هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة. هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية. و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت . تعيرنا بأن قليل عديدنا - فقلت لها إن الرواد قليل هذا بيت للسموأل، حرفت منه كلمة طبعا فوضعت «» الرواد « مكان « الكرام»، والحقيقة أن أصحاب الريادة شأنهم شأن الكرام قليلون؛ وذلك بشهادة التاريخ . كان الأستاذ بوكماخ يردد هذا البيت كثيرا ، حسب شهادة الإعلامي بإذاعة طنجة الأستاذ عبد اللطيف بن يحيا،الذي ردده هو نفسه على مسامع الحاضرين وهو ينشط تلك الندوة الأولى التي أقيمت تكريما لروح المربي الرائد أحمد بوكماخ. وسنعود لريادة بوكماخ بعد التطرق لنضاله الساكت والمسكوت عنه. «المثقف هو أصلا مناضل. ولو لم يكن كذلك ،لتوقف عن الكتابة والنشر» . هذا ما جاء على لسان الشاعر و الروائي حسن نجمي خلال حديث تجاذبناه في مكتبه، وهو ساعتئذ مسؤول على مصلحة الكتاب بوزارة الثقافة. أنا لا أقصد النضال بالمعنى المتعارف عليه اليوم . أعلم أنكم أنتم الذين عزفتم عن السياسة والسياسيين، فقدتم ثقتكم في كل من يتناول خطابا تفوح منه رائحة الانتخابات والأحزاب والنضال. وأصبحت لديكم حساسية إزاء كل مناضل؛ سواء كان صادقا مثل أولئك الذين قضوا نحبهم ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، شيخ العرب والمعطي التادلاوي ولحسن إيدار أو أولئك الوصوليين، والأمثلة كثيرة حولكم، منذ أن أدلى الاشتراكيون بدلوهم ببئر الحكومة. من المنطقي إذن أن تختلط عليكم الأوراق. والحقيقة أن أولي الأمر منا و من يتشيع لهم، يحبذون أن تظل الأوراق مختلطة؛ لأنهم يجدون راحتهم ومبتغاهم في الغموض والإبهام، هم مثل الضفادع، لا يعيشون إلا في الماء العكر. وهذا الماء العكر يفسد الذوق ويجعلنا نحسب كل ماء عكر. ولهذا قررت أن أفتح قوسا، قبل الاستمرار في الحديث عن معلمنا سيدي أحمد قصد إضاءة الأذهان. ما هذا الضجيج ؟ استمعوا إلي لحظة من فضلكم، ثم احتجوا من بعد كما يحلو لكم ! ما هوالنضال ؟ يكاد ينفرد عندنا رجل السياسة بنعت المناضل. فعندما ينطق أحدهم بكلمة مناضل، فإن تفكيرنا يتجه مباشرة إلى السياسة؛ وذلك بحكم تداول هذا المصطلح غالبا من قبل الإعلاميين، بنعتهم الساسة وحدهم بالمناضلين، دون الإشارة إلى أن هؤلاء الساسة إنما هم يناضلون بنا نحن وفينا كما يناضلون في المال العام. إن النضال في الواقع له ميادين شتى. فهناك من يناضل في إطار ديني، و يسمونه داعية ، و هناك من يناضل داخل المجتمع المدني، للدفاع عن قضية من قضايا الساعة، كاحترام البيئة أو تحرير المرأة أو إهدار المال العام، إلى غير ذلك من القضايا الراهنة التي تشغل الرأي العام، ويسمونه فاعلا جمعويا. وهناك من يناضل في نفسه حتى، وذلك من أجل كبح جماح هواها و تطويعها و يسمى الزاهد. وإذا عدنا لمعلمنا سيدي أحمد، ولمؤلفاته، يمكن القول بدون أدنى مجازفة أنه كان يتمتع بكل هذه الصفات وحده ، بمعية مؤلفاته، كان السي بو كماخ المناضل السياسي والفاعل الجمعوي و الزاهد في ذات الوقت. إنني أعتقد شخصيا أن في اختيار السي بوكماخ لمهنة التعليم ، في وقت كانت فيه المناصب المغرية تهدى، هو نضال في حد ذاته . يقول جيمس ديمس في كتابه حركة المدارس الحرة بالمغرب الصفحة 111: « و لقد غادر العديد من مدرسي المدارس الحرة التعليم في بداية الاستقلال للالتحاق بوظائف ذات رواتب عالية في الإدارة أو قطاع الأعمال. « إن قرار السي أحمد البقاء في قطاع التعليم يعد قرارا نضاليا وزاهدا في نفس الوقت. ويدل على أنه كان للرجل ليس فقط قناعة وإيمان عند انخراطه واستمراره في سلك التعليم و إنما مشروع؛ و مما يشي بما نقول ، أنه لم يكتف باختيار مهنة التدريس؛ ولكنه فكر في التأليف؛ لأنه ، بغض النظر على ما كان يستورد من كتب مدرسية من بلدان الشرق، لم تكن توجد مراجع تعليمية مغربية باللغة العربية، خلال الخمسينيات، يمكن للمعلمين الاعتماد عليها عند تحضير الدرس ، أو للتلاميذ الاستعانة بها وقت المراجعة. لكن الأستاذ سيدي أحمد أغمض عينيه وقفز للسباحة، وبجانبه و لا ريب مدرب واحد ألا وهو أستاذه الجليل و أستاذنا جميعا سيدي عبد الله كنون. فلنستمع لشهادة السي بوكماخ شخصيا في مقال بجريدة الخضراء التي اهتمت به منذ انطلاقتها في صيف 1990 : سأل الصحفي :»- وإلى جانب الموهبة المسرحية هل هناك عنصر آخر مشجع ؟ - هناك عالم جليل هو أستاذنا عبد الله كنون ( رحمه الله ) ، فعندما لاحظ موهبتي في مجال الكتابة، طلب مني العمل معه بالمدرسة . - إذن كان للعلامة كنون دور ما في حياتك ؟ فأجاب سيدي أحمد : - طبعا . . . وهو دور مهم . فأنا لم أتخرج من مدرسة تكوين ، بل درست الثانوي بالمعهد الديني. والأستاذ عبد الله كنون هو الذي وجهني إلى التعليم . . . ومن التعليم صرت أستخرج الكتب و التمارين والأسئلة . . . وهكذا بدأت « إقرأ « . . . « حقا كان هناك السي عبد السلام جسوس، صاحب دار الطبع و النشر «دار الفكر المغربية» ، الموجودة آنذاك، بشارع الحرية بطنجة، بجانبه كذلك لييسر له الخطوات الأولى العملية فاهتم بطبع الكتاب على الأقل، و طمأنه من حيث برمجتها بالمدارس الحكومية، نظرا لما كان لهذا الرجل من نفوذ، أحسن استغلالها، داخل حزب الاستقلال الذي تولى آنذاك شؤون البلاد والعباد ؛ ولكن ذلك لم يكن ليكفي لإنجاز كتاب تعليمي موجه لأبناء شرائح مختلفة من البلاد، ولمدرسين متفاوتي التكوين و السن والعقليات. من المؤكد أن تأليف كتب «إقرأ» تطلبت من الأستاذ سيدي أحمد بوكماخ مجهودا كبيرا ، ومعاناة حقيقية . فلنستمع إليه وهو يتحدث لصحفي بجريدة الخضراء عن بداية تجربته مع التأليف : «بدأت عام 1954 . لقد انطلقت من التحضيري ، فألفت كتابا له؛ ثم انتقلت إلى الأقسام العليا، فصرت بعد كل سنتين أؤلف جزءا إلى غاية 1664 « هكذا و في الوقت الذي كان فيه الآخرون نياما أو مستيقظين يفكرون فيما يزينون به حياتهم الدنيا من مال ونساء وأولاد، كان فيه أستاذنا سيدي أحمد ينقب بين أمهات الكتب وأخواتها، بحثا عن نص ملائم لعقلية التلميذ المغربي ، أو تمرين مطابق للدرس المعني ، أو عبارة توافق التعبير المنشود . و هذا في نظري هو النضال الحقيقي . من منا مثلا يفكر، لما يلج منزله ويضغط على زر كهربائي فينقشع الظلام أمامه و يستنير المكان ، من منا أقول، يفكر في المراحل التي قطعها اختراع الكهرباء والمصاعب التي عانى منها مخترعه للوصول إلى الغاية المنشودة. فكذلك الأمر بالنسبة لكتب « إقرأ» أو لأي كتاب من الكتب . فعندما نفتحه ونشرع في قراءة سطوره المكتوبة بجمل متناسقة و تعبير جميل ومفردات منتقات ، فإننا لا نفكر أبدا في الأشواط التي قطعتها تلك الجمل و الغربلة التي عرفتها لتصل إلنا أخيرا كما تصل مضغة الخبز بين الأسنان . وأذكر أن الكاتب الفرنسي غوسطاف فلوبير كتب كتابه « السيدة بوفاري» عشر مرات، قبل أن يصل أمام قرائه. ولما انتهى منه، كان يغلق عليه باب غرفته و يشرع في قراءته بصوت مرتفع. وأتذكر ما قاله لي أحد الكتاب الشباب ذات صباح : « اليوم أحرقت ما كنت أعتبره رواية واحتفظت به أكثر من خمس سنوات.» و بقراءة ممعنة لبعض من نصوص إقرأ، سواء منها تلك المحررة من قبله أو التي ترجمها من لغات أخرى، نكتشف أنه كان مناضلا رائدا في ميادين كثيرة. وهذا النضال يتجلى من خلال فعل اختيار النصوص والمواضيع التي ضمتها كتب إقرأ. الإختيار كما هو معروف ليس بريئا. إنه يتم حسب هوية الشخص وميولاته وطموحاته وأفكاره.