لأمر ما لم يذكر التاريخ كثيرا هذه الانتفاضة البطولية التي كتب سكان فاس أحداثها بدمائهم وأرواحهم..فقد حدث بعد فترة وجيزة من توقيع عقد الحماية في 30 مارس 1912 أن انتفضت مجموعة من العساكر المغاربة على الظلم والتسلط الذي ينوبهم من مدرّبيهم الفرنسيين، وتحت تأثير إحساسهم القاهر بما كان يدبّر لبلادهم من مكائد ليس أقلّها فرض الحجر والحماية على البلاد، وتهميش السلطان وحمله على التنازل عن صلاحيته، وامتهان الشعب المستضف والإمعان في قهره وإذلاله.. أطوار هذه الانتفاضة المجيدة، التي جرت وقائعها أيام 17و18و19 أبريل 1912، يرويها بأسلوب تراجيدي مشوّق مراسل صحفي فرنسي اسمه هوبير جاك عاش بنفسه هذه الأحداث وكاد أن يصير من «ضحاياها» لولا لطف الأقدار..ومن هنا النكهة المريرة والتحامل القاسي على فاس والفاسيين الذين لقّنوا الاستعمار، وهو يخطو خطواته الأولى في بلادنا، درسا في المقاومة لم يكن مستعدا أن ينساه في الأمد المنظور.. حتى أنهم وضعوا هذا الكتاب المسمى «الأيام الدامية لفاس» (286 صفحة) ضمن الحوليات العسكرية التي طبعت ووزعت عشرات المرات على الثكنات والحاميات الفرنسية في جميع بقاع العالم للذكرى والاحتياط.. الترجمة عن الطبعة 15 الصادرة عن مطابع لافيجي ماروكان بالدارالبيضاء سنة 1926 إذا لم يكن قد أتيح لنا أن نتعرف على اللحظات الأخيرة التي عاشها هؤلاء الضحايا المساكين، فإن تحت أيدينا على العكس من ذلك جملة من الروايات التي نقلها «الناجون» بنكهة تراجيدية نادرة. ونحن لا نعرف، حتى في روايات المغامرات الأكثر مأساوية، مواقف حرجة ويصعب تصديقها مثل تلك التي وُجد فيها الضباط الأربعة، الليوتنان بوجار وأودّو والطبيبان البيطريان العسكريان جيرما وكاربانتيي، الذين بعد معاناة لا تحصى سينجحون خلال ثلاثة أيام من الإفلات من المطاردات الضارية للمغاربة. كان الأربعة يقطنون منزلا صغيرا يقع في مركز المدينة. وقد كانوا على مائدة الطعام حوالي الثانية عشرة والنصف، عندما جاءهم أحد الجنود المساعدين بخبر انتفاضة جنود الطوابير. وقد سمعوا في نفس الوقت صوت هيجان كبير في الشارع. عند ذلك قاموا بوضع حواجز على أبوابهم واتخذوا في الحال ترتيباتهم لخوض المعركة. صعدوا إلى الطابق الأول لتناول أسلحتهم، فيما كان مساعدوهم يحاولون التفاوض بدون جدوى. وقد جربوا حظهم بالصعود إلى أعلى المنزل للتسلل عبر السطوح المجاورة، ولكنهم استقبلوا بوابل من الرصاص. وسوف يقررون في أعقاب ذلك أن يتحصّنوا بإحدى غرف الطابق الأول، لأن الباب المطل على الشارع قد جرى تحطيمه من طرف المتمردين الذين سارعوا إلى الانتشار في الفناء الداخلي للمنزل. قبل الانزواء في الغرفة التي اختاروها لأجل مواجهة الحصار، واصلوا المقاومة من خلال الشرفة الداخلية التي كانوا يطلقون منها النار على المهاجمين الذين يوجدون أمام باب المدخل وفي الفناء. وقد تراجع هؤلاء الأخيرون إلى أحد الممرات من حيث واصلوا إطلاق النار. كان بوجار وأودّو يتوفران كلاهما على قربينة من نوع موزر، بينما كانت لجيرما بندقية من طراز منشيستر، أما كاربانتيي فلم يكن يتوفر سوى على مسدس جندي. وقد واصلا إطلاق النار في كل مرة يطل فيها أحد الرؤوس. وفي هذه الأثناء كان مغاربة آخرون ينهبون المنزل.وعما قليل، لن يبقى من فاصل بين الضباط والمهاجمين سوى باب واهن ستتوالى عليها العيارات بانتظام. وعند ذلك سيدخلون غرفة أودّو. كان حاملو البنادق الثلاثة يطلقون الرصاص من النافذتين وعبر الباب، بينما يتولى رابعهم تعبئة الخزّانات ويسلّمها لرفاقه. غير أن أعداد المغاربة لم تكن تكف عن التزايد، الشيء الذي جعلهم يفكرون في الانسحاب. فلن يكون بوسعهم مواصلة المقاومة لوقت أطول وسط وابل نيران المهاجمين التي تنهال عليهم من كل جانب. قاموا باستكشاف المراحيض الملاصقة للغرفة التي كانوا يوجدون فيها، وحاولوا التسلل من الكوة الصغيرة التي تطل منها على الخارج. لكنها كانت جد ضيقة ولا تسمح بمرور جسد إنسان. ولذلك قرروا توسيعها. وقد باشر جيرما هذه المهمة، بينما تولى كاربانتيي وبوجار وقف تقدم المتمردين، مفرغين خزانات أسلحتهم بدون توقف عبر النافذتين. لم يكن بيده من عدّة سوى غمد سيف يحفر بواسطته بين آجرتين محاولا إزالة ما بينهما من كلس: ولكن بدون جدوى..يصاب بالخيبة ويدعو رفاقه إلى المرور عبر ذلك الثقب كما هو، بالرغم مما يتهدد المحاول من خدوش ورضوض، وذلك لأنه ليس هناك من سبيل آخر للنجاة. وعندها أفتى بوجار على جيرما باستعمال عقب بندقيته في الحفر. وعلى مضض، وباتخاذ ألف احتياط حتى لا يتلف السلاح الوحيد الذي بقي له، أخذ يدق تدريجيا على جانب من الآجرة حتى زعزعها عن مكانها، ثم عمد إلى غمده جاعلا منه رافعة ضاغطة أدت أخيرا إلى سقوط الآجرة الأولى. وبعد مرور عشر دقائق، تم توسيع الفتحة، ونزع الإطار الخشبي للكوة، ولم يبق سوى الانطلاق إلى الخارج عبر هذه الفتحة. غير أن الكوة كانت تقع على مقربة من مجرى للمياه العادمة صادف أنه يصب في أحد فروع واد فاس، ويقع في مستوى منخفض بحوالي عشرة أمتار، وإذن لم يكن من الوارد القفز كل هذا العلو. وكما يحدث في جميع عمليات الهروب الرومانتيكية، فقد تم اللجوء إلى الطريقة الكلاسيكية التي تقضي بليّ غطاءي سرير يُربطان إلى بعضهما على شكل حبل. ولكن أين سيمسك طرف الحبل؟ وراحت نظراتهم تهيم بحثا في الغرفة...ثم ها هو طوق النجاة يمده لهم كلاّب صغير غرسوه بين آجرتين وجعلوا الحبل المحرّر يتدلى إلى الخارج. غير أنه خلال كل هذا الوقت الذي استغرقته تلك الاستعدادات، كان الهجوم الذي يقوده المغاربة قد ضاعف من عنفه. وكان كربانتيي وبوجار قد أعمتهما كليا شظايا الجبس والخشب التي تتطاير بفعل الطلقات التي ظلت تنهال كالوابل من حولهما. كما سمعا في نفس الوقت طرقات عنيفة آتية من السقف. إنهم المهاجمون يحاولون اختراق السطح، كما فعلوا ذلك في بيوت أخرى، لكي يلقوا بالبنزين عبر تلك الفتحة وإحراق المحاصرين في الداخل. أفرغ المدافعون الشجعان أسلحتهم لآخر مرة، ثم سارعوا إلى التسلل عبر الحجرة الصغيرة في ذات الوقت الذي تناثرت فيه شظايا باب الغرفة التي غادروها تواً تاركينها تُجتاح من طرف المهاجمين. ثم أغلقوا بالمزلاج الباب الرقيق للحجرة الصغيرة وجعلوا خلفه عددا من الأفرشة لكي تخفف من اختراق الرصاص. أثناء ذلك لم يكن قد تبقى لجيرما وأودّو ما يكفي من الوقت للاستعداد للتسلق. وكان أوان ذلك قد حلّ.... كان جيرما أول من تسلق، تبعه أودّو ثم كاربنتيي. أما بوجار فكان على أهبة التسلق عندما تداعت آخر الأبواب الممترسة وسقطت تحت ضربات البلطات. وحاول التسلل إلى الثقب، لكنه لم ينجح في ذلك. لأنه فقدَ توازنه وسقط أرضا فيما كان يواصل إطلاق عياراته على مسافة قصيرة في وجه المغاربة. تمدد على بطنه ثم تراجع وهو يُدخل ساقيه في الثقب. لكنه لم يتمكن من النهوض من دون أن يعتمد بيده اليسرى على بندقيته بينما كان يصوّب مسدسه باليد اليمنى. وأخيرا أفلح في العبور، وبينما كانت إحدى يديه تنزلق ماسكة بالأغطية المتدلية، ظل يطلق الرصاص في الهواء بالبندقية في اليد الأخرى...وقد وقع قبل أن يبلغ الأرض ولكن لحسن الحظ استطاع أن ينهض بدون أن يصاب ويقف وسط رفاقه الذين كانوا في انتظاره. وجدوا أنفسهم عند نهاية مجرى الواد الحار، على مشارف زقاق ضيق يقع على الشارع الكبير للطالعة. ومخافة أن يظهروا للعيان، سيسارعون أربعتهم بتصميم إلى الارتماء في المجرى وعندها سيشعرون أخيرا بنوع من الأمان المؤقت.