هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات. لقد وجدت من العسير، خلال كل الاستقصاء الذي قمت به عن معارك الحرب التي خاضها عبد الكريم، أن أقنع أولئك الذين اشتركوا فيها بتزويدي بالتفاصيل أو إخباري بحقائق هذه الأحداث التي جرت. وكان محمد اشهبار، الذي التقينا به في الحسيمة، رجلا مهذارا تحدث إلينا حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان ابن عبد الكريم يترجم لي سيله المتدفق من الكلام البربري، لكني لم أستخلص منه إلا الشيء القليل ؛ كان من المحال حشر أشهبار في التفاصيل، كما أنه لم يتحدث قط عن مساهمته الخاصة في المعركة. وحصلت من محمد الخطابي، الرفيع الثقافة والخارق الذكاء، على معلومات أكثر وضوحا. إن الهجوم على أبران جرى عند الفجر في 31 ماي. كانت المفاجأة أمرا أساسيا. وكان يجب على الريفيين أن يستولوا على القلعة سريعا، قبل أن يستطيع الإسبانيون الذين في الوادي إرسال النجدات إلى فوق. وأحاطت الحركة تلك الليلة بالقمة وتسللت منحدراتها وجروفها. تسلق القسم الأكبر من الرجال الجبل في دائرتين متراكزتين، تقف الحلقة الخارجية منهما وتغطي المتاريس ببنادقها، بينما تزحف الحلقة الداخلية صعودا، ثم يقف رجالها في وضعية الاستعداد، بينما الحلقة الخارجية من الرجال تتقدم صاعدة، وتتجاوزهم، وكل حلقة تكرر هذه المناورة بصورة دورية. وتسلق قسم آخر من الرجال، بقيادة محمد الخطابي، الحافة الشمالية الشرقية من القمة، وكانت مهمتهم الإلهاء. كان عليهم عند الفجر أن يمشوا بكل إقدام إلى القلعة، زاعمين أنهم قوة إغاثة من التابعين المولدين الذين ضلوا طريقهم في العشية. وكان رجل ريفي ضخم يسير معهم، رجل يدعى محمد، وكان مصارعا شهيرا. وارتاح المتسلقون، قريبا من ذروة القمة، ينتظرون الإشارة من عبد الكريم الذي كان يستلقي مع رجاله فوق المنحدرات الجنوبية. كان الهدوء سائدا، ولم يكن أحد من الرجال يأتي حركة. ولم تأت أية أصوات من عل، فالإسبانيون نيام، لا تراودهم أدنى شبهة. وأدار عبد الكريم رأسه في اتجاه الشرق، وراح ينتظر الفجر. وهمس في أذن جاره يقول: «إني أمسك بندقيتي بيدي وأضع رجلي الواحدة في القبر»، وتلك هي الطريقة الريفية للقول إنه يتوقع أن يقتل، لكنه سيقاتل حتى النفس الأخير. كان الطقس باردا بصورة مريرة، وكان الفجر يتباطأ في الإشراق. وأخيرا، جعلت السماء تضيئ من ناحية الشرق. واستدار عبد الكريم على يديه وركبتيه، فأمر محمد الخطابي، على كتف الحافة الجبلية، رجاله بالتقدم، موجها «تابعيه» صوب بوابة القلعة. ونبهت الضوضاء الحرس، فهتف محمد ردا على نداء الحرس: «اسبانيون، اسبانيون»، شارحا بإسبانية سلسلة هويتهم. وفيما حول القمة، صوب الرماة الذين يدعمون الفريق المهاجم بنادقهم على المتراس في العالي. ولم يسمع الإسبانيون الناعسون أو يميزوا الرجال الملتفين بالعباءات البنية والزاحفين على حافة القمة. ولما أصبح عبد الكريم على مسافة عشرين ياردة، فقد قاد رجاله في هجوم صاعق. وتعالى هتاف الريفيين: «لا إله إلا الله». عندئذ رمى محمد الخطابي ورجاله الحرس عند البوابة، وكان الرماة من الخلف يطلقون النار على الرؤوس التي ترتفع فوق المتراس. وقفز الريفيون من فوق الجدار: لقد كانت المفاجأة كاملة، وهب الإسبانيون المروعون، وتناولوا بنادقهم وحرابهم. واندفع ضابط من إحدى الخيام ملوحا بمسدسه، لكن أحد رجال الريف رماه أرضا وسحق رأسه بعقب بندقيته. كانت الفوضى التامة سائدة داخل حدود القلعة. وتدفق الريفيون المائة والخمسة والعشرون من فوق المتاريس، البندقية في يد وسكين طويلة مقوسة في اليد الثانية. واستخدموا سكاكينهم حيث كان ذلك ممكنا، لأن الذخيرة كانت ثمينة جدا. انقضوا على الإسبانيين، يطلقون النار، ويقطعون ويطعنون. وارتفعت من كل حدب وصوب صيحات الجرحى وأنات الموتى، بينما ترددت من كل حدب وصوب أصداء نيران البنادق وطقطقة الرشاشات حين استجاب بعض الإسبانيين إلى أوامر ضباطهم.