تحل اليوم, الجمعة فاتح نونبر, الذكرى الأولى لرحيل الفقيدة آسية الوديع .. الوجه الحقوقي و الإنساني الذي افتقدته السجون المغربية.. امرأة استثنائية بمسار استثنائي استطاعت بعنادها الجميل و طموحها الأكبر أن تضع بصمات قوية من أجل تهذيب الجنوح و أنسنة العقاب .. ماما آسية هو الإسم الجميل الذي يحمله نزلاء المؤسسات السجنية عبر ربوع البلاد ، بما يحمله من معاني العطف و الحنو .. قديسة اختارت أن تكون بجانب المستضعفين و الفئات الهشة.. امرأة كانت لا تَكِلُّ و لا تَمَلْ. كرست كل حياتها القصيرة من أجل كرامة الإنسان و احترام آدميته .. ضمن هذه الصفحة شهادات لمن عاشروها عن قرب و تقاسموا معها جزءا من محنة, عفوا متعة الحياة.. آسية الوديع.. لا تتكلم، تفعل خمس سنوات قبل أن تتحمل مسؤولية رسمية في إدارة السجون (أساسا مشرفة على إصلاحية عكاشة)، استدعتني الراحلة آسية الوديع إلى بيتها بحي المشور قرب القصر الملكي بالدارالبيضاء، وبادرتني والدمع يملأ مآقيها، قائلة: «أنظر معي إلى هذه الفظاعات». كانت مائدة الأكل في وسط البيت مفروشة بعشرات الصور الفوتوغرافية للمعتقلين الأحداث بسجن عكاشة وكلهم مصابون بأمراض جلدية مختلفة، نصف عراة، في وضعيات صحية جد مقلقة ومهينة. كانت الصور صادمة بكل المقاييس، وظلت تردد بصوت مرتفع: «هذا يحدث في بلد أحمل جنسيته وتحمل جنسيته وهؤلاء إخوة لنا في الجنسية المغربية وفي تاإنسانيت». جلست صامتا، وحاولت بجهد أن أهدأ من انفعالها الكبير، وكانت شابة تساعدها في البيت واقفة تتأمل ذلك المشهد في صمت. مرت سنوات ، وذات صباح باكر (على عادتها معي في الإتصال دوما) اتصلت بي هاتفيا وقالت لي: «خوي راسك ابتداء من الساعة كذا، ضروري أن تأتي إلى إصلاحية عكاشة». كنت حينها، بتعاون مع رجل إصلاح آخر محترم، صموت ونزيه، هو الإطار الوطني بالإدارة العامة للسجون، محمد بنعزرية، مدير المركب السجني عكاشة آنذاك، قد شرعت في مغامرة إعلامية غير مسبوقة في تاريخ الصحافة المغربية (وبقيت تجربة يتيمة إلى اليوم) بيومية «الإتحاد الإشتراكي»، هي صفحة «من وراء القضبان» مخصصة لإبداعات وكتابات السجناء من معتقلي الحق العام، تصدر كل سبت، نجحت في أن تكتشف عددا كبيرا من الطاقات الإبداعية في مختلف سجون المغرب، في الشعر والرواية والنقد والمسرح والتشكيل والكاريكاتور (ضمنهم حتى سجناء مغاربيين وعرب). بل أكثر من ذلك، كانت سببا في تأسيس أنوية جمعيات أدبية وفنية داخل السجون وورشات عمل مخصصة للإبداع داخلها. وجعلت لأول مرة، السجناء يغادرون الزنازن لتقديم مسرحيات وإلقاء قصائد في مسارح عمومية بالدارالبيضاء والرباط، ثم يعودون في المساء إلى زنازنهم. كانت مغامرة جميلة حققت نتائج تربوية وإنسانية رائعة، وخلفت صدى دوليا عبر عدد من القنوات الفضائية العربية والأروبية. حين حضرت إلى إصلاحية عكاشة، كانت هي في الإستقبال، وإلى جانبها كريستين ديور السرفاتي (زوجة الراحل أبراهام السرفاتي)، وبدون كلمات بل فقط بإشارة عين، أفهمتني أنه علي تأمل التغيير الكبير الحاصل، وأنها انتصرت أخيرا من أجل الرفع من دور المؤسسة السجنية كمؤسسة إصلاحية. وحين كانت الأبواب الثقيلة تفتح أمامي بيسر، فهمت أن كلمتها كانت سابقة على زيارتي، فاكتشفت جيلا من الفتية المعتقلين (ضحايا وقت صعب في نهاية المطاف)، مكانهم في المدارس أو معاهد التكوين، ينيخون لعبورها بينهم، وتلين فيهم الكلمات، وتفرح الأعين، ولسان حالهم واحد: «ماما آسيا»، الذي لم يكن نداء للتزلف، بل تستشعره تعبيرا عن امتنان وعرفان وتوصيف حال. صارت الحيطان أنظف، والفضاء أكثر ضوءا، ومجالات التكوين أكثر تجهيزا (المكتبة، ورشة المسرح، ورشات التكوين المهني الحديثة)، ثم الوحدة الصحية النظيفة جدا، المجهزة. واضح أن آسية الوديع، بدلا من أن تخطب في التجمعات أو تسكن في بلاطوهات التلفزيون، اختارت أن تنجز خطوة في الفعل الميداني، ونحجت. وعلى الآخرين أن يكملوا المسار. ذات مساء، عند نقطة تقاطع طرق في أحد الأحياء الشعبية، بالدارالبيضاء، كنت واقفا بسيارتي عند علامة الضوء الأحمر ساهيا، حين دق زجاج السيارة، فالتفت، لأجد بجانبي شابا راكبا سيارة نقل للمواد التجارية، حين أنزلت زجاج السيارة، في لحظة عابرة قبل عودة الإشارة الخضراء للعبور، قال لي جملة واحدة، باسما: «الله يرحم ماما آسية». ابتسمت في وجهه، هو الذي كان أحد معتقلي إصلاحية عكاشة منذ سنوات، وأمضى عقوبته وغادر السجن واندمج في المجتمع عبر مشروع تجاري عرف كيف ينميه بصبر وذكاء. كنت قد تتبعت من بعيد مراحل مقاومته لإنجاح ذلك المشروع الصغير وأنه ظل يلتقيها رحمها الله في مؤسسة إعادة الإدماج شهورا بعد إطلاق سراحه مثل العشرات من السجناء بسجن عكاشة أو بإصلاحيتها (قاومت عاليا من أجل البعض منهم ليصدر عفو في حقهم وأغلبهم اندمجوا مجتمعيا اليوم وأسسوا أسرا). هاتفتها أسبوعا قبل وفاتها رحمها الله، وأجابت (رغم أنه تم تنبيهي أنها جد متعبة ولا ترد على هاتفها المحمول)، ضحكنا معا، ومرة أخرى رددت جملتها الأثيرة لديها بتعب واضح في الصوت: «درتها، ياك».. (بتسكين التاء)..