أكد د/ الخمار العلمي، أستاذ التعليم العالي في مادة سوسيولوجيا التربية، على أن إشكالية إصلاح منظومة التربية والتكوين في المغرب، أعقد إشكالية لأنها تحيل على مختلف عناصر المجتمع الحاسمة في النمو والتنمية من اقتصاد واجتماع وسياسة وعلوم وغير ذلك، مما له تأثير مباشر أو غير مباشر على استراتيجيات هذا الإصلاح، ولذلك يثير عادة إصلاح هذه المنظومة جدلا واسعا لذى كل الأطراف المتدخلة في هذا الموضوع، استنادا لما قاله جاستون باشلار'' إن الرهان الحقيقي هو أن يكون المجتمع من أجل المدرسة لا أن تكون المدرسة من أجل المجتمع''، مشيرا، أنه ينتج عن هذا التدخل الكثيف غموض ولبس يكادان أحيانا، وخاصة عندما يلبس لباسا سياسويا أو ايدولوجيا، أن يضفيان عليه طابع الأزمة الدائمة التي تخفي كل الاختلالات التي تعرفها حقول التنمية والسياسة العمومية، لهذا الاعتبار ينبغي على الباحث في هذا الحقل أن يحترس من الوقوع في ما يعممه بادئ الرأي من كون هذه المنظومة تعيش أزمة خانقة، ولتجنب هذا المسار من التفكير والفهم والتفسير علينا أن نطرح الأسئلة الجوهرية التي تهم إصلاح منظومة التربية والتكوين، ولعل السؤال المركزي هو أن نقوم بقلب المعادلة بحيث بدل أن نسأل ما المشروع التربوي للمجتمع المغربي علينا أن نسأل أولا: كيف نفكر في مشروع مجتمعي أساسه التربية؟ وبعده يأتي سؤال المشروع التربوي للمجتمع، أي أن المشروع التربوي للمجتمع المغربي يستمد من سياق المشروع المجتمعي للمغرب المعاصر ومن غاياته. إن طرح الأسئلة الجوهرية المرتبطة بإصلاح نظام التربية والتكوين، يقول السوسيولوجي الخمار العلمي، «إنه يجنبنا كثيرا من المغالطات التي دأب الكثير، ومن دون فحص أو تدبر، على إثارتها والاحتماء بها مما يشكل عائقا حقيقيا أمام فهم عناصر القوة وعناصر الخلل في تطبيق ميثاق التربية والتكوين باعتباره أساسا ومرجعية وطنية للإصلاح»، قائلا، «كيف نفكر في مشروع مجتمعي أساسه التربية يجنبنا إصدار أحكام عامة وقبلية على الإصلاح، وحمل التعليم كافة اختلالات الاقتصاد والسياسة العمومية؟، ذلك أن غياب مشروع مجتمعي قابل للتحقق وفق مقاصد الدولة العصرية: الحداثية والديمقراطية يؤثر بشكل سلبي على تصور غايات التربية والتكوين، إننا في حاجة ضرورية إلى تحليل عميق ونزيه – كي لا نقول موضوعي لصعوبة تحقيقها- لحقل التربية والتكوين والتأهيل يتجاوز، من جهة، النظرة الضيقة والمتسرعة المرتبطة بتحقيق مصالح ومنافع آنية عادة ما تحقق انتصارات عاجلة لكنها تظل أنانية ومتسرعة يصعب الحكم على نجاعتها وفق مبادئ التقويم العقلاني الذي يربط النتائج بالأهداف والاستراتيجيات. ويتجاوز من جهة ثانية ما يصدر عن بادئ الرأي في هذا المجال الذي يحتاج إلى التأني والحكمة والتشاور وتحليل المعطيات، وفي هذا السياق ينبغي تجنب أربعة مزالق- أحكام مرجعيتها بادئ الرأي والتسرع : 1-الحكم بإطلاق أن التعليم في أزمة دائمة، لقد حققت المدرسة المغربية والجامعة المغربية مطالب مجتمعية في غاية الأهمية على مستوى تعميم التعليم، بحيث يلزم اليوم أن نستثمر هذا المعطى الكمي في تحقيق الكيف أي جودة التربية والتكوين ولذلك نحن في حاجة إلى ميثاق للجودة، وعل مستوى السعي إلى تحقيق تكافؤ الفرص وتكوين الأطر الضرورية لأجهزة الدولة ومؤسساتها ودعم المقاولة بالأطر ذات الكفاءة العالية، وحينما يتم ربط التربية والتكوين بقطاع الشغل وتحميله مسؤولية بطالة الخريجين لوحده وتبرئة قطاعي الشغل والمالية نقوم بمجازفة غير محمودة النتائج، ذلك أن التعليم يرتبط ارتباطا عضويا من جهة مع الاقتصاد الوطني ومن جهة ثانية مع المقاولة والقطاع الخاص، فهذا الأخير يتحمل مسؤوليته في افتقاره لاستراتيجيات ربط نمو المقاولة بالحاجة إلى تكوينات تلائمه، فالطلب لا يلائم العرض، تنتقي المقاولة ما يلبي طلبها وغالبا ما لا تقدم عروضا بغاية توفير تكوينات تستجيب لمطالبها، وهكذا تخلق هوة عميقة بين حاجات التكوين وحاجات المقاولة، وهي سر هذه الأزمة التي يريد الجميع أن يحملها لمنظومة التربية والتكوين لوحدها. 2- مسألة الفصل بين التكوين المهني والتربية والتعليم، رغم أن الميثاق قد ربط بين الحقلين ربطا استراتيجيا إلا أن الحاصل هو الفصل، وهذا الفصل يجعل قطاع التربية والتكوين قطاعا نظريا أكثر مما هو قطاع يجمع بين النظري والتطبيقي- التأهيلي، هذا فضلا عن استفادة التكوين المهني من نتائج التربية والتعليم فالتلميذ قد يقضي ما يعادل عشر سنوات في المدرسة أو أكثر إذا ولج الجامعة أو أي مؤسسة أو معهد جامعي دون أن تظهر نتائج تحصيله أو تملكه للكفايات المسطرة في برامج ومناهج التكوين، لكنها تتحقق في ظرف سنة أو سنتين حين يلج مؤسسة للتكوين المهني أو الحرفي ويحسب نجاحه لها، وهكذا نبخس المدرسة قيمتها وجودة التعلم والتكوين، إذ يتناسى الكثير أن اكتساب المهارات والمعارف وتملكها ونمو الكفايات سيرورة مستمرة وطويلة الأمد لا تبرز إلا في الاستعمال الاجتماعي للمعرفة والمهارات والقدرات.أي خارج المدرسة ولذلك لا تحسب لصالحها بل لصالح مؤسسات التكوين الأخرى، إن الربط بين التربية والتكوين سيجنبنا هذه الأحكام وسيقوي جودة التعلمات والتكوينات. 3- مسألة التوجيه التربوي والتقني، تعتبر هذه المسألة مركزية في مشروع الميثاق إذ حث على التوجيه وجعله مكونا أساسيا من مكونات الاختيارات والتوجهات التربوية الاستراتيجية، هكذا تبنت المراجعة الجديدة للمناهج التربوية - وفق براديغمات جديدة- ثلاث مداخل أساسية لهذا البناء هي مدخل الكفايات ومدخل القيم ومدخل التربية على الاختيار، وقد ظل هذا الأخير رهينا بمدى قدرة كل مؤسسة على الطاقة الاستيعابية، أي أن الخريطة المدرسية بقيت بكل اكراهاتها هي المهيمنة على التوجيه التربوي والمهني والتقني، وجميع المهتمين بالشأن التربوي يعلمون أن جودة التكوين رهينة بجودة التوجيه، وللتذكير فقط بفداحة غياب التوجيه أو خضوعه لاكراهات خاصة هو أن التوجيه نحو التعليم التقني بكل فروعه لا يتعدى إلى الآن نسبة 4.8%، ولعله سبب من أسباب صعوبة استجابة المنظومة لحاجات الشغل إذ في غياب توجيه يستجيب لمنظومة المهن الجديدة ولحاجات المقاولة إلى تكوينات معينة يسير قطار التربية في وجهة غير آمنة: البطالة. 4-ولعل المسألة العويصة التي تحتاج إلى قرارات سياسية شجاعة ومدروسة هي مسألة لغات التدريس وتدريس اللغات، من الصعب بكل نزاهة تقويم المستوى اللغوي للتلاميذ أو مدى ملاءمة تعلمهم للعلوم بين الثانوي بسلكيه والعالي، ذلك أن تقويم الصعوبات أو الاختلالات في التكوين بلغة من لغات التدريس يستدعي تعميمها على الأسلاك كلها، أي أن ندرس بالعربية أو بلغة أجنبية ولتكن الفرنسية راهنا لتوفر الكفاءات في هذا الباب كي نستطيع تقويم التعلم والتكوين، في غياب هذا النوع التجريب وحدها إرادة سياسية متوافق عليها المخرج الممكن للخروج من النفق، أما تدريس اللغات فأمر في غاية الصعوبة يتطلب لأولا تدخل أهل الاختصاص من لغويين ولسانيين وسيكولوجيين وأنتروبولوجيين وسوسيولوجيين وعلماء العلوم العصبية لأنهم الأقدر على فهم تعقيدات منزل الوجود بلغة هيدجر، ويتطلب تبني آليات فعالة للتقويم ملائمة لتقويم اكتساب اللغة وطرق تعلمها». كما أوضح المتحدث، أنه هكذا تعكس المدرسة مرايا المجتمع، ومن ثم تعكس أزماته في مجالات الاقتصاد والسياسة والاختيارات اللغوية والرهانات التنموية، ولهذا ينبغي أن لا تختزل أولويات المدرسة في مجرد إصلاحات تقنية تمجد داروينية جديدة يكون فيها البقاء لما يخدم مصالح سياسوية عابرة، فزمن المدرسة طويل الأمد ونتائج الإصلاح مستقبلية بينما حاجات السياسوي آنية، وبين الموقفين برزخ يكاد لا يعبر، مبرزا، أنه عندما نتفادى الوقوع في هذه المنزلقات يمكننا أن نقدم ما هو ضروري للإصلاح اليوم، إن إصلاحا عقلانيا وشاملا لمنظومة التربية والتكوين يتطلب الجواب الموضوعي والمتوافق عليه من طرف الفاعلين الأساسيين في هذا الحقل، وهذا يتطلب تقويما علميا دقيقا لما أنجز من الميثاق وما لم ينجز وللاختلالات التي صاحبت هذا الانجاز وأسبابها وظروفها وتقديم بدائل جديدة تناسب التحولات السريعة التي يعرفها المجتمع ويحتاجها شباب اليوم- من الرجال والنساء الذين سيتحملون مسؤولية الغد، فحين يكون للمجتمع مشروع عقلاني وقابل للتحقق يمتلك مشروعه التربوي باعتباره أداة لتحقيق هذا المشروع فيتداخل المشروعان، فلا تكون التربية في قلب مشروع تقدم المجتمع إلا حين يسيران معا في طريق واحد هو طريق النماء والتقدم الإنساني والتحرر من كل قيود التخلف واحترام الذكاء المغربي، إنه المدخل الضروري لإصلاح التربية والتكوين وتحقيق الغايات الأساسية للمدرسة. وحسب ما يراه الدكتور العلمي، تتمثل الغايات الضرورية للمدرسة ورسائلها الأساسية الآن في ما نسميه الضروري للإصلاح في تعليم الأطفال والشباب التجارب الإنسانية والخبرات البشرية وتحصيل المعارف الضرورية العلمية والأدبية والفنية والتكنولوجية باعتبارها معارف ذاتية مكتسبة ومتملكة بغاية استثمارها في حل المشكلات التعلمية والوضعيات الإدماجية والاجتماعية الكفيلة بنماء الكفاية، وفي تربية الذكاء في مختلف أشكاله التحليلية (المجردة) والاستنتاجية (إنتاج خاص)، والإبداعية والتركيبية (القدرة على التركيب)، والعملية والاجتماعية، أي الذكاءات السياقية والتجريبية والتصورية (جاردنر وستنرنبر) الهادفة إلى توسيع فضاء التفكير وممارسة النقد، ثم في التشبع بالقيم المبنية على العقل وممارستها كي تصبح قيما ذاتية مثل تحمل المسؤولية والاختيار والاحترام المتبادل وبذل الجهد وتقدير الذات والآخر وحب الوطن والمعرفة وتذوق الآداب والفنون وغير ذلك من القيم التي تساعد على تفتح الشخصية وتكونها ونضجها واستقامتها، وكذلك في تكوين وتأهيل الكفاءات ذات المهارات والقدرات الضرورية للانخراط في سيرورة التحول الذي تعرفه المهن ومواكبة الجديد منها ، وفي حركية المجتمع وتجدد حاجاته وتنوعها، إنها وضعية تحدي مستمر واستثمار في الموارد البشرية باعتبارها ذوات ذكية ومتضامنة، مشيرا، أنه المطلب الضروري في الإصلاح الذي بدونه يظل أي تصور لمشروع التربية والتكوين ساحة فسيحة لحروب إيديولوجية وسياسوية ضحاياها أطفال وشباب اليوم ومصير المجتمع والدولة، وحين نبدأ بتحقيق ما هو ضروري لكل إصلاح يمكن أن نركب جميعا قطار الإصلاح حيث كل يفكر من مقصورته لوصول محطة المستقبل إذ التفكير في التربية هو تفكير جماعي في المستقبل، ومن ثم خطورته وتعقيده وصعوبته يصدق عليه ما قاله الحطيئة في الشعر، طويل سلمه إذا ارتقى إليه من لا يعرفه زلت به إلى الحضيض قدمه.