تقدم المرحلة الراهنة والنقاشات المحيطة بها، في بعض الكتابات الصحافية وبعض الافتتاحيات، كما لو أن الأمر يتعلق بأحجية بوذية قديمة علينا فك شيفراتها، وهو ما يستحيل على من لا يتقن اللغة السنسكريتية الأولى، أو كفيلم هتشكوكي مليء بالمغامرات والخدع البوليسية، وليس التاريخ، في صناعته الراهنة أو في مترسباته أسئلة يطرحها المجتمع لأنه قادر على إيجاد الأجوبة عنها. وبهكذا فهم تم التعليق على مبادرة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حول فتح نقاش جدي حول قضايا من صميم التكوين البنيوي للشخصية المغربية، تراثية كانت أو حاضرة. ومن صميم المعيش المغربي، اليوم وغدا، هنا والآن. وهي قضايا التعدد الزوجي، الإرث والاغتصاب الذي يسبق الزواج والعنف. في القراءة الأولى، اعتبرت إثارة الموضوع «معركة خاسرة»،. لماذا؟ لأن قضايا من هذا القبيل ليست ذات راهنية. بطبيعة الحال، يبدو أن الإطلاع على آخر الأخبار في مثل هكذا فهم هو .. الرجوع الى «صحيح مسلم». أو أن الأنباء الطازجة هي التي سنقرأها نهاية الأسبوع الجاري مدونة في .. سنن الترمذي: لنوضح: إذا لم تكن قضايا نعيش بها 14 قرنا قد نضجت وحان أوانها، فمتى تنضج يا ترى؟ لنوضح: هذه القضايا، بعضها يعود إلى أربعة عشر قرنا، وبعضها الآخر تحكمت فيها سنوات التفسير الراكد للقرآن الكريم وسيرة النبي الأمين.. ويبدو في رأي بعض زملائنا وأصحاب التحليل أن هذا الوقت الطويل وكل التحولات، وكل تفاعلات الحضارات والثقافات، لم يكن كافيا - زمنيا وموضوعاتيا - لكي يتم التفكير فيها. و14 قرنا غير كافية في النقاش حول مواضيع هي من نتاج المراحل السابقة، ومنها من هي من نتاج الاجتهاد وبعضها لا اجتهاد فيه.. ولكن بعضها، أيضا، لم يكن في وارد الحديث : مثل الاغتصاب والعنف، إلى حين قريب من الدهر. ألم تكن «الرجولة المشفوعة بالإيمان»، في أعراف المجتمع وأعراف بعض النخب حتى، هي القدرة على «تربية الزوجة» و على التحكم المطلق والنهائي في قدرها وقدر الأبناء؟ من يستطيع أن يقول الآن أن الجينات تغيرت، حتى الفكر تغير؟ أذكر بالمناسبة ذلك التقديم البهيج الذي قدم به مالك شبل، كتابه الجيد حول إصلاح الإسلام، وقد اختار، منذ بداية تقديمه لمجهوده، أن يضع ما يعتبره معابر ضرورية لإصلاح حالتنا في سياق المفكرين المتنورين، لهذا فهو يلح منذ البداية على أنه»لا يمكن أن نصلح إصلاحا عميقا إلا الأشياء التي نحبها بعمق وقوة إحساس، وهو ما ينطبق على حالتي، وإذا كنت أدلي بهذا الاعتراف في بداية الكتاب، فذلك لكي أذكر من يهمه، ذلك أن الهدم والثأر لا يمثلان بالنسبة لي غاية، سواء كانت معلنة أو مستترة، بل العكس هو الصحيح، إذ أقتسم مع محمد إقبال، المصلح الأفغاني، الذي عاش في بداية القرن فكرة «إعادة بناء» الإسلام، وأشاطر مالك بن نبي إرادته في إدخال المزيد من الانسجام في التفكير حول الإسلام، وأشاطر العديد من علماء اللاهوت، من ينتمي منهم إلى السنة ومن ينتمي منهم إلى الشيعة، كل حسب مجال اهتمامه الخاص، فكرة مصالحة الإسلام مع عصره، وهناك العديد من المفكرين الذين ينتسبون إلى حقل العقلانية الواسع منهم محمد الطالبي في تونس ومحمد أركون في فرنسا وبشارة خضير في بلجيكا ومحمد سعيد العشماوي وناصر أبو زيد في مصر ومحمد عابد الجابري في المغرب، الطامحين الى إخراج النقاش من المرحلة النبوية والتبشيرية التي يحشر فيها غالبا ، من أجل إدراجه في مرحلته التاريخية». وفي سياق التوقيت (غير المناسب)، تعللت بعض القراءات بكون «الربيع العربي قلب الموازين ووضع الانتقال الديموقراطي في أولوية الأجندة» أو تقريبا .. والحقيقة، إذا كان الزمن الحضاري برمته، مضاف إليه سنوات الربيع العربي غير كاف لإنضاج قضايا جوهرية، ولا أعتقد بأنه بعد أن تستقر الردة المحافظة والرجعية، سيمكن فعل ذلك. ثانيا، ما الذي يجعل أولوية الانتقال الديموقراطي لا تمس بالضرورة الانتقالات الأخرى؟ ديموغرافية، ثقافية، لغوية، مجالية،،،. ألم يكن هو ذا صلب الانتقال الديموقراطي في صيغته الأولى - التناوب - وماذا يعني أن يسكت التاريخ لتتحدث الأجندة الخاصة بالمحافظين الجدد؟ ألا يعني ببساطة أن نعود إلى ماقبل التناوب الأول والثاني، وما قبل الربيع.. وكيف نحتمي بالديموقراطية من النقاش الثقافي والفكري؟ أليس هذا يعني- في المحصلة - التسليم باستبداد الثقافي كذريعة وتعليل لكل أنواع الاختلال في المجتمع؟ لنتساءل ونترك أصحاب الاختصاص يناقشون. قراءة ثالثة جعلت من مبادرة الاتحاد «استباق زمني ومكاني» لاختيار المغرب لاستقبال المنتدى الدولي لحقوق الإنسان: وهي إشارة تعني أن هناك مؤامرة خارجية ضد المغرب. وهو موقف سهل إخراجه عند انعدام الحجة القوية في النقاش. حقيقة الأمر أن المغرب يتجه نحو الآفاق الواسعة للنقاش الذي لا تؤطره الطابوهات: في السياسة والثقافة والتدين والحقوق والحريات، ولن يقبل المجتمع سوى الجواب الذي يستسيغه تطوره. بدون سيوف سابقة تثقب الرؤوس بحثا عن الأفكار التي لا تحبها. وقبل ذلك وذاك، لا شيء سيحدد لحزب له تاريخه الكبير معاركه، لأنها ليست من النوع الدونكيشوطي، ولا هي مع التماسيح والعفاريت (الذين يجتهدون في إرجاعهم إلى البلاد وبحوزتهم حقائب رهيبة من المال المهرب!!). ويجب ألا ننسى أن مفاهيم مثل حقوق الإنسان والاقتراع وحقوق الفرد، والسيادة الشعبية.. كانت تنعت بالكفر أحيانا، وبالإلحاد أحيانا أخرى، كانت كلها مفاهيم تنعت بالمستوردة وخارج الأمة وبعيدا عن الهوية.. واليوم أصبح الحديث عن الانتقال الديموقراطي لفائدة القوى المحافظة يستوجب أن نحافظ على المنطق الذي حاربت به كل مقومات الانتقال الديموقراطي.. في جهة ما يبتسم الافغاني ومحمد عبده. وفي جهة ما يرتق التاريخ جسده الذي يقتطع منه ما يشاؤون لتبرير الجمود والهجوم على المخالفين..