إلا أن استقراره النهائي كما أدرجنا في الأول لم يكن سهلا، ذلك أن بعض الروايات أرجعته إلى الكرامة، لكن الأكيد أنه كان نتيجة صراعات عرفتها المنطقة آنذك. وإليكم بعض ما قيل في ذلك: تقول الرواية الأولى: »إن سيدي احماد أوموسى طلب من «»حربيل»« قطاني هذا البسيط آنذاك أن يعينوا له مكانا يقطعوه له ليتخذه سكنا و حقلا، فسمحوا له بالقدر الذي تقطعه عصاه إن قذف بها»« فإذا بالعصى تعبر من ذلك الجبل المطل على بسيط (تازروالت) شرقيا الى ذلك الجبل الغربي الذي يقطنه أهل «»إغيرملولن«« فاستنكر الحربيليون ذلك ونازعوه فيه ونشأت عداوة بينه وبينهم، بقيت حتى دعا عليهم فسلط الله عليهم قبيلة »مجاط« فأجلوهم. ويعلق العلامة المختار السوسي على الحادث قائلا وبحق: »مثل هذا أن وقع من الشيخ وصح منه ورضي به، يخدش في دينه وعفته، لانه يدل على أنه يغصب أموال الناس، بغير رضاه، وحاشا مثل الشيخ ابن موسى من ذلك. فإن الكرامة لا تحل حراما ولا تطيب ملكا لقوم لم تطب به أنفسهم لغيرهم، ولذلك نحكم على أن الحكاية مأفوكة ملصقة بالشيخ، قصد إكبار شانه، ولا يدرون أنها مما يدعو الى إسفافه«. وتجيء في السياق ذاته وجوابا عن سكنه واستقراره هذا، رواية ثانية »تقدم المجال على أنه عبارة عن غابة موحشة يسعى الشيخ الى استصلاحه، واجتثاث الأعشاب والنباتات البرية منه، إلا أنه لم يفلح في طرد أفعى رفضت مغادرة المكان والإذعان لأوامره«. إذا كان الطرف الأول من هذه الرواية يبدو واقعيا ومنطقيا ومقبولا، لأن البسيط الذي سيعرف فيما بعد بتازروالت، لم يعرف في القديم إلا بالرعي لأن قاطنيه لم يكونوا إلا رحلا. فلابد لمن سيقطن فيه وسيفلحه من أن يستصلحه أولا، وهذا لمن يعرف طبيعة المكان، فهو يحتاج الى عمل ونفس طويلين، إلا أن من يحكون أضافوا الأفعى التي رفضت مغادرة المكان، ليرمزوا الى أن السكن والاستيطان فيه لم يكن كما قلنا في البداية سهلا، وإنما عرف صراعا وشدا وجذبا بين سيدي حماد أوموسى وبين قاطنيه الأولين من قبيلة حربيل. والصائب أو الأقرب إلى الصواب هو ما رواه العلامة المختار السوسي: وبناء على وثائق رآها. »إن الذي يمكن أن يكون هو أن الشيخ ينزل بين ظهراني هؤلاء القوم، ثم تطير له الشهرة، فيحسدونه كما هو المعتاد، فيقوم فيهم الشيخ بالمواعظ، فيشمخون أنفة من الانقياد الى الحق، فتأتي هذه القبيلة المجاطية، فتتسلط عليهم، كما تفعله كل قبيلة قوية بقبيلة ضعيفة فتجلوهم كلهم أو بعضهم! وقد وقفنا على ما يؤيد هذا في بعض مقيدات لا ندري مقدارها من الصحة، ومحصل ما فيه أن الشيخ ابن موسى تطلب من الحربيلين أن يذعنوا لأحكام الشريعة كلها، وأن يدعوا أعرافا كانوا يتحاكمون إليها، فتأففوا من ذلك واستنكفوا، فصادفوا من الشيخ دعوة عليهم مستجابة، فكانوا أن حاربوا (مجاطا) فانتصرت عليهم (مجاط)، فأجلوهم عن تلك الجهات. وهذه الحكاية، وإن لم تكن عندنا ثابتة كل الثبوت فهي بحال الشيخ ومقامه أوفق، وهو الذي نعلم منه الاستماتة في الذب عن السنة كل حياته«. بعد عرض هذه الروايات لنا الحق أن نتساءل مع الأستاذة الراجي عن سبب سكوت »المصادر المكتوبة عن هذه الظاهرة، وعن علاقة الشيخ بأصحاب الأرض. وتعلق الأستاذة الراجي على ما جاد به العلامة المختار السوسي، وخاصة فيما يتعلق بكون الشيخ هو السبب في جلاء الحربيليين بعد دعوته عليهم قائلة: «وتقوم الرواية التي قدمها السوسي بعرض صراع تاريخي بين قبائل ايت حربيل وايت مجاط توج بمعركة »»تزلمي» التاريخية، وهذا يوازي كون العلاقة الأكيدة بين القبيلتين تقوم على صراع قديم ترجع به بعض الروايات الى فترة خراب »»تمدولت»، وتجده أخرى سببا مباشرا في هذا الخراب، فهو بذلك صراع لم يخلفه الشيخ وإنما ساهم في ترجيح كفة مجاط«. في تأسيس الزاوية لم يذكر الذين كتبوا عن الشيخ أي شيء في «»تأسيسه«« لزاويته، لا تاريخ تأسيسها ولا من أمره بفتحها، على اعتبار أن ذلك ما جرت به العادة عند الشيوخ الجزوليين، اذ لابد من الإذن. إذن الشيخ، وذلك ما رأيناه يتكرر ويعاد إنتاجه: فالشيخ التباع هو من حرر الشيخ الغزواني من »»تقاف الإرادة»« بعد أن اختبره الاختبار الأخير، وأذن له بفتح زاويته ببلاد الهبط ثم بفسا لاحقا ثم بعد ذلك سيفتح زاويته بمراكش بعد اعتراف أقرانه لدى التباع به كوارث لسر شيخه في مناظرة شيقة، وهو بدوره من »أمر مريديه عبد الله بن ساسي وعبد الله بن حسين الأمغاري بفتح زاويتين: الأولى على ضفة نهر تانسيفت، والثانية بتمصلوحت، وإذن لأبي يعقوب التليدي بفتح زاويته ببني تليد، فكانت التعليمات المقدمة لهم جمعا الاستمرا رفي شق السواقي، وتجهيز الأراضي، وحفر الآبار، وإطعام الوافدين والفقراء. إنه الإذن بفتح الزاوية مع التوجيه العام: استصلاح الأراضي لحاجة ضرورية ومستعجلة ومواجهة الافات الاجتماعية والطبيعية الحادثة. وسواء أمره غير بذلك أم لا، فإن التأسيس أو الفتح جاء في ظرفية دقيقة من تاريخ سوس (أشرنا إليها مرارا)، أي جاء وليد ظروف موضوعية عنوانها الحاجة. الحاجة إلى جواب سريع وناجع عن أسئلة الواقع المقلقة من جوع وأمراض وأوبئة و... فالمجتمع مريض والدولة التي على عاتقها تطبيبه عليلة بل منعدمة، والفراغ واضح وكبير والتدهور يسير لا محالة نحو الأسوأ، والأسوأ غير معروف: إنه الخوف والرعب يملآن فضاء الجنوب، ولابد لصلحاء سوس من تحمل مسؤولياتهم أمام الله، وأمام ما نذروا أنفسهم له، بانتمائهم للطريقة الجزولية والتي أحد أركانها الذي يجب استحضاره الآن، يوجب الجهاد ضد كل ما أو من يرهب الإنسان ويحط من كرامته مما ذكرناه.. إنهم وضعوا أمام امتحان عسير إما أن يبادروا، أو ينزعوا عنهم ما حملوه من أفكار. أفكار المدرسة الجزولية المذكورة، وعمق هذا كله توالي سنوات الجفاف والجوع والوباء .وهكذا »فمنذ عام 922ه/1515 ظهر ضعف في الإنتاج، والجوع بسبب الجفاف الذي استمر حتى عام 923ه1571م،