كانت تجربة مهنية وإبداعية وإنسانية، على مدى سنة ونصف السنة متواصلة، قد سمحت لي بالوقوف على مدى ما تعنيه الكتابة والقراءة والتعبير الأدبي والعلمي والفكري للسجين، من خلال تجربة غير مسبوقة (وللأسف بقيت يتيمة) في تاريخ الصحافة المغربية، لصفحة أسبوعية كنت أعدها كل سبت بيومية «الإتحاد الإشتراكي»، تحت عنوان «من وراء القضبان». وكانت تلك التجربة سببا من بين أسباب أخرى، إدارية أساسا (خاصة الدور الإيجابي لسيدة فاضلة مثل الراحلة آسية الوديع، والأستاذ المربي محمد بنعزرية بصفته مديرا لسجن عكاشة حينها)، كانت سببا لتعزيز عمل ورشات إبداعية في الشعر والقصة والمسرح والفنون التشكيلية ليس فقط في سجن عكاشة، بل في السجن المركزي بالقنيطرة والسجن المركزي بآسفي وسجن الزاكي بسلا وسجن عين قادوس بفاس. ذكرتني اليوم، بهذه التجربة، المبادرة المواطنة التي أقدمت عليها عمادة كلية الآداب بالرباط، بالتنسيق مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية العامة لإدارة السجون، المتمثلة في تزويد مكتبات السجون المغربية بآلاف من الكتب والمصنفات العلمية والأدبية والقانونية، التي أصدرتها هذه الكلية الرائدة بالمغرب، والتي بلغ عددها 5117 كتابا. وهي أول الغيث فقط في اتفاقية تعاون وقعت بين هذه المؤسسات المغربية الثلاث، مما يترجم روحا للمؤسسة المواطنة. بل إن ما عبر عنه عميد كلية الآداب بالرباط، الدكتور عبد الرحيم بنحادة، يترجم روحية المبادرة في عمقها التنموي والإنساني والتربوي، حين أكد أن المبادرة تنبني على أسس ثلاث يتعلق الجانب القيمي الأول منها في أن ما أقدمت عليه الكلية يندرج في باب القول المأثور «زكاة العلم إنفاقه». فيما يتعلق الجانب الثاني بعمق الدور المواطن للكلية كواجهة معرفية علمية لتعميم نماذج سلوكية تربوية بناء في المجتمع، وأنها ليست فضاء منغلقا على ذاته. فيما يتحدد البعد الثالث في الشق البيداغوجي المحض، المرتبط بمبدأ العطاء على قدر الأخد، الذي يعني في ما يعنيه، توسيع مكرمة الإشراك بين كل شرائح المجتمع مغربيا للإنتصار لمكرمة التربية على المسؤولية في بعدها البناء، وفي بعدها التربوي الوطني. الحقيقة، إن تجربة السجن والكتابة والقراءة، تعتبر من أغنى التجارب الإنسانية عالميا، منذ كتب المفكر الفرنسي الراحل ميشيل فوكو أطروحته الغنية والعميقة عن «المراقبة والعقاب»، ونزوله إلى الشارع بباريس للتظاهر من أجل أنسنة المؤسسات السجنية بأروبا في أواسط الستينات من القرن 20. لقد أعادت تلك الأطروحة السؤال حول دور المؤسسة السجنية، هل هو دور زجري انتقامي أم دور إصلاحي تربوي. وكانت النقاشات حامية بين الرؤية الفرنسية والرؤية الأمريكية والرؤية السوفياتية (زمن الحرب الباردة)، وهي جميعها تتفق على مركزية التعبير الحر للسجين من خلال الكتابة والمسرح والسينما والرسم، بالشكل الذي يفتح له آفاقا أخرى للرؤية للذات وللحياة. ولعل المقولة الشهيرة لأحد السجناء في هذا الباب دالة حين قال: «لو قرأت هذا الكتاب من قبل ما كنت ارتكبت قط الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها». وكانت نتيجة تلك النقاشات الحقوقية والعلمية والبيداغوجية، هي التي أفضت إلى بلورة أسلوب تدبيري جديد في المؤسسات السجنية بأروبا وأمريكا، اعتبرت أن التقويم ليس بالعنف المادي، بل هو عبر آلية إنهاض العمق الإنساني في ذاتية السجين، ومصالحته مع ذاته ومع مجتمعه. وأكدت العديد من البحوث الميدانية، أن السجون الأهدأ عالميا هي السجون اليابانية والسجون الإسكندنافية والسجون البريطانية، بسبب اتساع تقليد القراءة فيها، وأن السجون التي تكون الغلبة فيها لمشاهدة التلفاز فقط، هي أكثر السجون عنفا. فيما تجربة السجون التي تحققت فيها تقنيات التواصل الحديثة، عبر إذاعات داخلية خاصة (النموذج الكندي) قد جعلت المجتمع السجني ينضج أطروحاته الخاصة في مجال الإصلاح، وسمحت ببلورة أسلوب تربوي إقناعي من داخل ذاتية السجناء مما جعل القناعات أرسخ في مسارب التحول والإصلاح. من هنا، أهمية مبادرة منح المؤسسات السجنية المغربية ذلك الكم الكبير من الكتب الأكاديمية العلمية، من قبل مؤسسة جامعية مغربية وبرعاية من مؤسسة حقوقية من قيمة المجلس الوطني لحقوق الإنسان. لأن المجتمع السجني المثخن بأرقامه الكبيرة مغربيا (جزء كبير منها فقط معتقلون احتياطيون وهذا واحد من أكثر الملفات المقلقة تدبيريا على المستوى القضائي)، يشكل فيه المنخرطون في أسلاك الدراسة حوالي العشر (17 ألف سجين من مجموع 700 ألف سجين)، وأن 86 بالمئة منهم شباب بين 25 و 45 سنة. وإذا ما قورن بمؤسسات سجنية أروبية، خاصة الإنجليزية والفرنسية، فإن نسبة المتعاملين مع الكتاب والدراسة فيها يتجاوز الثلثين، وأنه كلما اتسعت مجالات القراءة والتعبير والإبداع، تقلصت نسب التطرف والمخدرات والعنف في تلك المؤسسات السجنية. بالتالي، هي خطوة اليوم هذه المبادرة المواطنة بين خطوات، يتمنى المرء جديا، أن تقلب معادلة الواقع السجني المغربي في أفق منظور، كي يصبح عدد من يقرأ هناك يتجاوز عدد مستهلكي المخدرات أو ممارسي العنف ضد الذات وضد المؤسسة السجنية. وهنا عمق معنى الإصلاح.