جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    أحمد الشرعي مدافعا عن نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية سابقة خطيرة وتد خل في سيادة دولة إسرائيل الديمقراطية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا اختلفنا مع الفقيد الجابري في السياسة؟
نشر في بيان اليوم يوم 09 - 06 - 2010

استكمالا للنقاش الذي بدأناه في المقال السابق عن مواقف الراحل الجابري في السياسة، نود أن نوضح مرة أخرى هنا أن ليس هدفنا مقاربة فكر الجابري في حد ذاته، ولكن أن نقف فقط عند تبعات ذلك على المواقف السياسية التي تأثرت بها نخبة مهمة من النخبة اليسارية في المغرب أو العالم العربي. والسؤال الذي طرحناه، كيف لنا أن نطمأن لخلاصات نظرية هي مستمدة من دراسة لجزء فقط من التراث العربي لما قبل القرن الثالث عشر، أن تعطينا أجوبة عن إشكاليات سياسية واجتماعية نواجهها في القرن الواحد والعشرين؟.
لقد وقفنا في المقال أعلاه، عند حدود أطروحة «العقل العربي» نفسها في الإحاطة نجمل التراث العربي الإسلامي، باعتبار أن ما عالجه الجابري على هذا المستوى، لا يمثل سوى جزء بسيط من هذا الأخير، وأن مجالات واسعة من واقع المجتمعات العربية والإسلامية في تلك المرحلة، كالبنيات الاجتماعية أو الثقافات الشعبية، أبقاها غائبة عن ناظره. وبالتالي كيف له أن يصدر أحكاما على واقعنا الراهن انطلاقا من معطيات لا تهم إلا جزء ضئيل من التراث، هي ما تمثله الثقافة العالمة التي بقيت مدونة في الكتب؟ ولذلك تساءلنا ألم يكن ما قام به الجابري هو مجرد عملية اختزالية، أو أنه بقي «غريبا» حتى عن ذلك الواقع القديم؟
في المقال نفسه مهدنا الطريق للحديث أيضا، عن «غربة» من نوع آخر سقط فيها الجابري، هي غربته عن العصر الراهن، وذلك حين اختار الماضي والتراث للبحث فيه عن أجوبة لقضايا آنية. وبهذا نكون أمام «غربة» مضاعفة: غربة عن الواقع الاجتماعي لذلك العصر وغربة عن العصر الحالي.
إن الخطأ الذي بقي العديد من المفكرين متجاهلين له، وليس الجابري وحده، بل سبق وأن انتقدنا حتى عبد الله العروي بشأنه، هو الاستمرار في مقاربة الواقع المغربي (أو أي مجتمع آخر)، وكأنه جزيرة مستقلة بذاتها وخارجة عن تأثير النظام العالمي، وأن ما يحدث داخله هو شأن محلي، أو نتاج محض لتفاعلات آلياته وقوانينه الداخلية الخاصة، في استقلال عما يحكم النظام العالمي.
أتذكر في نقاش قديم بين اليساريين حول طبيعة البنية الاجتماعية للمغرب الكولونيالي، أن طرح السؤال (برفع الطاء): لماذا استمر المخزن والدولة العلوية في حكم المغرب، ولم يستمر نظام البايات في الجزائر أو تونس؟ وإذا اتجه الجميع للبحث عن أسباب ذلك في التاريخ القديم للمنطقة وفي نظام القبائل والزوايا وطبيعة الأنظمة السياسية التي كانت قائمة فيها، لم يقبل أحد ملاحظتنا آنذاك، بأن تفسير ذلك إنما يجب أن نبحث عنه عند الطرف الآخر، أي في طبيعة المستعمر الفرنسي نفسه. لم ينتبه أحد آنذاك أن الرأسمالية الفرنسية التي سعت إلى استعمار الجزائر قبل منتصف القرن التاسع عشر، كانت لا تزال ناشئة، تتكون فقط من أصحاب الرساميل أو المشاريع الصغيرة، وبالتالي هي في حاجة لأن تستغل مباشرة ثروات المستعمرات بدون وسيط محلي. وهو ما أعطى ظاهرة المعمرين، حين وصولهم الى المنطقة المستعمرة قاموا باجتثاث مختلف البنيات القائمة وفي مقدمتها البنيات السياسية، وحكم البلاد بشكل مباشر. بينما حين وصل الاستعمار إلى المغرب في بداية القرن العشرين، كانب الرأسمالية الرنِية قد تحولت إلى رأسمالوة احتكاءية مكونة من شركات كبرى، لم يكن أصحابها في حاجة لأن يتواجدوا أو يحكموا المغرب بشكل مباشر، ولكن يكفيهم أن يوظفوا لذلك الوسطاء المحليين من نخب المخزن والزوايا، وبالتالي الحفاظ على البنيات القائمة وعلى رأسها الدولة العلوية في إطار نظام للحماية. ولم يكن ليوطي سوى الرجل المناسب الذي عرف كيف يخدم الرأسمال الاحتكاري الفرنسي آنذاك.
أذكر بهذا المثال فقط، لأربطه بموضوعنا وبالإشكالية التي طرحها التعامل مع التراث في العالم العربي.
فقد قامت النهضة الثقافية العربية حين انطلاقها في أواخر القرن التاسع عشر، على يد الأفغاني ومحمد عبده، على أساس إعادة قراءة التراث القديم ومحاولة البحث فيه عن أجوبة للإشكالية التي طرحها الاستعمار الأوروبي لبعض مناطق العالم الإسلامي. وإذا عرفنا أن النظام العالمي الذي نتحدث عنه هنا، وإن كانت بدايته تعود إلى زمن أسبق، فإن معالمه الأساسية إنما تشكلت في هذه المرحلة بالذات مع ظاهرة الامبريالية. ففي هذا التاريخ بدأت الرساميل تتراكم في انجلترا وفرنسا بالخصوص، لتفرز ما يعرف بالرأسمال الاحتكاري، هذا الأخير الذي لن يكتفي باستغلال المستعمرات تجاريا فقط عبر تصريف بضائعه، ولكن بالانتقال إلى عين المكان للاستثمار واستغلال قوة العمل الموجودة به بالإضافة إلى المواد الأولية، وذلك ما وضحه لينين جيدا في كتابه «الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية».
وهذا يعني أن انطلاق النهضة العربية في تلك الفترة لم يكن صدفة، ولم يأت عن تطور داخلي محض، وإنما هو نتاج للنظام العالمي نفسه، أو هو الوجه الآخر لنفس العملة التي يمثلها تطور الرأسمال الاحتكاري في الغرب. ولهذا سيكون خاطئا من يحاول تحليل هذه النهضة بدون فهم سابق للآليات المتحكمة في النظام العالمي آنذاك، ولا أن يفهم ما سيحدث لاحقا بدون تتبع لتطورات هذا الأخير.
في هذا الإطار، ثار نقاش طويل، حول العلاقة الممكنة بين تلك القوى المتحكمة من الخارج والقادمة في ركب الاستعمار والهيمنة الرأسمالية، وبين القوى المفترض أنها محلية وداخلية. أو بعبارة أخرى بين ما ينعت بالمعاصرة أو التحديث أو التقدم ... وبين ما ينعت بالأصالة أو التقليد أو التراث .... وقد ساد فهم مغلوط عند البعض، عندما نظروا إلى هاتين القوتين وكأنهما شيئين مفصولين ومستقلين تماما بعضهما عن بعض، أو كما يحلو لهم أن يوصفوا ذلك وكأنهما «روحين» مختلتين، «روح» شرقية، عربية وإسلامية... لها جوهر خاص غير متغير، في مقابل «روح» غربية رأسمالية مسيحية... لها هي أيضا جوهرها غير القابل للتغيير. وأن القوتين إذ لا يمكن أن تندمجا فيما بينهما أو تذوب الواحدة في الأخرى، كما لا يمكن أن تنفي بعضها بعضا، فأكثر ما يمكن القيام به على هذا المستوى، هو ترتيب نوع من التعايش بينهما مع حفاظ كل طرف على جوهره الخاص، أو كما نظر له البعض في صيغة أكثر اعتدالا باسم التوفيقية كما عند الجابري.
كان ينظر في البداية للعلاقة بين القوتين، على أن لكل واحدة مجالاتها الخاصة في المجتمع: المعاصرة ستتكلف بمجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد العصري، بينما تبقى مجالات الثقافة والبنيات السياسية والعلاقات الاجتماعية والتدين من اختصاص الأصالة. غير أن الاكتساح المتزايد للمعاصرة نحو مجالات أوسع فأوسع، كالثقافة بعد تطور التعليم العصري، أو السياسة بعد فرض بعض من خاصيات الدولة المعاصرة، أو العلاقات الاجتماعية بعد التحول من مجتمع الريف إلى مجتمع المدينة...ألخ، جعل مجال الأصالة يتقلص أكثر حتى لم يبق سوى حقل التدين أو بعض المظاهر الهامشية من الحياة الاجتماعية، لأن تتحصن فيه.
إن ما نختلف فيه مع مثل هاته النظرة للأشياء، هو القول بالثنائية بين روحين أو جوهرين منفصلين بعضهما عن بعض، لا مجال للاندماج فيما بينهما: جوهر شرقي وآخر غربي، أو كما في ثنائية ديكارت، واحد مادي جسدي وآخر روحي فكري. ففكرة الجوهرانية، وربيبتها الثنوية، والتي هي قديمة جدا، أسس لها بالخصوص أفلاطون عبر نظريته في المثل، وكرسها اللاهوت المسيحي ثم الإسلامي، إنما تنفي قدرة التاريخ على تعديل أو إحداث تغيير في هذه الجواهر، أو أن هذه الجواهر إنما تبقى خارجة عن منطق التطور. وهذه الجوهرانية هي بالضبط ما تقوم وراء دعوات مثل الهوية أو الخصوصيةأو صراع الحضارات.
في المقابل، وباسترشادنا بنظريات النظم والتعقيد والتطور، نعتقد أن لا وجود ونحن هنا إذ لجوهر ثابت، وإنما كل شيء هو من جهة متغير، ومن جهة أخرى أنه مركب أو عبارة عن نظام Systéme، وفي نفس الوقت هو نظام فرعي أو جزء من نظام أعلى منه. ينطبق ذلك على العالم الفيزيائي كما على عالم الأحياء أو على عالم الأفكار والثقافات. والنظام بشكل عام يتطور حسب ثلاث اتجاهات: تطور أفقي أو بنيوي عبر تكاثر العناصر المكونة له، وتطور وظيفي بتعدد الوظائف والتخصصات داخله، ثم تطور عمودي سّلمي (برفع السين) بتعدد الأدراج أو الطبقات المكونة له. وحتى لا يبقى التكاثر عشوائيا أو بدون مراقبة، يتكلف قانون الانتقاء الدارويني باختيار ما هو أصلح لتقوية النظام وضمان استمراريته، وإلغاء ما هو غير مفيد منها.
وبمحاولة تطبيق هذا التصور على موضوعنا، نشير هنا إلى أن النظام العالمي، بعد أن قطع عدة مراحل في تطوره، من العولمة التجارية والعسكرية ُ ثم هيمنة الرأسمال الاحتكاري مع انطلاق الامبريالية، وعولمة الإنتاج الرأسمالي مع الشركات المتعددة الجنسيات، ثم استكمال العولمة السياسية مع سقوط المعسكر الاشتراكي وصولا إلى العولمة الثقافية والإعلامية مع الفضائيات والانترنيت.
لم يعد مسموحا بعد ذلك، الكلام عن مجتمع عربي أو إفريقي مثلا، خارجا عن النظام العالمي، وثانيا لا يمكن الحديث عن ثقافة عربية أو غير عربية، في استقلال وبمعزل عن واقع النظام الثقافي الكوني. فلم تعد الثقافة العربية أكثر من مكون أو نظام فرعي في إطار هذا النظام الأخير. وبالتالي، قبل الحديث عن خصائص ومميزات الثقافة العربية، لابد من الإحاطة أولا بخصائص والآليات الموجهة للثقافة العالمية.
وثالثا، باعتبار أن الثقافة هي نفسها ليست سوى مكون أو نظام فرعي وظيفي ضمن النظام الاجتماعي لمجتمع ما، فلا يمكن الحديث عن ثقافة ذلك المجتمع بدون الإلمام بالآليات المتحكمة فيه من اقتصاد وسياسة وعلاقات اجتماعية ...الخ.
ثم أخيرا، أن الفكر أو الثقافة العالمة، ليس هو نفسه سوى مكون من النظام الثقافي بجانب مكونات ثقافية أخرى، كالثقافة الشعبية أو الفنون. وبالتالي، بدون إطلاع على هذه الأخيرة يبقى فهمنا للمجال الفكري دائما ناقصا.
في هذا الإطار النظري يجب ?ذن وضع النقاش أعلاه، بين دعاة العودة إلى التراث في ثقافتنا العربية ودعاة التحديث، أو بين المدرستين الفكريتين الكبيرتين اللتين تنازعتا الحقل الثقافي في المنطقة العربية طوال الفترة الممتدة من آواخر القرن التاسع عشر وإلى حدود الآن: المدرسة التراثية أو السلفية ورديفتها النزعة التوفيقية، والمدرسة العلمانية أو التحديثية.
1 - ففي مواجهة التدخل الاستعماري أواخر القرن التاسع عشر في المنطقة، اختار رواد المدرسة الأولى وعلى رأسهم محمد عبده والأفغاني، العودة إلى التراث للبحث فيه عن أجوبة بديلة، ومحاولة مصالحة ذلك مع الواقع الجديد الذي فرضه الصعود الرأسمالي في الغرب. ومن تم، كانت اجتهاداتهم بمثابة تأسيس «لباراديغم» جديد في المنطقة العربية، يسعى إلى التوفيق بين العناصر التحديثية المفروضة من الخارج، وبين العناصر المفترض أنها موروثة عن الماضي، وبالخصوص ما بقي منها مدونا في بطون الكتب القديمة.
غير أن هذا الباراديغم، وباعتباره قائم على التوفيقية بين مرجعيتين متنافستين، سيبقى على الدوام واقع تحت ضغط التحديث المتزايد في المنطقة، وبالتالي متأرجحا ما بين المضي قدما نحو الاندماج التام في منطق الحداثة والفكر المعاصر، أو العودة بين الفينة والأخرى، للبحث عن أصول مفترضة من التراث.
كان أول تحدي واجهه هذا الأخير، هو توزع انقسام تلامذة محمد عبده منذ بداية العشرينيات بين تيارين، واحد أكثر انفتاحا على العصر، يمثله لطفي السيد ثم بعده كل من علي عبد الرازق وطه حسين، والذين سيمهدون الطريق لمن سيعرفون لاحقا بالإسلاميين المتنورين من أمثال حسن حنفي أو جمال البنا أو ناصر حامد أبو زيد...، وتيار ثاني اختار الارتداد أكثر نحو التراث، مثله رشيد رضا ومن بعده جمال البنا وسيد قطب، وكل من سار في ركب الإخوان المسلمين.
بقي التيار الأول قريبا في البداية من التأثير الليبرالي، لكن بعد ثورة الضباط الأحرار وانحياز جمال عبد الناصر إلى جانب المعسكر الاشتراكي، سيخبو دور الإسلاميين الليبراليين ليتفرع بدلهم تيار آخر ارتبط أكثر بالفكر القومي والاشتراكي، في صيغة توفيقية جديدة هي ما عرف بدعاة الإسلام الاشتراكي الذين جعلوا من الصحابي أبي ذر الغفاري نموذجهم.
غير أنه بعد هزيمة 67، وتراجع تأثير حلفاء هذا التيار التوفيقي المتنور سواء من الليبراليين القدامى أو من القوميين الاشتراكيين، سيتدهور موقعهم ويحاصرون أحيانا إلى حد محاكمة بعض رموزه كحامد أبو زيد.
في المقابل، وجد التيار السلفي الآخر المتشدد من مدرسة الإخوان المسلمين، والذي سبق أن تعرض لقمع شرس من طرف نظام جمال عبد الناصر، فرصته الذهبية لينتقم لنفسه، موظفا في ذلك شعور الإحباط والهزيمة الذي أصاب جل النخب العربية، ومستفيدا بالخصوص من الفورة البترولية التي عرفتها دول الخليج ومن دعم التيار الأصولي الآخر في المنطقة المتمثل في الوهابية، ثم من الغطاء الذي وفرته له الولايات المتحدة الأمريكية كمقابل على توظيفه في صراعها مع الاتحاد السوفياتي.
2- أما المدرسة الثانية من أنصار التحديث، والتي أسس لها مسيحيو الشام في البداية، حين مواجهتهم مع الهيمنة العثمانية على المنطقة، وتبعهم بعض مثقفي مصر كرفاعة الطهطاوي، فقد انبثقت عنها هي أيضا عدة تيارات، في البداية ظهر التيار الليبرالي المرتبط آنذاك بحزب الوفد في مصر، ثم ظهر بعده التيار الاشتراكي على يد بعض المثقفين كسلامة موسى، ثم التيار الشيوعي.
غير أن أبرز تيار انبثق عن هذه المدرسة، هو تيار القوميين العرب الذي نظر له أمثال شكيب أرسلان وميشيل عفلق وساطع الحصري ... من الذين حاولوا استلهام التجارب القومية في أوروبا، وبالخصوص التجربة التركية مع كمال أتاتورك.
بجانب هذا التيار التوفيقي الواسع والمتفرع إلى عدة تيارات صغرى، من دعاة الاشتراكية الإسلامية إلى الغلاة التكفيريين، كان هناك تيار آخر منافس له من العلمانيين، انطلق ÷و أيضا منذ أواخر القرن التاسع عشر مع المثقفين المسيحيين في الشام في صراعهم مع الخلافة الإسلامية العثمانية. وقد توزع هذا التيار بدوره إلى عدة تيارات فرعية، انبثق عنه أول التيار الليبرالي، هذا الأخير الذي لم يعمر طويلا في المنطقة العربية، ثم التيار الاشتراكي مع بعض المثقفين كسلامة موسى، ثم التيار الشيوعي، غير أن التيار الأبرز ضمن هذه المدرسة كان هو التيار القومي، الذي حاول رواده من أمثال شكيب أرسلان وميشيل عفلق وساطع الحصري.. استلهام تجارب القوميات في أوروبا، وبالخصوص تجرية القومية التركية مع كمال أتاتورك. وهو التيار الذي سيحتل موقع الريادة في المنطقة، خاصة بعد وصول البعث إلى السلطة في العراق وسوريا، ووصول عبد الناصر في مصر، وذلك إلى حدود هزيمة 97. بعد ذلك سيتعرض بدوره لنكسة كبيرة فيتوزع أنصاره بين فئة قليلة مالت إلى اليسار وإلى الماركسية مع حركة القوميين العرب في فلسطين ولبنان بالخصوص ونسبيا في المغرب، وفئة هي الأكبر سعت إلى التقرب من الإسلاميين، إلى حد الاندماج أحيانا مع المتنورين منهم، لتنبثق عن هذا الاندماج نزعة جديدة هي النزعة القومية الإسلامية، التي انتعشت أكثر مع الحرب الأولى على العراق، وعرفت أوجها مع ما سمي بالمؤتمر الشعبي العربي، والتي يعتبر عابد الجابري أحد رموزها الأساسيين.
وبطبيعة الحال، سواء بالنسبة للمدرسة الأولى أو الثانية، لا يمكن فهم التطورات التي لحقت بهما، ولا الصراعات التي دخلت فيها التيارات المنبثقة عنها، من دون وضع كل ذلك في السياق العام لتطور المنطقة العربية، ومن تم، التحولات التي عرفها النظام العالمي خلال هذه الفترة.
فظهور التيار العلماني مثلا في المشرق، لا يمكن فهمه خارج الصراع الذي كان قائما بين الدولة العثمانية وبين التحالف الإنجليزي الفرنسي، وسعي هذا الأخير إلى تأليب المسيحيين العرب عليها. كما أن ظهور الاختلاف بين تلامذة محمد عبده، وتأسيس حركة الإخوان المسلمين في تلك الفترة، لا يمكن فصله عن ما وقع في تركيا نفسها في سنة 1924 من إنهاء للخلافة الإسلامية وإقامة دولة أتاتورك العلمانية. أما ظهور الاشتراكيين والشيوعيين في المنطقة العربية فلم يكن سوى صدى لانتصار الثورة البلشفية في روسيا.
وعن انتعاش التيار القومي سواء في صيغته الناصرية أو البعثية، فمن الضروري وضعه في إطار الانتعاش العام الذي عرفته الحركات التحررية في مختلف المستعمرات السابقة، وهي الظاهرة التي لا يمكن فصلها عما كان يحدث للنظام العالمي من تحول لمركز الريادة فيه من الهيمنة القديمة لانجلترا وفرنسا إلى التقاطب الجديد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ولم يكن ممكنا مثلا لتجربة جمال عبد الناصر في مصر أن تنجح، لو أنها لم تستفيد من التنافس الذي كان قد انطلق بين هاتين القوتين الأخيرتين غداة الحرب العالمية الثانية، لكسب ود مجتمعات العالم الثالث الطامحة إلى الخروج من ربقة الاستعمار القديم.
غير أن احتداد الصراع بينهما في إطار الحرب الباردة من جهة، وظهور معطى جديد في المنطقة متمثلا في اكتشاف الثروة البترولية في الخليج من جهة ثانية، جعل أمريكا تحرص بقوة على حضورها في المنطقة عبر احتضان دولة إسرائيل بالخصوص، وحماية أنظمة أخرى بالمنطقة في مواجهة المد السوفياتي.
وبسبب هذا التحول بالضبط في سياسة أمريكا بالمنطقة منذ الستينات، جاء انتعاش الأصولية، بعد أن حرصت الولايات المتحدة على رعايتها وتوظيفها في مواجهة الشيوعية، ووصل الأمر على هذا المستوى إلى حد خلق حركة طالبان في أفغانستان.
وبشكل عام، أن نتج عن هذه المعطيات الجديدة في المنطقة، تحولات فكرية وسياسية كبيرة هي التي بقيت تطبعها إلى حدود السنوات القريبة الأخيرة.
فبعد الهزيمة المدوية التي تعرض لها التيار القومي بسبب حرب 67، تراجعت سمعة العلمانية من جديد، بعد أن كانت صيغتها الليبرالية الأولى قد اندثرت تقريبا من المنطقة، ولم يبق لها من سند إلا الشيوعيين وبعض الماركسيين الجدد القادمين من التيار القومي. في المقابل، اختار الجزء الأعظم من هذا التيار الأخير التقارب مع الإسلاميين، بدأ ذلك مع تشجيع السادات للإخوان المسلمين في مصر، ووصل إلى أن يضيف صدام حسين في العراق، عبارة «الله أكبر» على الراية الوطنية. ومن هذا التقارب ينبثق ذلك التيار القومي الإسلامي الذي حاول التوفيق بين المرجعية العلمانية للقوميين السابقين والمرجعية التراثية للسلفيين تلامذة محمد عبده والأفغاني.
هذا التقارب بين المرجعيتين سيكون أكثر بروزا في المغرب من أية منطقة عربية أخرى، وذلك لاعتبارات متعددة، في مقدمتها أن تراث النهضة حين انتقل إلى بلادنا على يد شعيب الدكالي وبلعربي العلوي تلامذة محمد عبده، لم يجد أمامه تلك المنافسة التي عرفها نفس التيار في المشرق من طرف العلمانيين المسيحيين المتمردين على الهيمنة العثمانية. بل أن هؤلاء، وبفضل اجتهادات كل من علال الفاسي والمختار السوسي وحسن الوزاني ...ألخ، استطاعوا أن يدمجوا بسهولة أفكار النهضة المشرقية في إطار السياق المغربي، بعد إضافة بعض العناصر المحلية عليها، لتتحول إلى سلفية وطنية، ستكون هي الباراديغم الذي أطر مجمل الحركة الوطنية في المغرب في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
ثم في تفاعل هذا التيار الوطني السلفي مع القوميين في المشرق، وبميولاتهم الاشتراكية، ستنبثق الحركة الاتحادية، التي ستسعى إلى التوفيق بين النزعة الوطنية السلفية الموروثة عن حزب الاستقلال والنزعة القومية الاشتراكية القادمة حديثا من المشرق.
في هذا الإطار فقط يمكن فهم مواقف الراحل عابد الجابري السياسية. فهو لم يكن في الأخير سوى نتاج لهذا التلاقي بين مرجعيتين كلتاهما قادمتين من المشرق: مرجعية السلفية الوطنية المرتبطة في أصلها بالمدرسة التراثية لمحمد عبده، ومرجعية القوميين الاشتراكيين التي تعود جذورها إلى العلمانيين الأوائل من مسيحيي الشام والعراق. ومن هذا التلاقي، جاءت أطروحات الجابري كأبرز إبداع في مجال التوفيق بين المرجعيتين، وظهر هو كأحد أهم منظري هذه النزعة الجديدة التي انبثقت من ذلك، ما يعرف بالنزعة القومية الإسلامية.
لذلك تأتي مؤاخذتنا الثانية على الجابري، أنه بتركيزه فقط على هاتين المرجعتين، وضع نفسه بعيدا عن مرجعيات أخرى تزخر بها الساحة الوطنية، إن لم نقل في مواجهتها. فهو قد تجاهل نهائيا النزعة الليبرالية، أو على الأقل الصيغة المعدلة عنها كما في تاريخانية عبد الله العروي. وهو لم يعر كثير اهتمام لتراث الشيوعيين والماركسيين المغاربة ذوي التكوين الأوروبي، ودخل بالخصوص في صراع مع المرجعية الاشتراكية الديمقراطية لفئة هامة من النخبة الاتحادية كما برز ذلك حين صياغة التقرير الإيديولوجي. وأخيرا أنه أثار ضده كثيرا من احتجاجات الناشطين الأمازيغيين بسبب تجاهله لدور المكون الثقافي الشعبي المحلي في صياغة هوية المغاربة ومن ضنمه التراث الأمازيغي.
ونحن حين تساءلنا عن مدى صلاحية أطروحتيه في السياسة: الخصوصية والكتلة التاريخية، فهو في الحقيقة تساؤل حول صلاحية النزعة التوفيقية العروبية الإسلامية ككل في إرشادنا لمعالم طريق نحو المستقبل. ألسنا الآن نعيش لحظة تحول أخرى في تاريخ المنطقة، تخرجنا من مرحلة ما بعد هزيمة 67 إلى مرحلة ما بعد هزيمة صدام حسين، لن يكون فيها لا للقوميين ولا للإسلاميين تلك الحظوة التي كانت لهم في السابق؟ ألسنا نعيش انحسارا للمد الأصولي والمد السلفي بشكل عام، وبالتالي عودة قوية للنزعة الحداثية الكونية بشقيها الليبرالي واليساري؟
نحن لا ندعي هنا أن النزعة السلفية أو النزعةالقومية ستموتان وتندثران بشكل نهائي، ولكن فقط باعتبار أن التاريخ يسير حسب خط متعرج، وأنه إذا كان الإنعرج الأول قد تم ما بعد ثورة 52 في اتجاه القومية، وبعد 67 في اتجاه السلفية، فهو الآن يتم نحو النزعة الحداثية، على أنه لا يستبعد أن تعود هاتين النزعتين من جديد وإن في صيغ مختلفة، لكن ذلك لن يتحقق في اعتقادنا قبل جيل أو جيلين من الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.