منذ شهور، قام السيد طيب رجب أردوغان رئيس وزراء تركيا بزيارة عمل إلى المغرب مرفوقا بوفد كبير من رجال الأعمال يشكلون الدرع الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية التركي. وقد حضر الأتراك إلى المغرب بنية الهيمنة على الاقتصاد المغربي بعد أن دعاهم عزيز الرباح إلى «وزيعة» همت قطاعات سيادية كالموانئ والمطارات والسكك الحديدية والطرق السيارة والصناعة العسكرية زيادة على الفلاحة والسياحة والعقار. وقد عزا الملاحظون آنذاك هذا الإنزال القوي للأتراك إلى سوء تقديرهم لدرجة تحكم حزب العدالة والتنمية المغربي في دواليب الاقتصاد المغربي. فقد أعطت الزيارة التي قام بها عزيز الرباح إلى تركيا، أياما قليلة قبل قدوم الوفد التركي، انطباعا خاطئا لدى الأتراك بأن عبد الإله بنكيران ووزراءه يقبضون بيد من حديد على مفاتيح الاقتصاد المغربي، وأنهم قادرون على فتح أبوابه «للغزاة» القادمين من الشرق. إلا أنه بمجرد أن وطأت أقدامهم أرضية المطار، أدرك الأتراك بأن الواقع المغربي عكس ما كانوا يتوقعون؛ فالبلد ليس أرضا خلاء تنتظر من يحرثها، بل هي فضاء حيوي لرهانات اقتصادية متعددة، وتوازنات استراتيجية كبيرة، تجعل من أي وافد جديد شخصا غير مرغوب فيه إلى أن يثبت جدارته وحسن نواياه. رجع الأتراك إذن إلى قلاعهم البعيدة فارغي الوفاض ليعيدوا حساباتهم ويخططوا لاختراقات غير مرئية للاقتصاد المغربي بعد أن فشلت عملية الاكتساح الشامل التي وعد بها عزيز الرباح، حيث تم الاتفاق على نهج سياسة خطوة خطوة أو «ستيب باي ستيب» كما يسميها الأمريكان. وبالفعل عمل عزيز الرباح على التمهيد لهذه السياسة عبر صياغة دفاتر تحملات همت قطاعات وازنة كالنقل بمختلف أنواعه، والمقالع وجرف رمال البحر واستغلال مادة الغاسول، وذلك ليفتح المجال أمام الشركات التركية من أجل الاكتساح التدريجي لهذه القطاعات ولقطاعات أخرى مباشرة، أو عن طريق شراكة صورية مع بعض المقاولين الصغار الذين يدورون في فلك حزب الرباح. وقد سبقت صياغة هذه الدفاتر حملتان إعلاميتان اهتمت الأولى برسم صورة قاتمة لقطاعات اقتصادية بعينها واعتبارها مواطن للفساد، وجحورا تؤثثها حيوانات خرافية، قبل أن تليها حملة إعلامية ثانية جعلت من دفاتر التحملات الحل السحري لكل المشاكل التي تتخبط فيها هذه القطاعات. غير أن المتفحص لهذه الدفاتر سيدرك بسرعة بأنها صيغت أساسا لتأسيس نمط جديد من الاقتصاد الريعي الذي سيستفيد منه الأتراك بمعية بعض رجال الأعمال المغاربة المغمورين الذين يشكلون النواة الصلبة لجمعية «أمل للمقاولات»، والتي يسعى عبد الإله بنكيران وعزيز الرباح إلى تحويلها إلى درع اقتصادي لحزب المصباح بعد أن استعصى عليهم اختراق قلعة الاتحاد العام لمقاولات المغرب. وقد أكد لنا أحد العارفين بتضاريس السياسة الاقتصادية الخارجية لتركيا أن كل المقاولات التركية التي تشتغل بدول الخارج تستفيد من دعم مالي ودبلوماسي من دولتهم، يمكنهم من الحصول على الصفقات الأولى بأثمان مغرية بالنسبة للبلد المستضيف، وبالتالي فإن العمل بدفاتر التحملات سيكون بمثابة البساط الأحمر الذي سيمكن الأتراك من التغلغل في أعماق الاقتصاد الوطني، وسيضع المستثمرين المغاربة أمام شروط منافسة غير شريفة لأنهم سيجدون في مواجهتهم ليس فقط شركات تركية ولكن أيضا الدولة التركية، بما لها من إمكانيات مالية واقتصادية. اليوم وبعد الشروع في العمل بدفاتر تحملات عزيز الرباح، يمكن أن نضع سؤالين عريضين هما: كيف أمكن لوزير يجهل كل شيء عن المصالح الاستراتيجية لبلده أن يراهن بقطاعات وازنة لتحقيق مكاسب مادية وانتخابية ضيقة؟ وما سر اختيار الشركات التركية بالذات لبلوغ هذه المكاسب؛ هل هو الدافع «الدينوسياسي» أم أن الأمر لا يعدو أن يكون حسابات شخصية تراهن على فرضية، قد تخطئ وقد تصيب، وهي أن أي اتفاق سري يتم تحت الطاولة مع الأتراك قد يظل طي الكتمان، وبعيدا عن أعين المخابرات المغربية وهذا التكتم لا يمكن ضمانه مع مقاولات مغربية أو فرنسية أو إسبانية؟ نحن إذن أمام مخطط يهدف إلى تفويت قطاعات هامة إلى مقاولات بلد لا تربطنا به لا مصالح مشتركة ولا أهداف استراتيجية موحدة، وليس له أدنى تأثير على قضايانا الحيوية. فلو أن وزيرا من حكومات الملك الراحل الحسن الثاني، تجرأ بتقديم عروض إلى حكومة أجنبية مثل تلك التي قدمها عزيز الرباح للأتراك لتم اتهامه بالتخابر مع جهات أجنبية ولم لا بالخيانة العظمى. فحتى في أرقى الديمقراطيات، لا يمكن لوزير أن يقامر بمصالح استراتيجية لبلده من أجل تحقيق مصالح شخصية وانتخابية ضيقة دون أن تطاله المحاسبة.