لماذا أكتب؟ أكتب كما قال شولزر ونزار قباني: كي أفجر الأشياء، فالكتابة انفجار، كي ينتصر الضوء على العتمة فالكتابة انتصار، حتى أنقذ العالم من أضرار هولاكو، ومن حكم الميليشيات، ومن جنون قائد العصابة، حتى أنقذ الكلمة من محاكم التفتيش، من شمشمة الكلاب، من مشانق الرقابة. أكتب كما قال الأديب التركي »أورهان باموك« أحد أشهر من فازوا بجائزة نوبل في الآداب: أكتب لأنني لا أستطيع أن اتحمل الحقيقة وحدي، ولأنني عزمت على مقاومة هذه الحقيقة. غامت الدنيا أمام نظري وأنا أرى النتيجة الحقيقية، كنت حاصلا على أعلى الأصوات، ولم يكن أحد الذين أعلن الإخوان نجاحهم ناجحا، ورغم ذلك تبدلت النتيجة، ما أقسى أن يكون الواعظ لصا، وأن يكون الكذاب داعية، كان التزوير الذي اكتشفه عاطف عواد مذهلا لي، كنا نجلس في السيارة أسفل مكتب جمال تاج الدين إلا أنني شعرت وكأنني انفصلت عن الدنيا وما فيها وجلست فوق سحابة من الأفكار، لا أشعر بمن يجلس بجواري، ولا أسمع ما يقول. تزاحمت الأفكار في رأسي وعادت ذاكرتي إلى الوراء خطوة، تذكرت واقعة فجة حدثت قبل أن تجري عملية الانتخابات الداخلية التي اكتشف عاطف عواد تزويرها، كنت قد اصطحبت صديقا لي يدعى »عبد الهادي الأنصاري« إلى النقابة العامة للمحامين قبل شهرين، وحين صعدنا إلى الدور العلوي للنقابة وجدت اشتباكا لفظيا قائما بين مختار نوح وأحد المحامين من الإخوان المسلمين، كان هذا المحامي مسؤولا عن منطقة من مناطق القاهرة، وكان من المقربين من الحاج مصطفى مشهور، كانت العصبية والخشونة تحيط بكلمات هذا الأخ. الأخ المنفعل: شف يا مختار) اعتبر أنني خارج أي تصويت داخل الجماعة، سأكون في قائمة المرشحين لفرعية القاهرة سواء انتخبني قسم المحامين أم لم ينتخبني. مختار: يا أخي، الذي سيحكمنا هو اللائحة، أهلا بك في القائمة إذا انتخبك القسم، أما إذا لم ينتخبك فلا وجود لك (المسألة مش عافية). الأخ المنفعل: (المسألة عافية) وأنا قادر على إيقاف أي تصويت يستبعدني، (بالبلدية أنا فيها اوأخفيها). ربت على كتف عبد الهادي الأنصاري وأخذته بعيدا عن المعركة الكلامية، فسألني: إيه الحكاية؟! ما سبب هذه المشاداة؟ قلت بامتعاض: المسألة كما ترى، أنت تعرف هذا الأخ حق المعرفة، هو يريد أن يكون مرشحا للإخوان في انتخابات نقابة القاهرة الفرعية. الأنصاري: وما المشكلة في ذلك؟ أنا: المشكلة أن هناك لائحة داخلية تحكمنا، واللائحة توجب أن تتم انتخابات داخلية أولا نختار فيها من سيكون مرشحا عن الإخوان، وهذا الأخ يريد أن نتجاوز بخصوصه اللائحة يريد أن يكون أعلى من أي اختيارات داخلية، يريد أن يكون مرشحا سواء صوتنا لم أو لم نصوت. تلاشت صورة عبد الهادي الأنصاري من خيالي حين هز عاطف عواد كتفي قائلا: أنت فين؟ بكلمك وأنت ولا كأنك هنا). قلت له وأنا أضع على وجهي ابتسامة ساخرة: كنت في دنيا أخرى، ماذا كنت تقول؟ عاطف: كنت أقول إن هذه ليست أول مرة في التزوير، وما خفي كان أعظم. أنا: تقصد أحمد سيف الإسلام حسن البنا؟ عاطف: هو بعينه. أنا: ولكن واقعة سيف الإسلام لا تعتبر تزويرا. أنا أضعها في خانة خوض الانتخابات بالإكراه رغم أنف الجميع. عاطف: التزوير له صور متعددة ياصديقي، سيف الإسلام خاض انتخابات نقابة المحامين دون إرادة محامي الاخوان في التصويت الداخلي. لم يحصل إلا على صوته هو فقط، صوت واحد! رسب رسوبا كبيرا! ولعلك تذكر أن أحدا أن لم يكن يريده، بل كنا نجهل أنه يعمل بالمحاماة أصلا. أنا: بل يمارس المحاماة حقيقة، نعم هو مقيد في جدول المحامين ولكنه لم يعمل بالمحاماة. عاطف عواد: ومع ذلك فرضه الحاج مصطفى مشهور علينا بالإكراه مع سبق الإصرار والترصد. قلت ساخرا: نعم قال لنا رأيكم لا قيمة له، ولوائحكم تلزمكم ولاتلزم الجماعة، وسيف الإسلام هو ابن حسن البنا وسيكون مرشحا في النقابة العامة وافقتم أو رفضتم. عاطف عواد: هل تذكر كيف اعترضنا عليه؟ وكيف غضبنا على إلغاء ارادتنا، حتى أنني ومعي خالد بدوي كنا في قمة الثورة من فرضه بالقوة. أنا: يا عم عاطف، ثوروا، انفعلوا، لكن الرأي لم يكن رأينا والقرار لم يكن قرارنا. عاطف: نعم صدقت، فها هو يجلس في نقابة المحامين، يرتكب فيها جرائم سياسية، ويبرم اتفاقات سرية مع خصوم الاخوان ويستخدم موقعه كأمين عام للنقابة في تعويق كل المشاريع التي نقدمها لخدمة المحامين! أنا: لعنة الله على الانتخابات وتبعاتها، إنهم يقودون الجماعة بعيدا عن دورها الحقيقي في الدعوة والله يا عاطف إن النفس تمج هذه الألاعيب التي لا تتناسب مع وقار الجماعة. عاطف عواد: أنا لن أسكت، سأقلبها على رؤوسهم ليسوا الاخوان المسلمين، ولكنهم »»الإخوان المزورون»«. أنا: إبعدني يا عاطف عما ستفعل، أنا أصلا لم يرد في بال أن أكون مرشحا، تعرف أنني أحب إرادة الانتخابات لا خوضها. بعد أيام من هذه الواقعة، كانت الدنيا قد تغيرت قليلا، فأثناء سفر مختار نوح ومعه مجموعة من قسم المحامين إلى الإسكندرية في القطاع، ثار عاطف عواد على مختار، وتحدث عن التزوير الذي حدث، وحينما عادوا من الاسكندرية اجتمعوا ولم أكن معهم، وحلا منهم للمشكلة التي حدثت والتزوير الذي افتُضح أمره، قرروا تعديل النتيجة وإعلان سقوط »الأخ التابع للحاج مصطفى مشهور« ونجاحي بدلا منه. وفي اليوم التالي لهذا القرار مباشرة صدر قرار من مكتب الإرشاد بزيادة عدد المرشحين للنقابة الفرعية بالقاهرة إلى ستة أفراد بدلا من خمسة، على أن يكون الأخ الساقط »التابع للحاج مصطفى مشهور« من ضمن أفراد قائمة المرشَّحين!! لم أفهم إصرار مكتب الإرشاد على هذا الأخ رغم قلة إمكانياته، ووقع في ذهني أن الولاء عندهم مقدم على الكفاءة، وفيما بعد، عرفت أن عام 1993 هو العام الذي شهد عودة »النظام الخاص« للجماعة. تبّاً لهذا النظام الخاص وأيامه، ليتك لم تنشئه يا بنّاء أسسته عام 1939 بعيداً عن أعين الجماعة المدنية وجعلته سرياً ووضعت على قيادته رجالا لا يفقهون فوضعوا السيف في موضع الندى، قتلوا وفجَّروا واغتالوا، كله باسم الإسلام، حتى إنهم قتلوا أحد أفراد الجماعة دون أن يكون لديهم ذرة من دين أو خلق، قتلوا سيد فايز وابنته، إذا فُرض وكان سيد فايز أجرم في حقهم جدلا، وإذا فُرض وكان جرمه يوجب قتله، فما ذنب تلك الطفلة الصغيرة التي غلَّفوا لها الموت ووضعوه في علبة حلوى وأعطوها الهدية المفخخة، وما إن فتح فايز الهدية حتى انفجرت فيه وفي ابنته فماتا وهما يشتكيان تلك القلوب الفاجرة، ولكن هل فعل النظام الخاص شيئاً غريباً عليه عندما اغتال تلك الطفلة؟ لقد كان يعبر عن نفسه، الموت المغلَّف داخل علبة حلوى، مظهر العلبة من الخارج جميل ومبهرة، سيحب الشعب هذه الهدية، سيقولون: إنها »فاقعٌ لونها تسر الناظرين«، سيأخذون الهدية في أحضانهم ولكنهم لا يدرون أنهم يحتضنون الموت، هدية النظام الخاص لمصر مثل العلبة القاتلة، هدية مغلَّفة بالدين وآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الموت يسكن داخلها. كلنا يظن أن أيام النظام الخاص ولَّتْ ولن تعود ثانية، سنتذكر ندم الإمام الشهيد حسن البنا على إنشاء النظام الخاص، سنسمع ذكريات الأستاذ فريد عبد الخالق وهو يحكي لنا أن حسن البنا قال له وهما يتمشَّيان ليلا على كوبري قصر النيل بعد اغتيال النقراشي: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما أنشأت النظام الخاص، ذلك النظام الذي مازال معظم الإخوان يجهلون وجوده وتحكُّمَه في مصير الجماعة حتى الآن، نعم توقَّف بضع سنوات، ولكن بعد وفاة الأستاذ عمر التلمساني، بدأت جيوش النظام الخاص تعود إلى سيرتها الأولى، ألم أقل: إن إبراهيم سعدة كان محقاً عندما قال: إن عمر التلمساني كان صمَّام أمان جماعة وشعب ووطن! ومن أجل عيون الحاج مصطفى مشهور ورجاله من أفراد النظام الخاص يتم تزوير الانتخابات الداخلية في الإخوان، فقد كان هذا الأخ التابع للحاج مصطفى مشهور أحد أفراد النظام الخاص الجديد، في ثوبه المخيف، ثوب الأخطبوط. 1993 يعلن عن نفسه، يقول: أنا عام ما بعد الزلزال، أنا عام توابع الزلزال، أنا العام الذي سيتسرب منه بصيص ضوء خافت، ولكن من سيصل إليه هذا البصيص لن ينتبه له، سيظن أنه لاشيء، ولكن بعد سنوات سيدرك أن جزءاً من السر الغامض كان تحت يديه، الآن بعد هذه السنوات أراني كيوشع بن نون فتى موسى عليه السلام، لم يدرك الحقيقة إلا بعد أن تجاوز مكان »» كشف الحقيقة««، خرج سيدنا موسى مع الفتى «»يوشع»« قاصدين مجمع البحرين في رحلة بحثهما عن العبد الصالح رجل الحقيقة، يحملان سمكة في سلة، انطلقا بحثا عن هذا الرجل، واتجها إلى المكان المحدد حتى إذا وصلا إليه وجدا صخرة كبيرة مستوية، وكانا قد أحسَّا بالتعب، فوضعا رأسيهما، وغرقا في نوم عميق. وهناك انسل الحوت (السَّمكة) من السلة، واتخذ سبيله في البحر سربا.. حدث هذا الأمر المعجزة وهما نائمان، فكان أمراً عجباً إذ كانت السمكة مشوية، ثم انطلقا بعد ذلك سائرين بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح الصبَّاح، وأسفر وجه النهار، قال موسى عليه السلام لفتاه: «»آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا». نظر فتاه في السلة فلم يجد الحوت» فقال له: («أرأيت إذ آوينا الى الصخرة فإني نسيت الحوت) قال له موسى عليه السلام: فذلك ما كنا نبغيه إذ إننا سنلتقي الرجل الذي وُعدنا به في المكان الذي نفقد فيه الحوت، سنلتقي بالحقيقة... وشتَّان بين العبد الصالح رجل الحقيقة، والعبد الإخواني رجل الأسرار، وما كان في ظني وقتها أبداً أن يكون الدكتور محمود عزت عضو مكتب الإرشاد هو المؤتمن على خزينة أسرار الإخوان الباطنية، ولكنه كان هو. كانت مصر تعيش شهور ما بعد الزلزال، ويبدو أن الزلزال ترك بصمته على كل شيء في مصر، عندما توالت الخلافات في النقابة العامة للمحامين بين أحمد سيف الإسلام حسن البنا ومختار نوح حتى وصلت الأمور إلى حد لا يطاق، قررت أن أفعل شيئاً، اتفقت مع عاطف عواد على زيارة الدكتور محمود عزت عضو مكتب الإرشاد كي يساعدنا بما له من حظوة في الجماعة على وضع حد للخلافات التي كادت أن توقف العمل في نقابة المحامين، وفي معمل التحاليل الطبية الذي يمتلكه محمود عزت في »عمارة «الميريلاند»« بمصر الجديدة جلسنا نتحدث، وبعد أن سردنا له طرفاً من المشاكل والمعوقات التي تسبَّب فيها أحمد سيف الإسلام حسن البنا في أنشطة الإخوان المسلمين بالنقابة، طلب منا الرجل أن نخرج معاً لنتحدث بحرية خارج معمله، في الطريق العام!! ونزلنا بالفعل من مقر معمله إلى حديقة «الميريلاند»، وأخذنا نتجول حولها ونحن نتحدث. قال محمود عزت بعد فترة صمت صاحبته مُذ خرجنا من معمله: كلنا طبعاً يعلم طبيعة شخصية سيف الإسلام، ونعرف أنه سيثير المشاكل، ولكن سيف لن يبقى في النقابة كثيراً، نحن أردنا من نزوله في الانتخابات استثمار شعبيته ليس إلا، والده حسن البنا صنع لنفسه شعبية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فاقت شعبية جمال عبد الناصر وغاندي، لا يوجد أحد في العالم إلا وهو يعرف من هو حسن البنا، ولعلك يا أخ ثروت قرأتَ مذكرات الشهيد سيد قطب رحمه الله، تلك المذكرات التي قال فيها: إنه حينما كان في أمريكا وعرف بخبر مقتل حسن البنا وجد أن كل من كانوا في المستشفى التي دخلها للاستشفاء من مرض صدره أبدوا سعادتهم لمقتله.