اما الازمة الدينية الصوفية فتكمن حسب البعض في فرار الشيخ سيدي احماد اموسى من معتقدات ظلت تشوش ذهنه ولعل ما جعل هذا الاعتقاد راسخا لديهم هو وجود رسالة تسير في نفس السياق (الاطار) الذي جاءت للرد على سؤال الشيخ. عن الفرار المحمود وغير المحمود هي من تأليف التزركيني المتوفي عام 958 ه / 1511 م اذا ما نحن نحينا جانبا ما أورده المختار السوسي في علة الهجرة من «بومروان» لانه يمكن ان ينطبق على أي كان الا فيما يتعلق بالشيخ لان هناك قرائن اثبات تدحضه، منها قصته مع ادواسملال المذكورة في مكان اخر من الكتاب. فاننا نتفق كلية مع ما أوردته الاستاذة ولو انه لا يعدو ان يكون تفسيرا معينا له مصداقيته من الحجج والوقائع التي ذكرتها. لقولته حين ترك بلدته «بومروان» ربما جوابا عن سؤال مضمن: بومروان ايروان تزروالت ايزضارن ومعناه بالعربي: بومروان ينفع ويليق لكن تازروالت تقدر. لكننا سنذهب بعيدا ولنا الحق في استحضار قرائن تنفعنا في الذهاب في هذا البعد من التفسير: بدءا نتساءل من امر سيدي احماد اوموسى بالرجوع النهائي؟ ولماذا امره في هذه الظرفية الدقيقة بالضبط؟ و ما هدفه من الاستقرار في سوس اصلا، وان كان الاستقرار بريئا فلم يبق بين اهله ببومروان واخيرا لم اختار تازروالت؟؟ مايشفع لنا بطرح هذه الاسئلة هو اعتقادنا الراسخ بأن سيدي احماد اوموسى لم يعد سيد نفسه، ومنذ ان انتمى بمحض ارادته وسلمها للتباع وغيره، اصبح عضوا في حزب الجازولية السائد والمسيطر، وعاد متخرجا من فرعه الوعر، تخصص علم الباطن. الذي لا يدركه اي كان حيث توسم فيه موجهوه اليه والاخذه عنهم جهابذة هذا العلم: الشيخ التباع والشيخ الملياني والشيخ عبد العزيز القسمنطي، توسموا فيه بفراستهم انه سيصبح له فيه شأن كبير وكذلك كان. لقد قلنا في مكان حديثنا عن دور الشيخ بان اسئلة واختبارات الشيخ لا تنتهي لان اسئلة النفس واختباراتها السيئة لا تنتهي بدورها، حين يرى الشيخ في المريد ما يرى، ويطلق ارادته بامره بالاستقلال وفتح زاويته لمصلحة يراها الشيخ، وهذاما فعله الشيخ التباع بالغزواني حين امتحنه الامتحان الاخير، اما مريده فلما اجتازه قال له امامهم: مثل الغزواني من يحمي حماه وفكه من اسر الارادة، ويعيد الغزواني انتاج نفس العملية مع مريده شيخ تامصلوحت مولاي عبد الله بن حسين حين أمره بالبقاء خارج مراكش وفتح زاويته بتامصلوحت التي كانت ارضا جرداء، ودعا له وتركه هناك. الابعد من ذلك فان دور الشيخ وأهميته في الطريقة الجزولية يتعدى في غايته توجيهه المريد واكسابه مناعة ضد نفسه الامارة بالسوء، ليذهب على المستوى التنظيمي والخارجي الى مركزة القرار في سبيل الوحدة وضد التفرقة وظهر النتوءآت. والشروخ التي قد يأتي بها الوقت وفتنته (الشيخ سعيد بن عبد المنعم وخروجه ودعوته لنفسه) وبناء عليه فانه لا يعقل ان تكون عودة سيدي احماد اوموسى الى سوس والى مقره بومروان دون توجيه، ودون هدف متفق عليه مع اقرانه لدى التباع هو الذي حافظ على لقائهم، والسفر اليهم على قدميه، حتى سنة مماته، علما بان المشيخة بعد التباع صارت الى الشيخ الغزواني في طقس جماعي. لن يمر دون نقاش وعرض للكائن وما ينبغي ان يكون ليتم تسليمهم وتوليتهم له بالاجماع وهم ماهم. اذن المدرسة الجزولية اصبحت جزولية في نسخة غزوانية لتنضاف الى النسخة التباعية. مدرسة ذات فروع همت الوطن كله أسسها الجزولي (تسعة عشر فرعاً في مكان آخر)، وأضاف إليها تلامذته فروعاً أخرى كثيرة. وهذا نهج في الطريقة سيستمر طويلا.. فلا غرو أن يكون سيدي احماد أوموسى ضمن هذا المشروع المبني أساساً على فكرتي المجاهدة والجهاد، (الإصلاح والتحرير)، وسيكون حتماً عارفاً بأمور هذه المدرسة، وبدواخلها وأسرارها يعرف أسئلتها ومهامها، خصوصاً والمغرب يعيش تحولات لم يعرفها لا في تاريخه القديم ولا المعاصر، هذه التحولات التي لا يمكن للمدرسة الجزولية أن تدير لها الظهر، وما قامت عليه وما أضافته إلى التصوف الاسلامي هو لب الدواء: الجهاد بمفهومه العام إذ هذا هو المغرب: الغزو الأيبيري، الهجوم التركي، ضعف السلطة المركزية، بل انعدامها في بعض المناطق، تمزق إداري وسياسي، جهات مستقلة، غياب الأمن والاستقرار، هجرات، أوبئة، جوع، وما صاحب هذا من تمزق اجتماعي.. ونتائج أخرى مختلفة لذلك.. في هذه الظروف غير السارة، عاد سيدي احماد أوموسى ليجد أمامه سقوط حصن أكادير (فونتي) في يد البرتغاليين الى جانب وضعية نتيجتها في سوس غير مفصولة عما يعيشه المغرب ككل، بل أكثر تأزماً، وليس أبلغ في وصف هذه الوضعية من ما لاحظه الفقيه عبد الله المضغري حين زار سوس: فقد نقل عنه ابنه قوله: »لما أقبل والدي من بلاد السوس الى سجلماسة، سأله بعض أصحابه بأن قال له: كيف تركت بلاد السوس يا سيدي؟ قال: تركت العامة ترتكب أقبح المساوىء، والفقهاء يفتون بأضعف الفتوى، والأمراء يتساقطون في أعظم المهاوي«. ولم يكن متصوفة سوس (وجلهم جزوليون) وعلماؤها وبينهم سيدي احماد أوموسى جاهلين هذا المعطى العام لسوس، وما كانت عليه أحوالها من فرقة وتنازع وأحلاف، وميل نحو التمسك بالأعراف المحلية في التعامل والتشريع، لذلك كان مشروعهم الإصلاحي الذي قاموا له واضحاً، هو محاربة هذا الواقع المتردي، لكن كيف؟ سيجيء ذلك بتبني مشروع إصلاحي متكامل: عنوانه جهاد المحتل وعناصره: الإصلاح الديني والتربوي والثقافي والسياسي، والعمل على تعزيز الجبهة الداخلية بمحاربة الأحلاف والتمزقات. فكيف تعامل صلحاء سوس مع هذه الوضعية؟؟؟ فهم مصلحو سوس بعمق سبب هذه الأزمة، وساعدهم انتماؤهم إلى مدرسة واحدة تسهيل وتذويب أي عقبة للخلاف، لأن المشرب واحد والرؤية واحدة، حتى الشرخ الذي كان سيأتيهم من مجاهد كبير كسيدي سعيد بن عبد المنعم، حين دعا لنفسه رتقوه برسالة تاريخية معروفة إليه من العالم الحق الشجاع أحمد بن عبد الرحمان التزركيني، وضع فيها الشيخ ابن عبد المنعم أمام مسؤوليته التاريخية والدينية ودعاه الى الرجوع الى الطريق، طريق الإصلاح صحبة أقرانه، ثم وحدوا صفوفهم مستغلين العلائق الموجودة المذكورة، واضعين اسم الإشارة في محله: هنا أولوية الأولويات: قبل جهاد المستعمر والمحتل، لابد من إمامة شرعية مشروطة. ودور المصلحين هو تهيئة الشروط والتربة لقيام هذه الإمامة وحضنها وحمايتها كل من محله: المتصوفة في استغلال مكانتهم ودورهم الاعتباري، وصحبة العامة لهم في التوجيه ومحاربة الأحلاف، والعمل الاجتماعي والخيري، واستتباب الأمن والاستقرار وحماية الطرق، والتدرج في تحييد الأعراف لصالح الشرع والعلماء: التهييء للمشروعية وحل ما تبقى من رابطة مع الدولة الوطاسية من معاملات وبيعة والسير إلى قيام إمامة مشروطة بالجهاد، وهكذا خرج كل في مجاله.