هل انتبه القراء يا ترى أنه في الوقت الذي كانت تعتبر فيه صفة ساكن للقرية « العروبي « شتيمة، وفي الوقت الذي كان الكثير من المغاربة يتباهون بمدينيتهم، حتى ولو كانوا من سكان أحياء المدينة الهامشية ؛ في ذلكم العهد ، كان السي أحمد ينوه بالفلاح ونشاطاته وبجمال الطبيعة وفوائدها، وكأني به كان يقوم بحملة تحسيسية غير مباشرة تعرف بأهمية البيئة في حياة الإنسان . إذا تفحصنا ? ولو بسرعة ? جميع كتب إقرأ، يلفت انتباهنا مجموعة من المواضيع التي تصب في اتجاه واحد تقريبا. هكذا مثلا ، فمن بين ثلاثين محورا للإهتمام، بفهرس المطالعة والتعبير، بكتاب إقرأ الإبتدائي الثاني، نجد أكثر من عشرة محاور تتناول الأرياف بطريقة أو بأخرى (الخر يف ? القنص والصيد ?فصل الشتاء إلخ...) . إما ضمن كتاب «إقرأ» المخصص لقسم المتوسط الأول ، فنجد أربعة عشر محورا من بين ثلاتين محورا تتناول البادية والبحر وما جاور ذلك. التطرق إلى هذه المواضيع في بداية الإستقلال، يجعل من أستاذنا رائدا فيما يخص الإهتمام بمكون جغرافي مهم بالتراب المغربي ألا وهو البادية ؛ تلكم البادية التي لم تصبح العناية بها « موضة « إلا منذ بداية الألفية الثالثة؛ حيت بدأت وسائل الإعلام تلتفت لها ولمشاكلها وتحسس الرأي العام بأهميتها. فسمعنا برامج تمطر الفلاح بنصائح تقنية تتعلق بالفلاحة وتربية المواشي. كان سيدي أحمد مناضلا كذلك في ميدان آخر وسباقا في الإهتمام به والإستفادة منه. إنه ميدان الترجمة ، هذه المادة التي لا زالت تعتبر ببلداننا العربية، إلى حدود السنة الثانية عشرة من الألفية الثالثة، الإبن الفقير للأدب. وأنا أتقصى أخبار كيفية كتابته للنصوص وغزارة قلم أحمد بوكماخ، أكد لي أحد تلامذته ما جاء على لسانه هو شخصيا في مقدمة كتاب إقرأ لقسم الإبتدائي الأول ، حيث يقول : «ستجدون صورا جميلة، وقصصا مسلية، كتبها مؤلفون كبارلأطفال بلادهم فأعجبتهم، ونقلتها لكم.» نعم كان الأستاذ أحمد بوكماخ لا يكتفي بنصوص من تأليفه، رغم أن قدراته اللغوية والحكائية ( إن لم نقل السردية ) والتخييلية، لا يشق لها غبار. فلإغناء مضمون كتبه، كان يلجأ إلى ترجمة بعض النصوص من لغات أجنبية مختلفة . ترى من نبه هذا المعلم المربي لترجمة نصوص من لغات أخرى إلى العربية لتستفيد منها أجيال الخمسينيات بالمغرب ؟ هل هو الحس التربوي أم الثقافي ؟ و لاشك أن ما كان يتمتع به هذا المعلم، المهووس بالتعليم حتى النخاع، من حس تربوي و ثقافي وديني، هو الذي ساعده على إعادة كتابة هذه النصوص، ليخلصها مما كان مدسوسا بين سطورها من أفكار وقيم قد لا تلائم المجتمع المغربي آنذاك. الغريب في الأمر، أن الرجل لم يكن يتقن اللغتين ، الفرنسية ولا الإنجليزية، ولا حتى الإسبانية . لكن تواضعه العلمي، ساعده على اللجوء إلى السيد الحريشني أحمد، الذي كان ضمن متعاونيه، لينقل له ما يشاء من النصوص إلى العربية. إلا أن الأستاذ بوكماخ لا شك أنه كان يضفي عليها من بصماته لتصبح قابلة للإنخراط داخل مضمومة نصوصه. لا أدري هل يصح أن نقارن هنا بينه وبين المنفلوطي، الذي لم يكن هو الآخر يتقن إلا اللغة العربية؛ ولكن وضعه هذا لم يمنعه من ترجمة «غادة الكاميليا» و» سيرانو دي بورجراك « وأعمال أخرى إلى اللغة العربية معتمدا في عملية الترجمة هذه على رواية المفرنسين من أوساطه. إلا أنه يبدو أننا أمام شخص يعي حق الوعي، ما للترجمة من أهمية في نقل المعرفة وتحقيق التواصل بين الشعوب؛ وهذا شيء يثير الإنتباه والإستغراب في ذات الوقت خصوصا إذا علمنا أن هذه الإلتفاتة إلى الترجمة، جاءت في وقت لم يكن فيه بالمغرب تداول للكتاب، لغياب المكتبات العمومية، ما عدا بعض الكتب الدينية ؛ وفي وقت لم تكن القراءة هم المؤطرين بالمدارس التقليدية ولا هم المتعلمين، حيت كان كلاهما يركز مجهوداته على عملية الحفظ والإستظهار والنقل. كما لم يكن فيه للمغاربة اهتمام بالمكتوب فبالأحرى الترجمة. الملاحظ أن سيدي أحمد بوكماخ، لم يناضل باختياراته في الحياة ومواقفه فحسب، ولا بطريقة اشتغاله وتأليفه للنصوص، المتضمنة لكتب إقرأ؛ ولكنه ناضل حتى بلسانه وقلبه كذلك، حسب ما صرحت به أخته ببرنامج نوسطالجيا. وقبل التطرق لهذا الموضوع أريد في سياق الكلام أن أدرج بعض الوقائع التي لها علاقة به، لأنها ستبين لنا إلى أي مدى كان سيدي أحمد بوكماخ متقدما عن زمانه. أخبرني أحد الأصدقاء بشيء من المزاح، وهو من مواليد الخمسينيات، أن أباه لما كان يحضر وليمة ما بمعية أمه، وعندما يحين وقت العودة إلى الخيمة، ويحاول الأب أن ينبه الزوجة إلى أن موعد العودة قد حان، بينما هي منغمسة في الحديث، وسط جماعة من صديقاتها، لم يكن يناديها باسمها، وإنما كان يرميها ب» فردة بلغته» لتلتفت، وحينها يشير لها بيده أن تتبعه. وهناك واقعة أخرى لامستها شخصيا، وأنا مدرس بالسلك الثاني، سيعيننا سردها على الوقوف على تقدمية سيدي أحمد بوكماخ . فبعد صدور مدونة الأسرة، أي في بداية الألفية الثالثة( 2004 ) ، كان النقاش حول حقوق المرأة جادا وحادا؛ و نزلت للشارع أفواج من المتظاهرين، منهم المؤيدون ومنهم المعارضون. وأكدت الصحف على أن عدد المعارضين، وخصوصا منهم الحركات الإسلاموية ، كان أكثر من المؤيدين، رغم أن ما جاء بالمدونة، هي حقوق كونية، معترف بها دوليا، نابعة من القانون الوضعي. وبجانب النقاشات الإعلامية كان هناك نقاش هامشي يدور في المقاهي والأندية والمدارس. وذات استراحة، بالمؤسسة التي كنت أزاول بها، فاجأت أستاذا لمادة اللغة الفرنسية، يحاور زملاء له بأسلوب يطبعه الغضب. كان صاحبنا غاضبا لكون هذه المدونة تريد أن تجعل من الآباء» قوادة»؛ لأنها ستسمح للبنات بالزواج دون استشارة آبائهن؛ كما ستسمح لهن باستضافة من يرغبن في الزواج منه إلى بيت الأسرة، لتقديمه للأب. أذكر أن موقف هذا الأستاذ من المدونة أثار حنقي، خصوصا وقد كنا نحن مدرسي اللغات الأجنبية، نعتبرآنذاك من المتفتحين على الأفكار الجديدة، لكوننا كنا على احتكاك مع الحضارات الأجنبية من خلال اللغة وآدابها؛ أدرجت واقعتين هنا، الأولى قد تكون وقعت خلال الخمسينيات ، أي خلال فترة الإحتلال. ورغم طابعها المزاحي ، فإنها تحمل ما تحمل من دلالة على صورة المرأة عند الرجل المغربي آنذاك، الذي طالما ردد ولا زال يردد أحيانا، أن المرأة شأنها شأن الطفل، يجب معاملتها كما يعامل طفل؛ والحوار الثاني، حدث بعد وفاة سيدي أحمد بسنوات، وبعد مرور خمسين عاما على استقلال المغرب تقريبا؛ لكن الواقعتين يوحد بينهما كون المرأة في المخيال المغربي، لا تتمتع بصورة تشرف الإنسان المغربي. إلا أننا نجد معلما باسم أحمد بوكماخ آنذاك يحمل مشعل النضال من أجل حرية المرأة. نحن هنا أمام رجل سابق لعهده بكل المقاييس، والتاريخ الحديث شاهد على ما نقول . إنه سابق لعهده بنصف قرن وما ينيف. فخلال الخمسينيات، أي خمسون عاما قبل صدور المدونة ( إذا علمنا أن أول كتاب لسيدي أحمد صدر في 1954 ) ،في الوقت الذي كان فيه بعض النساء بالمغرب لا زلن يرتدين الجلباب والنقاب، وكان الكثير من أزواجهن يمنعنهن من الذهاب إلى الحمام بمفردهن، كما كان البعض ( جدي مثلا ) يمنعهن من الإنفراد حتى بالذكر من الدبان، خوفا على عرضهم ، في ذلك الحين، كان أستاذنا ذا التكوين المعرب،أكثر تفتحا من العديد ممن أصبحوا زملاء له، ومنهم زميلي الأستاذ، الذي من المفروض أنه اطلع على ثقافة ما وراء البحار الرائدة. نعم ، فخلال الخمسينيات ، كان معلمنا الشاب يلوح بحقوق المرأة وينصب نفسه محاميا لمآزرتها، سواء بلسانه أو من خلال نصوصه. فإذا كان سيدي أحمد، في بداية الخمسينيات، حسب أقوال أخته، و تلميذه عبد الصمد العشاب، ببرنامج نوسطالجيا ، رجلا تقدميا ، حداثيا لا يتوقف عن الدفاع عن المرأة، سواء في التجمعات العائلية أو بالمقهى بين أصدقائه ومعارفه، دون مخافة لوم لائم في ذلك، فهذا يعني ، وبدون جدال أن الرجل جاء نصف قرن وما ينيف متقدما عن الجيل الذي عايشه. ولسنا بحاجة حتى إلى الإستشهاد بأقوال أخته خلال برنامج نوسطالجيا. فبالعودة إلى عتبات مؤلفاته، لا يمكن ألا نلاحظ أن من بين أغلفة المؤلفات الخمس، أربعة تحمل صور فتى وفتاة، إما جنبا إلى جنب، منشغلين بالقراءة أو متماسكين بالأيدي في طريقهم نحو المدرسة. يتبع