس من خلال مجال تقديم الخدمات الصحية و احتكارها إلى مؤسسات أخرى متداخلة و معنية بصفة مباشرة بالقطاع الصحي ، إذ أن مؤسسة التأمين الصحي يمكن أن تتأثر ببروز نسيج المصحات الخاصة من خلال استنزاف صناديق التأمين الصحي بتطبيق قانون يرخص و يؤطر لعمل المصحات الخاصة و يشرعن حق الاستثمار و المبادرة و المقاولة في إطار « الشركات الصحية «، ما سيشكل خطرا على منخرطي هذه الصناديق وعلى استمرارية التأمين الصحي ،و حيث أنه بناء على مشروع قانون متعلق بمزاولة الطب المنشور في الموقع الخاص للأمانة العامة للحكومة نجده حقا يؤسس للاستثمار في المجال الطبي عن طريق الاستثمار في المصحات الخاصة وفق ضوابط محددة و تحديد للمسؤوليات . و حسب ما يمكن رصده من خلال هذا القانون و مضامين بنوده هو ما أشارت له المادة الثانية من مشروع القانون إلى أن «مهنة الطب لا يجوز بأي حال من الأحوال وبأي صفة من الصفات أن تمارس باعتبارها نشاطا تجاريا، يزاولها الطبيبة أو الطبيب مجردا من كل تأثير، وازعه فيها علمه ومعرفته وضميره وأخلاقه المهنية». و التي يمكن الاحتجاج بها على سبيل إبراز التناقض بين مضمونها و ما جاءت به المادة58 من نفس القانون و التي قررت : «يمكن حيازة المصحة من قبل شخص ذاتي، شريطة أن يكون طبيبة أو طبيبا، ومن قبل مجموعة من الأطباء، أو شركة تجارية، أو شخص معنوي خاضع للقانون الخاص لا يهدف إلى الحصول على الربح. إلا أنه يمنع على أي مؤسسة مسيرة للتأمين الصحي الإجباري إحداث أو إدارة مصحة أو مؤسسة مماثلة لها » . غير أنه باعتبار أن المادة الثانية رفعت عن مزاولة الطبيب لمهنته الصفة التجارية ، فإن إقرار المادة 58 بأن تمارس الشركة التجارية للخدمات المقدمة بمناسبة مزاولة الطب من أطباء لا يمكن اعتبارهم تجارا أو أنهم يتعاطون الطب بهدف الربح لأنهم في موقع أجير تربطه علاقة تعاقدية مع الشركة التجارية مقدمة الخدمة الطبية أو الصحية أو الاستشفائية . و يبقى النقاش ضروريا و التشاور إلزاميا مع مختلف الهيئات و الفاعلين المعنيين، لإتاحة قانون يضمن الأمن القانوني للمواطنات و المواطنين و يكون مؤسسا على معطيات و تجارب تشريعية مقارنة تؤتي أكلها ، خصوصا و أن المرفق الصحي يشكل بالنسبة للمغاربة هاجسا كبيرا و أن السياسات العمومية ينبغي عليها في إطار ترسانتها التشريعية، أن تكون لفائدة المواطن بالدرجة الأولى . * ( باحث في القانون الخاص)