بإلقاء نظرة على جميع صور النساء الموجودة ضمن الكتب الخمس، لا يقع بصرنا ولو على صورة امرأة واحدة محجبة، على شاكلة تلك النساء اللواتي غمرن الشوارع والمتاجر والإدارات خلال بداية الألفية الثالثة. وبالمناسبة من النزاهة العلمية بهذا المقام، ملاحظة أن دفاع السي أحمد عن حقوق المرأة، لم يمنعه من الإنفصال في أواخر العمر، عن المرأة التي اختارها شريكة لحياته. قد يرى البعض في هذا السلوك تناقضا في الأفكار؛ إلا أنه في الواقع استمرار فيها و تكامل في الرؤيا؛ فإذا كان الطلاق انفصالا حقا، يتسبب في ضرر نفسي واجتماعي وحتى مادي غالبا لأحدى الطرفين ، أو لهما معا ، فإنه يبقى، من الجهة السيكولوجية والجنسية ? لا حياء في الدين - استرجاعا للحرية . لا نريد أن ندخل في مسببات الإنفصال بين أستاذنا وشريكة حياته، إلا أن الطلاق ليس محرما دينيا على الأقل؛ أبغض الحلال عند الله الطلاق حقا ، ولكن التعليمات السماوية تبقى واضحة : « عاشروهن بمعروف أوفارقوهن بمعروف ... « من منا لا يعلم أن بمحيطه توجد على الأقل أربع أو خمس حالات زوجية تكاد المرأة فيها أن تصرخ ما تغنت به أم كلثوم سنة سبع وستين: « أعطني حريتي أطلق يدي... آه من قيدك أدمى معصمي « كم من زوج قيد امرأته وتركها « معلقة « بتعبير العامة؛ وقد أدمى قيده قلبها فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة، وهي في ريعان الشباب، دون أن تمنعه، هو، هذه الوضعية من التمتع بزواج ثاني ؟ وكلنا يعلم أن أصواتا مهمة وكثيرة بدأت ترتفع داخل جمعيات، بالمجتمعات الأوروبية، لتطالب سلطاتها بالسماح بالطلاق. الطلاق إذن حل إنساني لعقد اجتماعي وديني. عندما نقول بأن السي أحمد كان رائدا ، فنحن لا ننطق على الهوى. كان يتسم بأفكار أقل ما يقال عنها أنها ثورية، ليس اجتماعيا فحسب، و لكن بيداغوجيا كذلك وتربويا، في وقت كان فيه التعليم بالمغرب لم يقف بعد على رجليه؛ أي في بداية الإستقلال، حينها، كان السي أحمد يؤمن بدور العلم في تقدم البلدان . والعلم في نظر أستاذنا بو كماخ يتوقف على التمدرس وعلى القراءة. في أحد نصوص كتاب إقرأ نجد نصا جميلا - ونصوص السي أحمد كلها جميلة - نوصي الكبار، قبل الصغار، آباء أو معلمين كانوا، بإعادة قراءتها، ليستفيدوا و يفيدوا في آن واحد. يقول مجمل النص وعنوانه « هيا معي « : «سمعت الأم الباب يطرق، فلما فتحته فوجئت بسيد يسأل لماذا تأخر ابنها عن الإلتحاق بالمدرسة، وهل هو مريض . فأجابت الأم بأن ابنها ليس مريضا وأنه بالبيت. « وأين أبوه ؟ سأل السيد. بالعمل أجابت الأم. فقال الرجل : قولي لأبيه إني قادم غدا لآخذه إلى المدرسة، فليس من حق أحد في سن ابنه، أن يتخلف عن المدرسة بهذا البلد . « إقرأ الجزء الرابع .ص : 4، قسم المتوسط الأول . الفكرة واضحة وليست بحاجة إلى تحليل . إن السي أحمد، من خلال هذه القطعة، ينادي بالتعليم الإجباري الذي رغم ندائه ونداء مناضلين آخرين مثله ، لم يحقق، بعد أكثر من خمسين عاما مضت عن استقلال البلاد . وهو ينادي بالتعليم لأنه في نظره هو الوسيلة الحقيقية للنجاح ، ولا يعني هنا نجاح الفرد ولكن نجاح البلاد كذلك . يقول السي أحمد في مقدمة كتاب إقر أ الجزء الرابع لقسم المتوسط الأول الصفحة الأولى ثم الثانية : «وأول أسباب النجاح هو التحصيل الواعي .» لا شك أن المعلم هنا وهو يوجه خطابه لتلاميذ القسم المتوسط الأول، يعني بكلمة النجاح ، النجاح في القسم وفي الدراسة ، لكننا نعلم علم اليقين، أن النجاح في الدراسة - في عهد السي أحمد بوكماخ على الأقل - كان يترتب عنه النجاح في الحياة ، ذلك النجاح الذي يترتب عنه تقدم البلاد ورقيها. لكن السي أحمد يضيف وكأنه في الصفحة الموالية يجيب من يشكك في كون العلم قد يحقق النجاح في الدراسة وفي الحياة معا فيقول : « القراءة هي العلم الذي أكسب به الصحة والمال ، وسعادة الحياة « وإذا كنا في حاجة إلى مثال يقتدى به، فالأستاذ بوكماخ نفسه مثالا حيا لما ينادي به، إذا علمنا أنه عصامي التكوين . وكان من المحتمل أن يتبع «حرفة أبيه» كما يقال في العامية، فيرث عنه الفرن ويتابع بيع الخبز بالحي. لكنه اختار طريق العلم للوصول إلى النجاح، ليصبح مربيا أولا ثم مؤلفا ثم رجل أعمال. لا نريد أن نكرر أنفسنا في كون المربي أحمد كان رائدا في أفكاره في ميادين شتى، وعلى رأسها - لكي لا نذهب بعيدا - التأليف المدرسي، ومن خلاله زرع أفكاره الرائدة في رؤوس ناشئة ما بعد الإستقلال. فحتى التفكير في مخاطبة هذه الناشئة باعتبارها رجالات المستقبل ، عبر مؤلفاته، هي ريادة في حد ذاتها ، فإضافة إلى الحث على العلم والمعرفة، قام بوكماخ ، من خلال سلسلته، بنوع من الحملة التحسيسية بأهمية القرية وحاول تحبيبها لرجال الغد، بتطرقه لمواضيع بسيطة جدا تتلاءم وعقلية الطفل؛ نصوص لا تذهب أبعد من الفلاح، والمحراث، والصياد، والسمك والقناص، والطير ثم القرد والفيل، وغيرها من المخلوقات التي تعمر القرى؛ حقا كان هناك هدف بيداغوجي، ولكن البادية كانت ولا ريب في نظره، وهو المفكر، صاحب الذكاء الثاقب ،مستقبل المدينة والخطر الذي يحدق بها في ذات الوقت، إن نحن لم نوليها ما تستحقه من اهتمام وعناية. هل تصوروا جحافيل الشباب والكهول التي هاجمت المدينة خلال السنوات العجاف؟ هل لديكم فكرة عن تكنات الأكواخ التي بنيت على جنبات المدينة ليستقر بها هذا الجيش العرمرم بأطفاله ونسائه ، بعيوبه ومساوئه وما ترتب عن ذلك كله من عرقلة لنمو المدينة ؟ هذا و لا شك ما كان يفكر فيه المربي سيدي أحمد وهو يدبج نصوصا تتناول البادية. لم يكتف السي أحمد بوكماخ بالتعبير ? بين السطور ? عن أفكاره الرائدة في ميدان التربية. فلما صارت سلسلته غير معتمدة من لدن وزارة التعليم، انتبه أن هناك وسيلة أخرى لمتابعة مسيرته التربوية؛ لكنه هذه المرة، غير البندقية من كتف إلى آخر ، كما يقول الفرنسيون، حيث وجه خطابه إلى الراشدين، بدل الأطفال؛ الشيء الذي يؤكده مقال له عثرنا عليه، ب: «66 اكشيفة» بجريدة الخضراء وعنوانه: «علينا أن نختار تحديد النسل أو الفقر. « يجب الإشارة هنا إلى أن العنوان مأخوذ من خطاب لملك المغرب محمد الخامس. فلنقرأ ما كتب : « إذن لا بد أن أردد الكلام الذي أقوله في مجلسنا بالمقهى ( يعني مقهى . . . المشار إليه سابقا ) منتدانا السياسي. هل سيظل ملك المغرب وحده المعني بالتحذير من عواقب خطورة النمو الديموغرافي على برامج التنمية وعلى مستوى معيشة الشعب ؟ لقد آن الأوان لكي نواجه هذه الكارثة بمزيد من الصراحة والشجاعة، وأن تتظافر الجهود الحكومية والهيآت المتنورة؛ أما الأحزاب السياسية،فهي معروفة بمواقفها العدائية من تحديد النسل؛ لأنها تخشى أن تفقد أنصارها من آباء الأرانب..». نلاحظ أن الأستاذ والمربي يلبس جلباب المصلح ليتوجه هذه المرة بكل الشجاعة التي يجب أن تطبع المثقف العضوي إلى متلقين من نوع آخر ومن عمر آخر: النساء والرجال ليحذرهم من خطر النمو الدمغرافي على حياتهم وحياة الأمة. ولا ينسى السي أحمد وهو العارف بعقليات بني جيله حينئذ ? لأنه حسب مقولة أوردها حسن أوريد في كتابه مرآة الغرب المنكسرة : إذا أردت أن تعلم الأنجليزية لجون فليس، عليك أن تعرف اللاتينية ، ولكن يتوجب عليك معرفة جون أيضا «. قلت ولم ينس السي أحمد أن يعزف على الوتر الديني حيث يقول : وفي تصوري أن الإسلام يساند تحديد النسل ، عندما تكون الحاجة إليه تحددها الدولة، بعيدا عن فتاوى رجال الدين و مغالطات السياسيين المحترفين. فالدولة وحدها المسؤولة عن رعاية الصالح العام بترشيد الإنجاب. « يعلن المربي أحمد بوكماخ من على منبر صحيفة وطنية رأيه في الإنجاب غير المقنن، دون خوف لومة لائم، وهو يعلم أنه من المواضيع الطابوهات الذي يختلط فيه الديني بالأخلاقي، أي أنه منطقة أخاسيف ( terres mouvantes ). فالريادة تقتضي ليس فقط السبق لكن الشجاعة في الرأي والنزاهة الفكرية، وهما الصفتان اللتان لم يكن يفتقر إليهما الأستاذ سيدي أحمد بوكماخ.