هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة. هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية. و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت . هذه التعترات خلال الخطوات الأولى لوزارة التعليم، لم تمنعها من الاستمرار في مخططاتها و متابعة مسيرتها لأنه، على ما يبدو من السياسة المتبعة آنداك، والمبنية على التوسع والتعريب، كان المسئولون يهدفون إلى الكم أكثر مما يهدفون إلى الكيف؛ مما سيترتب عنه نتائج وخيمة. لنسمع لجون دجيمس ديمس و هو يتحدث عن نمو المدارس العمومية منذ الاستقلال في كتابه تاريخ المدارس الحرة بالمغرب الصفحة 111 الفقرة الأخيرة : « لقد جاءت نتائج التوسع والتعريب المرتجل مصدقة لتكهنات الخبراء التربويين الأجانب سنة 1956. فما طبقه المسئولون خلال السنتين الأوليتين من عمر الاستقلال، ترتبت عنه كارثة محققة. فمن حيث المضمون ، تمت التضحية بقسط كبير من الجودة لبلوغ الكمية المرغوب فيها.» وحتى لا يعاب علينا لجوؤنا إلى مختصين أجانب لتقييم تجربتنا التعليمية بعد الاستقلال، فلنستمع لشاهد من أهلها وهو أستاذ العلوم السياسية ومؤرخ المملكة سابقا حسن أوريد حيث صرح لجريدة المساء عدد 1846 بتاريخ 30- 08- 2012 : «ومن حيت التشخيص، هناك محطتان رئيسيتان في مسارنا التعليمي . المحطة الأولى عقب الاستقلال وقد حددت المبادء الأربعة المعروفة ( التعليم ، التعريب التوحيد ، المغربة )؛ وهي المحطة التي يمكن أن نقول عنها أن أصحابها كان لهم تصور عن المجتمع الذي يريدون؛ لكن بدون وسائل وبنوع من الرومانسية والارتجال كذلك، وفي سياق سياسي مضطرب ، يطبعه الصراع والالتفاف حول من قادوا معركة التحرير. في هذا السياق لم يكن ينظر إلىقطاع التعليم كحل، ولكن كمشكل وكان رجال التعلين موضع توجس. أما المحطة الثانية فهي التي بدأت مع خطاب المرحوم الحسن الثاني في يوليوز 1995 ، عندما قيم مشكل التعليم من منظور عدم ملاءمته لمتطلبات العولمة .» و بتتبع الخطوات الأولى لسياسة التعليم بالمغرب، خلال المرحلة الأولى من الاستقلال، لا يمكن للمرء إلا ان يقوم بالملاحظات الآتية و التي كانت سببا في فشل هذه السياسة. الملاحظ أن السياسة التعليمية غداة الاستقلال، كانت رد فعل لما عانته اللغة العربية من قمع خلال الحماية، و ليست قرارات ناتجة عن دراسة لوضعية ما . و كأننا بالمسؤولين يحاولون الانتقام لهذه اللغة التي ظلت مضطهدة لمدة 50 سنة. كان من المفروض، توقع مرحلة انتقالية، في انتظار تكوين مؤطرين و مدرسين و تأليف مراجع؛ إلا أن هده الخطوات تتطلب وقتا للتفكير و التخطيط ؛ الشيء الذي لم يكن يسمح به لا الحماس المفرط لدى المسؤولين الوطنيين، ولا انعدام تجربة الكثير من الشباب الذي تقلد المسئولية حينئذ. الملاحظة الثانية هو أن المسئولين انشغلوا بتزايد الأقسام وتسجيل أكبر عدد من الأطفال وأغفلوا وضعية المربيين؛ ظنا منهم ربما، أن هؤلاء سيتمادون في تضحيتهم لأجل الوطن، كما كان الحال عليه بالنسبة للتعليم الحر؛ مما نتج عنه هروب الكثير من المعلمين نحو قطاعات أخرى ؛ وكانت النتيجة أن بادرت الوزارة إلى تعويضهم بأطر اقل كفاءة: من تلاميذ راسبين في امتحانات الباكالوريا وعرفاء و فقهاء. و الملاحظة الثالثة أن القرارات التي اتخذت لم تكن قرارات تربوية أكثر مما كانت سياسية. بعبارة أخرى لم تكن قرارات تنظر إلى المستقبل و تاخد بعين الاعتبار حاجيات البلاد من اطر ومعدات لتحقيق نجاحها. و الهفوة الكبيرة التي ارتكبها المسئولون بوزارة التعليم، هي أنهم اتخذوا من المدارس الحرة نموذجا لمخططاتهم، واعتقدوا أن النجاح الذي حققته هذه المدارس، وهي تدرس جميع موادها باللغة العربية، يمكن تحقيقه فيما يخص التعليم العمومي؛ إن هو اقتدى بها كنموذج، متناسين الظروف التي خلقت فيها تلك المدارس ونفسية وعقلية أطرها أنذاك. إذ كان لهؤلاء الأطر العاملة بالقطاع الحر، خلال الاستعمار، حوافز يختلط فيها الشعور الديني والأخلاقي والوطني. لم يكونوا يضعوا نصب أعينهم، و هم يشتغلون بهذه المدارس، الجانب المادي. فمنهم من كان يشتغل باجر ضئيل و منهم من كان يعمل دون مقابل، و كل ذلك، خدمة للغة الضاض أي لغة القران، وخدمة للوطن. الشيء الذي لم يعد مقبولا بعد الاستقلال؛ إذ تطورت العقليات و اشتبكت المصالح واستفاق العديد من الكوادر من نشوة المقاومة غير المباشرة للاستعمار. و انتبهوا أن الوطن أصبح راشدا، يتحكم في موارده، و أن مناصب هنا وهناك أكثر مردودية، لا زالت شاغرة؛ بل تعرض دون حاجة لمبارة أو حتى للأهلية. فاتجهوا نحوها تاركين وراءهم التعليم و مشاكله. الشيء المثير لانتباه كل متتبع أو باحت في هدا الميدان، هو لماذا لم يدم عمر بن عبد الجليل إلا سنة بوزارة التعليم، بعدما حل محل محمد الفاسي فارس التعريب ؟ يعتبر عمر بن عبد الجليل، في نظري شخصيا، رجل إصلاح. كان سينقد التعليم العمومي المغربي من أخطاء ارتكبها سابقه محمد الفاسي و سيرتكبها من جاء بعد عمر بن عبد الجليل، فيما بين السنوات 1959 و 1962. لقد قام عمر بن عبد الجليل بإصلاحات متميزة و عميقة وضرورية في دات الوقت. وذلك قصد ترجيح الكيف على الكم. حقا، تراجع عدد التلاميذ المسجلين خلال هده السنة، رغبة منه ربما، في تجنب الاكتضاض؛ إذ حدد عدد التلاميذ بكل قسم، في 50 تلميذا. واهتم بمستوى تدريب المعلمين، كما قام بإعفاء عدد كبير من العرفاء، الذين لا يتوفرون على مستوى مشرف للتدريس. ولم يحتفظ إلا بالقليل منهم، ممن لهم مؤهلات مقبولة، لتاطير دور ا لحضانة. ثم لم ينس العودة لتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية. و لتدارك الضعف الذي أصاب التلاميذ، خلال سنة من الاستقلال 1956 ، أضاف سنة سادسة للطور الابتدائي ، اشتملت على 20 ساعة أسبوعية لتعليم اللغة الفرنسية، مقابل 10 ساعات باللغة العربية. تعتبر هذه الخطوات جريئة في بداية الاستقلال؛ أي في وقت كان فيه الكل يتطلع إلى التعريب؛ كما كانت رياح القومية العربية تهب من الشرق، و صيت جمال عبد الناصر يدوي في إرجاء العالم العربي و الغربي؛ وفي وقت كانت تتعالى فيه أصوات كثيرة، للقطع مع الاستعمار و ادنابه. و تعتبر حينذاك اللغة الفرنسية أحد هذه الادناب. و هذه الأصوات على ما يبدو، هي التي جاءت بعد عمر بن عبد الجليل، لتكرس اخطاء ارتكبها محمد الفاسي و من معه سنة 1956 ، تحت نشوة الاستقلال، وفي غياب أي رؤيا مستقبلية لسياسة التعليم بالبلاد. فخلال هذه الظروف اذن جاء احمد بوكماخ. أولا بتجربته كمعلم بإحدى المدارس الحرة (الإسلامية الحرة) ليلج ميدان التأليف المدرسي الذي كان ما يزال بكرا آنذاك بالمغرب. إلا أن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك مؤلفات مدرسية قبل السي أحمد بوكماخ. فلقد أشرنا سابقا أن المسئولين استوردوا كتبا مدرسية كانت تدرس بمدارس الشرق من سوريا ولبنان على الخصوص ثم مصر والعراق ، وذلك بشهادة الأستاذ بوكماخ نفسه؛ حيت صرح لصحفي بجريدة الخضراء، العدد الأول ليوم الجمعة فاتح يونيو من سنة 1990 : « في بداية مزاولتي للتعليم، كانت الكتب المدرسية تأتينا من مصر ولبنان. . . ونحن على علم بأن الكتب اللبنانية في تلك الفترة، مؤلفة بعقلية فرنسية ، لا تناسب بيئتنا، والمعلمون الرسميون كان ممنوعا عليهم تأليف الكتب المدرسية. . . وكان لا بد من بديل. . . فكأني بالسي أحمد بوكماخ شمر على ساعديه للتأليف لأسباب شتى ، لا تنحصر في فقر الساحة التربوية إليها فحسب ، ولكن كان وراء قراره دافع آخر رغم أنه لم يفصح عنه لمخاطبه، ألا وهو الغيرة على الوطن والحد من التدفق الفكري المشرقي أو الغربي عبر نصوص مدرسية لا حول للمعلمين و لا قوة لهم في الاستغناء عنها. ولا نشك في أن السي أحمد اعتمد بعضا من تلك المؤلفات في بداية مشواره لتأليف نصوصه الأولى، خصوصا وأنه كان يستعملها خلال ممارسته التدريس بالمدرسة الحرة الخاصة . ومن الممكن أنه كان يطلع على تجارب أخرى في التأليف، بطريقة أو بأخرى . ولقد أسرت لي إحدى بناته، بعدما سألتها، خلال لقاء بالندوة الأولى حول بوكماخ، بطنجة، بالأول و الثاني من يونيو 2012 ، سألتها لماذا بعث بهن أبوهن إلى مدرسة فرونكوفونية، هو الذي كان ينادي بتعلم اللغة العربية، أسرت لي أنه كان يعتبرهن « كوباياته « أي موضوعا لتجاربه التربوية والتأليفية . وبإمعان النظر في هذه الوضعية المتسمة بالتردد في القرارات وغياب رؤيا مستقبلية لدى المسئولين وغياب مؤلفات مدرسية وطنية قريبة من التلميذ المغربي، إلا من كتب مستوردة من المشرق، في هده الظروف كلها، انبثق اسم احمد بوكماخ. و كان مجيئه منتظرا ومرغوبا فيه، نظرا لما كان يتخبط فيه مسئولوا التربية والتعليم آنذاك من مشاكل على أصعدة شتى، ونظرا لخلو الساحة من أي مبادرة في اتجاه تأليف مدرسي وطني. وعلى كل حال، فان قدوم احمد بوكماخ لميدان التأليف كان ضروريا. إلا أن بوكماخ لم يزدد من خواء. إنه المتعلم العصامي، الذي عانى من غياب المراجع المدرسية، سواء كتلميذ أو كممارس لمهنة التعليم، حسب ما جاء على لسان أخته خلال برنامج نوسطالجيا . إنه المعلم منذ 1945 ، الحامل لمشروع. والدليل على حبه لمهنته حتى النخاع، كما شاع عنه ، أنه لم يغادر التعليم لقطاعات أخرى، رغم الفرص المتاحة آنذاك. لم يكن في مجيئه الخلاص النهائي للتعليم مما كان يتخبط فيه من مشاكل وسوء التدبير الإداري والتربوي . ولن نحمل الشيخ أحمد بوكماخ تبعات ما عانى منه التعليم وما زال يعاني من مشاكل وتعثرات، فقط لأن أحمد بوكماخ أخذ على عاتقه تأليف كتب للقراءة للطور الابتدائي . فكتب أحمد بوكماخ لم تكن إلا بعض من اللبنات الضرورية آنذاك لبناء قاعدة صلبة لصرح تعليمنا.