نسي الإخوان حلفاءَهم الديمقراطيين الذين صوتوا على الرئيس (فشرعوا في وضع قواعد اللعبة وحدهم)، نسوا أيضا، وبسرعة، أنهم قَبِلوا التوافقَ مع الجيش لتحقيق انتقال سلس للسلطة عَبْرَ مرحلة انتقالية، (كما نَسُوا أن الدولة مهيكلة بطريقة معقدة عبر عقود نسجت خلالها مصالح لا يمكن التخلي عنها بين عشية وضحاها?. نسوا كل ذلك واستسلموا لمبدأ «التمكين» أولا، فشرعوا في تفكيك أعمدة الدولة، ودخلوا من أجل ذلك في صراعات شغلتهم عن تحقيق الحاجيات اليومية للناس، خاصة وقد كانت الانتظارات من الثورة فوق الامكانيات. فكان أن انطبق عليهم فَكَّا الكماشة: فك المؤسسات التي حاولوا تفكيكها (وهي القضاء، والأزهر، والثقافة)، وفَكُّ المشاكل اليومية للمواطنين، من كهرباء وبنزين وخبز وتموين...إلخ مساهمة في تنويع جهات النظر أمام القارئ المغربي قصْد الخروج من الثنائية الصدامية (ثورة خالصة انقلاب فج) نشرتُ منذ أسبوع مقالا بعنوان: ثورة تصحيحية أم انقلاب عسكري؟(1)، رحب به بعضُ القراء وانتقده آخرون. لم يشكك أحد ممن انتقدوه في المُعطيات التي قدمتُها، بل اتجه النقد إلى زاويتين: أولاهما: أن الأخطاء التي نسبتها إلى «الإخوان» لا تبرر الانقلاب عليهم، والثانية أنني نظرت إلى الموضوع من زاوية واحدة. والواقع أنني لم أدَّعِ الشُّمول والإحاطة بالحدث، بل قصدت إلقاء الأضواء على جانب من الصورة يرفض الإخوان رؤيته، أما قضية اعتبار ما وقع ثورةً أو انقلاباً فقد تركتُ الحكمَ فيه للقارئ، فإن هو حكم مبدئيا بأن ما وقع انقلاب ثم وجد فيما قدمته تسويغا له فذلك شأنه. لقد قدمتُ فعلا وقائعَ موضوعيةً تقلل من غُلواء الأصوليين المغاربة الذين يدعون أن الإخوان لم يرتكبوا من الأخطاءِ ما يُبرر الثورة (أو الانقلابَ) عليهم، وأنهم «ضحيةُ» الآخرِ الذي لم يحترم قواعد اللعبة، واستطردوا من ذلك كله إلى لعن العلمانيين واليساريين والليبراليين وخلق الله أجمعين2، كما هي عادتهم وديدنهم حين يقف التاريخ حائطا في وجه طموحاتهم. أردت أن أبين لكل «الإخوان» (لعل إخواننا يتعظون) أنهم ضحية أنفُسهم، ضحيةُ أخطائهم القاتلة. وها أنا أعود لصياغة الموضوع بطريقة أخرى تستحضر كل أطرافه، وتبين مساره وغاياته. سأعرض لأخطاء الإخوان المنهجية، وكيف سهلوا مهمة خصومهم، الذين تكالبوا عليهم كل لحسابه الخاص. أ أخطاء الإخوان لقد قلتُ سابقا بأن الإخوان هم أعداء أنفسهم، وعدوُّ نفسه يفعلُ بها ما لا يفعله به الأعداء، لأنه أعلم الناس بمقاتله. لقد ساروا في الأحراش بعيون مُغمضة اعتداداً بمنظارِ حدسٍ علاهُ صدأ العُزلة. فالطريقة التي حاولوا بها معالجة مرحلة انتقالية ملتبسة مغطاة بغبار الثورة لا يمكن أن تصدر إلا عن فكر فئوي منغلق. فحين قال لهم شيخ خَرِفٌ: «لقد آلت إليكم فتلقفوها تلقُّف الكرة»، صدقوا فعلا أن الكُرة يمكن تُلعبُ في نصف الملعب. لقد تلقفوا الكرة وظلوا يجرون بها وحدهم في جنبات الملعب، فلم يسجلوا هدفا، ولم يُمتعوا جمهورا، فصفر الحكم نهاية الشوط تحت صفير الجمهور الغاضب. هل سيعودون للعب مع خصومهم في الشوط الثاني أم سيسلكون طريقا آخر، الأمر رهينٌ بحسهم السياسي. ولقد غررَ بهم «مرشدُهم»، و»بديع» زمانهم حين قال: «طز في مصر»، فقد فهموا من ذلك أن التنظيم العالمي الذي هو مُرشده أيضا قادر على ابتلاع النيل والأهرام وجمال عبد الناصر وأم كلثوم...الخ. إنه الجشع السياسي الموصل إلى التخمة القاتلة. وهاكَ عينةً من أخطائهم. أ.1 الغش في اللعب استخفافاً بالخصم من ثوابت الفكر الإخواني ازدواجيةُ الخطاب والتحلل من العهود والاستخفاف بالآخر. وهذا السلوك مؤسس عندهم على اعتبار الآخر عدوا تجوز مخادعته، وعلى توسيع مفهوم الضرورة التي تبيح عندهم كل محظور. وهذه عينات من أخطائهم التي لا يستطيعون رؤيتها. أ11 الإقدام على وضع قواعد اللعبة من طرف واحد وبطريقة انفرادية. فعندما اختلفوا مع شركائهم في وضع الدستور لم يتوقفوا للبحث عن حل توافقي حول النقط القليلة المختلف حولها، بل كتبوا فيه ما تشتهيه أنفسهم (والنفس أمارة) وعرضوه للتصويت تحت عاصفة من فتاوى التكفير والتحقير كافية وحدها للطعن في مصداقية التصويت. وكانت هذه بداية المواجهة مع الشباب وجبهة الإنقاذ التي كان الإخوان ينظرون إليها نظرة كَمية ويتجاهلون تأثيرها الكيفي باعتبارها ممثلة للطبقة الوسطى المستنيرة والمتحركة. ولذلك سرعان ما تحولت هذه المجموعة إلى نواة يدور حولها الشباب ويحطب في حبلها آخرون، ولكل حساباته، كما سيأتي. لقد كان عليهم أن يصبروا ويصابروا ويقبلوا القسمة، ويؤجلوا ما لم يمكن التوافق حوله مُراهنةً على المستقبل، أو على الأقل انتظارا لمعرفة الميدان. هذا النوع من الغرور العددي، واستصغار الخصم، وبث عدم الثقة، هو ما نلاحظه اليوم في المغرب فيما يتعلق بتنزيل الدستور. وستكون له عواقب وخيمة، لا شك في ذلك. أ12 يتصل بهذا النوع من الغش والاستغفال التحالفُ مع المتطرفين ضدَّ الديمقراطيين، وقد وصل هذا السلوك المريب إلى حد التستر على تجاوزات خطيرة، ابتداء من الاستيلاء على المنابر الدينية وتحويلها إلى منابر سياسية، وإصدار فتاوى من على تلك المنابر تجعل من يصوت على مرسي في الجنة ومن يصوت على البرادعي وصباحين في النار، لتصل إلى حد تكوين ملشيات، مثل حازمون، تحاصر مؤسسات القضاء والإعلام، وتهاجم المتظاهرين أمام القصر الجمهوري، وتقتل الشيعة في الشارع العام...الخ مارست النهضة التونسية هذا النوع من الكيد ثم اكتوت بناره حين بادر المتطرفون إلى اغتيال شكري بلعيد، والهجوم على أنشطة فنية ومعارض، وتخريب زوايا ومزارات ثم الاصطدام برجال الأمن...الخ، فاتخذت إجراءات بسيطة جعلت السلفيين يكفرونها بدون تردد، من داخل تونس وخارجها، وفي المغرب محاضن ومشاتل من هذا القبيل سنخصص لها مقالا خاصا، وهي تتلخص في تخريب التعليم، وتدعيم خطاب التأثيم والعزلة من خلال أنظمتها الموازية المنغلقة. فعلى إخواننا أن يختاروا الصف الذي يريدون أن يتحالفوا معه: مع الديمقراطيين والحداثيين أم مع الظلاميين والخوارج؟ أ13 استعمال العنف المعنوي والمادي بدل الحوار والإقناع بالتي هي أحسن استعمل إخوان مصر العنفَ المعنوي والمادي بدون احتياط أو تردد: تجلى العنف المعنوي في عدم الالتزام بالوعود التي قطعوها على أنفسهم، ابتداء بالتعهد بعدم الترشح للرئاسة، وامتدادا إلى الخروج من منطق التوافق إلى منطق المغالبة، وصولا إلى إصدار إعلان دستوري يحصن قرارات الرئيس ويحوله إلى فرعون جديد، وقد ذكر أحد الخبراء أنه لم يسبق في التاريخ أن لجأ رئيس منتخب إلى إعلان دستوري يحصن به قراراته ضد القضاء. وقد ساروا في هذا السبيل من الإخلال بالعهود حتى فقدوا ثقة الجميع، كما ذكر الشاعر عبد الرحمن القرضاوي في رده على فتوى أبيه. ولا شك أن من العنف المعنوي الهدام الخرافاتُ التي يحكيها شيوخُهم فوق منصة رابعة العدوية مراهنين على تكريس الجهل والأمية3. أما استعمال العنف المادي فمن أشهر حوادثه محاصرةُ المحكمة الدستورية العليا لمنعها من ممارسة حقها في إصدار الأحكام، ومحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي لتكميم أفواه الصحفيين، والهجومُ على المتظاهرين أمام الاتحادية حيث سقط ضحايا. هذه وقائع مشهودة، ويتهمهم خصومهم فوق ذلك بتنظيم عمليات التحرش الجنسي/السياسي لمنع النساء من حق التظاهر. وقد شاهد العالم اعتداءَ بعض شبابهم على النساء في الشارع العام، بل أمام مقرهم المركزي... كما أظهروا الاستعداد لما هو أسوأ حين استعرضوا فرقا من الشباب وهم يتدربون بالعصي في رابعة العدوية. وتوج هذا التوجه بتصريحات مشهورة لزعمائهم: منها قول الشيخ صفوت حجازي: «اللي يرشنا بالمية نرشوا بالدم»، وما تلا ذلك من هجوم على دار الحرس الجمهوري التي ضاعت فيها أرواح بشرية كثيرة... أضف إلى ذلك ما حدث ويحدث في سيناء وعلاقته بتصريحات البلطجي التي تدل على وقوف الإخوان وراء هذه الأحداث ...الخ أ.2 الإسراع بتفكيك مؤسسات الدولة أو الاستيلاء عليها كما نسي الإخوان حلفاءَهم الديمقراطيين الذين صوتوا على الرئيس (فشرعوا في وضع قواعد اللعبة وحدهم)، نسوا أيضا، وبسرعة، أنهم قَبِلوا التوافقَ مع الجيش لتحقيق انتقال سلس للسلطة عَبْرَ مرحلة انتقالية، (كما نَسُوا أن الدولة مهيكلة بطريقة معقدة عبر عقود نسجت خلالها مصالح لا يمكن التخلي عنها بين عشية وضحاها?. نسوا كل ذلك واستسلموا لمبدأ «التمكين» أولا، فشرعوا في تفكيك أعمدة الدولة، ودخلوا من أجل ذلك في صراعات شغلتهم عن تحقيق الحاجيات اليومية للناس، خاصة وقد كانت الانتظارات من الثورة فوق الامكانيات. فكان أن انطبق عليهم فَكَّا الكماشة: فك المؤسسات التي حاولوا تفكيكها (وهي القضاء، والأزهر، والثقافة)، وفَكُّ المشاكل اليومية للمواطنين، من كهرباء وبنزين وخبز وتموين...الخ. وفي هذه الحالة من الشلل انهالتْ عليهم ضربات كل المتضررين من الثورة، من جهة، والمتضررين من عجرفتهم وعدم وفائهم من جهة أخرى: ضربات «الفلول» وغير الفلول وضربات الثوار وأشباه الثوار... والذي جرأهم على المؤسسات الثلاث المذكورة، (وعلى مؤسسة الإعلام والداخلية أيضا)، هو مرور العملية الترقيعية والتزيينية التي مارسوها على مستوى التغيير في قيادة الجيش والداخلية بسلام (حين عزلوا المشير طنطاوي ورمموا جهاز الشرطة)، مع خُطَبِ تَطْيِيبِ الخواطر، وهم لا يعلمون أن الجيش والشعب أشبه بالجمل، يَحْني الرأس مؤقتا، ولكنه لا ينسى ثأره. والواقع أن الغنوشي كان أرزن منهم حين قال للسلفيين المتسرعين أنه لا يثق في الجيش والشرطة. يقول المغاربة: «اللِّي يَحْسَبْ وَحْدُو يْشِيطْ لُو»! (من يعُدَّ مفردا يجد أكثر من العدد الحقيقي). يا لها من حكمة عميقة، إنها وجهٌ آخرُ لقولة سارتر: «الجحيم هم الآخرون». المشكل في السياسة ليس هو معرفة الصواب، بل هو أيضا معرفة كيف نقنع به الآخرين، وكيف نستطيع أن نقترب منهم، ونصبر عليهم حتى يقتنعوا به أو بجزء منه، هذه هي السياسة! ولكن من يدخلها بالمطلقات الدينية، بالكفر والإيمان، والطهر والنجاسة، سيَتعَبُ، وسيتعبُ أكثرَ مِنه مَن «يستبضعُ ثمرا إلى هجر»، من يسعى إلى تسويق الدين في مجتمع شديد التدين مثل المجتمع المصري. ثبت أن الإخوان بتنكرهم للديمقراطيين ليس لديهم ما يقدمونه للمصريين مسلمين ومسيحيين غير الفرقة وشق المجتمع إلى إخوان وغير إخوان. لقد كان تجرؤ الإخوان على هذه المؤسسات الركائز هديةً ثمينة لخصومهم الميدانيين، كان هدية للديمقراطيين من جبهة الإنقاذ التي أعادت تنظيم صفوفها سائرة وراء الشباب الحداثي الثائر، هذا الشباب الذي عبر عن كرهه الشديد لهرمية النظام الإخواني الذي لم يعد يصلح حسب تعبيرهم إلا حظيرة للخراف4! وهدية للبعض ممن يسمونهم الفلول الذين أصبحوا بقدرة قادر وطنيين غيورين على ثوابت الأمة وتاريخها...الخ. ولا أحد يجهل أن النظام المطاح به كان يضم جيشا من الوطنيين الفضلاء المخلصين الذين وضعهم الإخوان خطأ في سلة واحدة مع من يسمونهم الفلول، ومن حق هؤلاء ألا يحزنوا لما أصاب الإخوان. ب أخطاء الإخوان في طاحونة الإعلام في الوقت الذي كان الإخوان يظنون أنهم يعزلون تلك المؤسسات العتيدة دارت طاحونة الإعلام راسمة خريطة جديدة تجعلهم هم خارج تلك المؤسسات التي يقيم داخلها الشعب المصري مرتاحا: خارج قضاء عتيد مديد منساب كالنيل، وخارج أزهرٍ عالي الأسوار كالأهرام، وخارج ثقافة وفن فسيحين كالهواء الذي يتنفسه المصريون. ولأن الإخوان لم يفهموا ما جرى (لانطوائهم على أنفسهم وتنظيمهم العالمي الذي يغذيهم بالأوهام) فقد استغربوا كيف رفض المواطنون في الأقصر، وليس في القاهرة، تعيين محافظ مشبوه، وحاصروه وطردوه. هذه هي اللحظة الثمينة التي كان ينتظرها رجال العهد القديم وأنا لا أستطيع أن أستعير لا عقل القرضاوي ولا قلب أحمد منصور لأطلق عليهم جميعا كلمة فلول، ولا أخون أحدا (من الإخوان ولا من خصومهم) إلا بحكم قضاء نزيه يقدم كل الضمانات، عاديا كان أم انتقاليا سيقع اللقاء بين الشباب المتمرد ورجال الدين المنكوبين والمثقفين المستخف بهم...الخ، سيلتقي الجميع في فضاءات وفضائيات رجال الأعمال والأثرياء على cbc و ontv وdream و التحرير وغيرها. على هذه الفضائيات سمعنا رجال القضاء من جميع المستويات يتحدثون بدون تحفظ، يحكون قصة صمود قاومت ثلاثة رؤساء ومستعدة لمقاومة الرابع. وسمعنا أصوات شيوخ الأزهر يحكون عن صور الاختراق التي استَهدفت وَسَطيةَ الازهر وانفتاحه على كل المذاهب. يحكون عن تدين بدوي مستورد يجعل الدين حكرا على فئة من المجتمع، ووسيلة للتفرقة. وكيف تحولت المساجد في مصر إلى منابر حزبية، متقاسمة بين الإخوان والسلفيين والجماعة الإسلامية وغيرها، لكل طائفة مسجدها.. وسمعنا الشباب الديمقراطي وزعماء الإنقاذ، وعشرات بل مئات الخبراء في كل المجالات، الكل متشائم من أخونة الدولة.. ودارت الأيام فسمعنا أصوات الفلاحين الذين قطعوا قصبهم وراكموه على جنبات الطريق، يرونه يذبل وتتردى جودته، وتنخفض حلاوته، لا يجدون من يحمله عنهم... وسمعنا أصحاب النقل الذين يقضون جل أوقاتهم في صفوف أمام محطات السولار... مصر تتوجع، والإعلام يقول إن الحكومة غير مهتمة: أذن من طين وأخرى من عجين، كما يقول المصريون..الخ، تبخرت الجهود وضاعت العهود! في هذه الفضائيات بدأ عمل احترافي في مجال الماركوتين والتسويق، بدأت عملية كَسْفِ صورة الرئيس، ثم تشويهها بتحويله إلى موضوع للتندر والفرجة مقترنا بصور وأقوال جوقة من المُطبِّلين من الصحافيين والدعاة الفاشلين الذين نَسُوا الموقعَ الذي يتحدثون منه، والمقام الذي يوجدون فيه، وهو الدين والرئاسة، فنزلوا إلى مستوى المهاترات السوقية والصَّعْلَكة المجانية. وهذا ما نلوم عليه بعض المسؤولين المغاربة، خاصة رئيس الحكومة، الذين يُستدرَجون إلى المهاترات ناسين المواقع التي يتحدثون منها. عملٌ إعلام احترافي خطير، لم تنفع الفضائيات الدينية الكثير التي دعَّمت الإخوان في صده، أو التقليل من تأثيره، بل صارت تغذيه بالحَطب الجاف المشار إليه... في هذا السياق جاءت المقارنة بين صورة مرسي وصورة مبارك باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. لتتجه الأنظار، بعد ذلك، إلى الصورة البديل التي تضعها الذاكرة المصرية غير الإخوانية بأفراحها وجراحها، في باقة «أعلام ومعالم مصر»، صورة جمال عبد الناصر، وتعود صورة عبد الناصر إلى التظاهرات وتتدفق خطبه في اليوتيوب، ومنها خطبٌ يسخَر فيها من الإخوان ويتحدث عن غدرهم وكيدهم له ولمصر متآمرين مع الخارج. صورة دعمتها شهادات المنشقين من قيادتهم، خاصة شهادة ثروة الخرباوي صاحب كتاب: سر المعبد، وهو كتاب شديد الأهمية. موجود على الأنتيرنيت. حرب إعلامية احترافية استطاعت أن تزيح قناة الجزيرة عن موقع الهيمنة الذي كانت تحتله، وقد تحدث عنها الرئيس مرسي بمرارة في خطابه المطول، ما قبل الأخير، وذكر أصحابها بأسمائهم. ج النزول من الفضائيات إلى الشارع في هذا الجو، ونظرا لعجز العمل الحزبي الكلاسيكي عن تأطير اللحظة واستثمارها، ابتدع الشباب مرة أخرى طريقا للتواصل مع أفراد الشعب كل على حدة، ليس عن طريق الفايسبوك، كما وقع في 2011، ولكن في الشارع هذه المرة. أدهشتني الفكرة في أول الأمر، وعلمت فيما بعد أن الشباب استلهموا عملية مماثلة استعملتْ في دعم الزعيم الوطني سعد زغلول ضد الاحتلال سنة 1919. بدأت العملية كالحلم، ثم تنامت الأرقام: مليون، مليونان، خمسة ملايين، 13مليونا، لا أحد كان يصدق، كان الهدف محصورا في تجاوز الرقم الذي نجح به الرئيس المعزول، في سقف 15مليون... أخذ الرقم طريق الصعود بلا توقف، وعندما أعلن الشباب ليلة 29 يونيو أن الرقم وصل 22 مليون تحرك الإخوان في شكل مزايدة رقمية، فأعلنوا أنهم جمعوا بدورهم 26 مليون توقيع «مع الرئيس»، حققوا هذا الرقم في ظرف وجيز دون أن يَظهروا في الشارع كما ظهر الآخرون. المهم رقم برقم. وكانوا قد سبقوا حشد 30 يونيو بحشد مُؤيِّد يوم 22 منه، ولسان حالهم يقول: «حشدنا قبل أن تحشدوا، وعددنا فتفوقنا عليكم عددا، الأمور مجرد أرقام»، هكذا يفكر القرضاوي غير عابئ بالمحتويات، ويفتي فيصدقون فتواه. لم يفلح هذان الإجراءان، ولم تفلح فتوى الشيوخ بتحريم الخروج على الحاكم المنتخب المبايع فكان ما كان يوم 30 يونيو. وذهل الجميع إلا الإخوان الذين تحدث بعضهم عن عشرات الآلاف، يقال أن الرئيس مرسي قدر عدد المتظاهرين ضده ب 160 ألف. ارتفعت الأرقام وبلغ التقاطب أقصى درجاته، ورفض زير الداخلية أن يتعهد بحماية مقرات الأحزاب، ومنها مقرات الإخوان. أفلت الزمام وهوجمت المقرات، مَن هاجمها؟ لا أحد أعلن مسؤوليته. انتهت فترة السماح الأولى والثانية والجيش يتوعد والرئيس يتشبث... وعندما تَململَ كانت ساعة الصفر قد حلت... د المائدة أو الجمل يقول المغاربة «إلى طاح الجمل تيكثروا الجناوا»: عندما يسقط الجمل أرضا تكثر السكاكين. المهم نضجت الثمرة، أو أُنضِجت قسْرا، وحان قطافها، فمن سيقطفها، وأين سيضعها؟ الرئيس متمسك بِ»الشرعية»، يمررها على لسانه كحبات السبحة. والإخوان يستعرضون قوتهم وجاهزيتهم لجميع الاحتمالات في رابعة العدوية. زعزع الجيش الشجرة فسقطت الثمرة فوق «مائدة» حولها مدعوون كثيرون. تفرق دم الإخوان بين كثيرين، منهم قيادة حزب النور السلفي الذي كان أتباعه يفقدون أصواتهم في رابعة العدوية... أطراف عدة رحبت، وأطراف عدة تحفظت، والإخوان وحدهم استنكروا، سيلتحق بهم أردوكان بعد فوات الأوان. رحب القضاة ورحب المثقفون، ورحب الأزهر والكنيسة، وطار أصحاب الفضائيات فرحا، وبكى الصحافيون، وسعدت دول الخليج ما عدا قطر. تحفظ الأمريكيون وبعض أتباعهم وصمت البعض، وتحفظ بعض الأفارقة وصمت البعض، وخنق صوت الشيوخ في ظلام شاشات فضائياتهم. الحقيقة أني كنت أود أن أسمع أصواتهم، ولو على أمواج فضائيات أخرى، ولكنهم فضلوا الصمت. بعضهم لم يترك فيها باب الله، مثل أستاذ البلاغة المساعد بالأزهر محمود شعبان الذي كفَّر جبهةَ الإنقاذ باللفظ الصريح الذي لا لبس فيه ولا تأويل له منزِّلا حكمه بالتعيين على محمد البرادعي وحمدين صباحين دون أن تحرك النيابة العامة المعيَّنة ساكنا5. كثيرا ما يُقدم احتفالُ دول الخليج بالحدث على أنه دليل على مؤامرة محبوكة من الخارج، وهذا تسطيح وتجزيئ لحدث معقد. لدول الخليج حساباتها، كما أن للمستفيدين من النظام القديم حساباتهم، ولتركيا وقطر والنظام العالمي للإخوان حساباتهم، ولأمريكا وحلفاؤها حساباتهم. وللجيش وأجهزة الداخلية والمخابرات حساباتهم. وكل هؤلاء جيران وضيوف، خفاف أو ثقلاء، على أهل الدار وأصحاب القضية. حسابات هؤلاء جميعا ليست هي حسابات الديمقراطيين ومفجري الثورة الشعبية: «تمرد» و 25 يناير، وكفاية، والناصريين...الخ، وغيرهم ممن يسميهم الإخوان علمانيين. ولذلك فمسار الثورة مرهون، أولا، بالقدرة على الإفلات من ضغوط القوى المجاورة التي تحتفل مع الثوار بإزاحة الإخوان ولكنها ليست مستعدة لقبول نظام ديمقراطي بمعنى الكلمة: إما لأنه يحرمها من امتيازات مستحقة، وإما خوفا من العدوى. هي جميعا أميل إلى نظام هجين يقتسم الكعكة مثل الذي كان. ومرهون، ثانيا، بطريقة تعاملهم مع القوى الإمبريالية التي رأت في حكم الإخوان علاجا لداء القاعدة، وأداةَ ضغط مستمر على الدول البترولية. ليس الديمقراطيون من السذاجة بحيث يظنون أن هذه الأطراف جميعا تحطب في حبلهم. موقف دول الخليج طبيعي ومبرر، فهي لم تنته من إطفاء شرارة شبت في ذيول أحد أفرادها موجهة أصابع الاتهام إلى إيراد حتى رأت الرئيس مرسي يمد يده من ورائها ويطير إلى طهران ليطبِّع مع عدوهم الاستراتيجي. هذه لعبة خطيرة حين نأخذ بعين الاعتبار علاقة إخوان مصر بحماس، وعلاقة إيران بحزب الله، والوضع في اليمن، فضلا عن حالة العراق. لقد لعب الرئيس بالنار! إن هذا التضييق غير الحكيم هو الذي جعل دول الخليج تمد يدها نحو الأردن والمغرب مقترحة صيغة بدت للجميع أكثر مما يمكن. السؤال: انقلاب أم ثورة؟ لا عيب أن تقول لي الآن: كفى من التجوال في جوانب الموضوع، هل هي ثورة أم انقلاب عسكري؟ وجوابي إليك هو: 1) نظرا للزخم الشعبي الرافض الذي عبر عن نفسه يوم 30 يونيو، 2) ونظرا لأن الإخوان مالوا إلى العنف بكل المظاهر التي تحدثنا عنها، وأعدوا له العدة والعتاد، 3) ونظرا لأن الرئيس لم ينزع الفتيل، كما كان سيفعله أي رئيس ديمقراطي في العالم، ضاربا عرض الحائط بالإنذار الأول والثاني نظرا لكل ذلك، فإن الجيش قام (حين عزل مرسي ووضع الأمر بين يدي رئيس المحكمة العليا)، بما كان سيقوم به مرغما بعدَ فوات الأوان، بعد اصطدامِ الطَّرفين، وبعد أن تسيل أنهار من الدماء. هل هناك مصير آخر أحسن من هذا؟ الله أعلم. الكرة الآن في ملعب الإخوان مرة أخرى، هم الذين سيحددون مصيرهم: هل سيقبلون أن يكونوا جزءا من الشعب المصري، يحاور بصدق، ويعد بوفاء، أم سيصرون على شق المجتمع إلى ملائكة وشياطين؟ 1 هذا رابطه http://medelomari.perso.sfr.fr/EgyptRevolutin.htm 2 حتى منسق دور القرآن (.. القباج) الذي ادعى منذ أيام أنه لا شأن له ولجمعياته بالسياسة نصب نفسه خصما للأحزاب السياسية المغربية في موقفها من الحدث منتقدا حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي ومنددا بالناشط الأمازيغي الأستاذ عصير، فما بالك بمن دونه حيادا. (مقال على هيسبريس 23/07/2013). 3 من قبيل ادعاء أحدهم «رؤية» مرسي يصلي بالرسول، وادعاء آخر رؤية جبريل يصلي مع المعتصمين في مسجد ربيعة العدوية...الخ. 4 كان الاصطدام بين مجموعة من النشطاء والصحفيين والفنانين وبين الإخوان أمام المركز العام للإخوان بالمقطم نتيجة لرسم صور الخراف/الخرفان أمام المقر. كانت العملية استفزازية، لا غبار عليها، وكانت شركا سقط فيه الإخوان حين خرجوا يضربون الشبان ويصفعون النساء باحتقار أمام الكاميرات! لقد قدموا للمحتجين هدية لم يكونوا يتوقعونها. كان العادي أن يلجأوا إلى الشرطة والقضاء. 5 علق البرادعي على هذه الفتوى في موقعه على التويتر: «عندما يفتي «شيوخ» بوجوب القتل باسم الدين دون أن يتم القبض عليهم فقل على النظام ودولته السلام. كم من جرائم ترتكب في حق الإسلام وباسمه!». انظر مناظرة الفقيه الأزهري سعد الهلالي لمحمود شعبان على اليوتيوب. وقد بين تهافته وجهله وتطرفه. وتركه فاغرا متمسكا بالقشور.