في سجون عبد الناصر كان هناك شاب صغيرا، ابيض الوجه اسود الشعر له نظرة عميقة متفرسة، ووجه غاضب جاد، تعود هذا الشاب على ان يفرق شعر رأسه من المنتصف اقتداء منه برسول الله (ص) كان هذا الشاب الصغير قد سيق به الى السجن في قضية تنظيم سيد قطب عام 1965، اذ كان من المحبين له والمتلقين منه، دخل هذا الشاب الى جماعة الاخوان وهو في بلده اسيوط، فقد كان دائم التردد على احدى المكتبات العامة، واثناء تردده عليها ليقرأ الكتب التي تشبع نهمه تعرف على أمين المكتبة ويدعى محمد منيب، وتصادف ان كان محمد منيب هذا من شباب الاخوان فاخذ يدعوه برفق الى فكر جماعة الاخوان الى أن افلح في تجنيده وادخاله التنظيم الذي كان قد تعرض لضربات امنية من النظام الناصري، كانت حياة هذا الشاب الوافد حديثا على الاخوان شديدة القسوة عانى فيها من شظف العيش وقسوة الوالد الذي كان قد طلق زوجته ام الشاب فعاش في كنف زوجة الاب ولم يلق الا كل اهمال وتوبيخ وضرب وركل ان صدرت منه هفوة، فهرب هذا الشاب من ضيق الحياة وعنتها مع والده في أسيوط وجاء الى القاهرة كاسف البال مهدود الوجدان، يحمل «بقجة» ملابسه وبعض كراسات دون فيها افكاره واشعاره، وكان من التصاريف أن كانت الفترة التي جاء فيها للقاهرة هي تلك الفترة التي أعقبت الإفراج عن سيد قطب من سجنه قبل منتصف الستينيات، فأتيحت له الفرصة أن يتردد بضع مرات على الرجل الذي اعتبره قبلته، بل قبلة الإسلام كلها، كان زوار سيد قطب في فيلته بضاحية حلوان في هذه الآونة يجدون هذا الشاب جالساً تحت قدم سيد قطب مثل طلبة العلم في القرون الأولى، يحمل ورقة وقلماً، يدون فيها كل شاردة وواردة من أقوال قطب ولُفتاته. وفي شقة صغيرة بمنطقة زراعية في عزبة النخل، استقر المقام بصاحبنا »طالب الدين«، وكان قد تعرَّف على الشيخ الأزهري علي اسماعيل شقيق الشيخ عبد الفتاح اسماعيل (وقد أعدم هذا الأخير مع سيد قطب)، ومن خلال علي اسماعيل وغيره من الإخوان تعرَّف صاحبنا طالب الدين على شابين من الشباب الذين أقبلوا مؤخراً على »مدرسة سيد قطب الفكرية« ولم يكن عودهما قد استقام بعد، فكان صاحبنا طالب الدين يجلس مع رفيقيه القطبيَّين يشرح لهما كتاب »معالم في الطريق« ويفتح لهما المغاليق التي وقفت أمامهما من فكر أبو الأعلى المودودي، كانت فكرة المعصية هي التي تستحوذ على تفكير هذا الشاب، المعصية هي التي أخرجت آدم من الجنة، أيترتب على المعصية خروج المسلم من الدين؟ لماذا قال الله سبحانه وتعالى في سورة النساء (ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده، يُدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مُهينٌ) هذا هو قول الله، يترتب على المعصية الخلود في النار، ولا يخلد في النار إلا الكافرون، إذن المعصية تُخرج المسلم من الإسلام، ولكن هل من نطلق عليهم (المسلمون) هم فعلا يؤمنون بالإسلام؟ إذا كانوا كذلك، فلماذا يتحاكمون الى الطاغوت ولا يتحاكمون لله رب العالمين؟ ألا يعرفون قوله: (إن الحكم إلا لله) كانت هذه هي الأفكار التي يعيش بها وفيها صاحبنا، وكانت هذه هي الأسئلة التي ظل يبحث عن إجاباتها عند سيد قطب، ثم أخذ يبثُّها على مهل لصاحبيه ولآخرين من شباب الإخوان، ومع ذلك، فإن فكر سيد قطب وحده لم يشف غليلَ صاحبنا فأخذ يتردد على الكاتب محمد قطب شقيق سيد قطب، ومن خلاله استوت الأفكار واتضحت الرؤية، مرتكب الكبيرة الذي لم يتُب كافر وسيكون مخلَّداً في النار، ولكن ما حال القرون الأولى التي جاءت بعد فترة الخلافة؟ وما مصير تلك الأمم التي ضلت السبيل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لاشك أن من خطل الرأي أن نعتبرهم مسلمين، فالإسلام ليس كلمة تقال، ولكنه قول اللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، والعمل لا يجب أن تكون فيه معصية وإلا لكانت هذه المعصية قد هدمت »تصديق الجنان«. ظلت هذه الأسئلة تلح على صاحبنا وتقض مضجعه، ومن أجلها استطاع التسلل الى فيلا سيد قطب عدة مرات يسأله ويأخذ منه. وفي هذا الجو المشحون بالريبة والترقب، وثق سيد قطب في هذا الشاب. وفي ذات الوقت، نشأت صلة طيبة بين »طالب العلم هذا« والحاجة زينب الغزالي التي كانت تُلقَّب ب »»سفيرة سيد قطب»« وحين تم كشف تنظيم قطب سنة 1965م الذي كان يستهدف اغتيال جمال عبد الناصر، باعتباره رأس الجاهلية في القرن العشرين وفقا لفقه سيد قطب، بدأت عمليات القبض على أفراد التنظيم، فكان أن فر هذا الشاب هارباً حيث اختبأ في ضاحية من ضواحي القاهرة عند بعض معارفه من الإخوان المسلمين، وفي هذه الفترة، كتب صاحبنا بعض أشعار عبَّر فيها عن مشاعره وهو بعيد عن أهله تتنازعه الأهواء، فتارة يحتويه شعور الغربة والضَّعف والهوان، وتارة أخرى يقبض الإيمان على قلبه فيشعر وكأنه يمتلك الدنيا وما فيها. ظل هذا الشاب مختبئا عند رفاق له من الإخوان حتى إذا ضُيِّق عليه الخناق، استقر به المقام في مسجد منعزل، حيث حلق لحيته وقص شعره وأقام في المسجد كمقيم للشعائر ومؤذن للصلاة، إلا أن أحدهم شك فيه فأبلغ عنه فتم القبض عليه وأودع السجن الحربي مع المجموعة التي تم القبض عليها، ثم انتقل بعد ذلك الى عدة سجون منها أبو زعبل وطرة، ولا أظن أن أحداً كان يعلم أن هذا الشاب سيغير تاريخ الحركة الإسلامية، وسيظل أثره ممتداً لأجيال وأجيال. *** هل هناك من صلة بين عام 1965 م وأعوام الرخاء الإخواني في الفترة من ثمانينيات القرن الماضي وحتى عام 1992 م؟ ثم هل هناك من رابطة أخوية بين عام 1965م وعام 1986م؟ كانت هناك شذرات صغيرة لا تدل بذاتها على شيء، فوجئت بها ولكنني لم أعرها اهتماما، قلت إن الأمور تؤخذ بقدرها، وكنت غافلا عن معانيها ودلالاتها، لم أكن أظن أن هناك أي علاقات نسب أو أخوة بين السنوات، هذه أيام الله، فما صلة هذا العام بذاك العام؟! ولكنني إذ وضعتُ يدي على أول الخيط، بدأت أسترجع تلك الشذرات لأضعها في سياقها الطبيعي، وإذا كان معظم النار من مستصغر الشرر، فإن معظم الأسرار يكشفها مستصغر الصدف، هكذا حدَّثنا التاريخ. في الثاني وعشرين من ماي 1986م توفي الأستاذ عمر التلمساني مرشد جماعة الإخوان المسلمين، كان عمر التلمساني صمام أمان لجماعة وشعب ووطن، هكذا قال عنه الصحفي الكبير ابراهيم سعدة يوم وفاته، ويقينا لم يكن إبراهيم سعدة يعلم الأمور المخفية في جماعة الإخوان، ولكنه مع ذلك، قال كلمة حقيقية، فقبل وفاة المرشد عمر التلمساني أخذت بعض الأشباح تتسلل الى جماعة الإخوان لتأخذ مكانا ومكانة، كانت هذه الأشباح تسير في ركاب الحاج مصطفى مشهور الذي كان قد عاد الى البلاد عام 1985م بعد رحلة هروب استمرت عدة سنوات، وكان أخطر من حط رحاله في مصر قبيل وفاة عمر التلمساني هم »محمد مرسي، خيرت الشاطر، محمود عزت، محمد بديع« كانت وجوه هؤلاء غريبة على مجتمع الإخوان، إلا أن الحاج مصطفى مشهور أعطاهم منديل الأمان فجعل من محمود عزت مسؤولا عن قسم أساتذة الجامعة بدلا من السيد عبد الستار المليجي، وتولى محمد بديع مسؤولية قطاع كبير من الصعيد، بدلا من الحاج حسن جودة رغم أنه من المحلَّة الكبرى، وأسند لخيرت الشاطر ملفات مهمة إلى أن ولاه مسؤولية القاهرة، وجعل من محمد مرسي أحد المسؤولين الكبار في الشرقية الى أن تولاها بدلا من الحاج سعد لاشين، وبهذا قفز عام 1965، برجاله الى عام 1986، ليستبدل أفراداً ورؤى وتوجَّهات، والحق أن عام 1965، لم يستول كلية على عام 1986 م فقد اتبع سياسة »خطوة خطوة«، ولكنه أصبح يحكم الإخوان بعد ذلك. أما سنة 1992 م فقد كانت من السنوات المؤثرة في تاريخ مصر، فهي سنة الزلزال، وهي عام نجاح الإخوان في انتخابات النقابة العامة للمحامين، كان نجاح الإخوان بمثابة صدمة لمؤسسات المجتمع المدني في مصر، فقد كانت نقابة المحامين عصيَّة على الخضوع لهيمنة الإخوان بحسب أنها نقابة سياسية ليبرالية، ولذلك، قالت صحيفة »الواشنطن بوست« الأمريكية في تحليل لها لنجاح الإخوان: إن هذا النجاح هو الزلزال الحقيقي الذي أصاب مصر، وما حدث بعد ذلك من اهتزاز في القشرة الأرضية لمصر هو بمثابة »توابع الزلزال الأول«. بعد هذا النجاح الزلزالي كنا قد عقدنا العزم على أن نخوض انتخابات النقابات الفرعية للمحامين كلها، بما يشبه الزحف المقدَّس، وطلبنا من كل محافظة إخوانية أن تجري انتخابات داخلية لاختيار مرشَّحيها، وفي محافظة القاهرة، كان من المفترض أن نشكل قائمة من خمسة أفراد، وأجريت الانتخابات الداخلية، عقدنا هذه الانتخابات في مكتب جمال تاج الدين بمنطقة حلمية الزيتون، وأسفرت النتيجة عن نجاح خمسة أفراد، ولم أكن من ضمن الناجحين، لم يكن الترشيح في هذه الانتخابات من اهتماماتي، فالعمل الفكري هو الذي يحركني دائماً فيما لا يستهويني العمل الحركي، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. بعد انتهاء عملية الفرز وإعلان من هم الذين سيمثلون الإخوان في هذه الانتخابات، همس عاطف عواد في أذني: أريد أن أجلس معك. لم أعرف سبب العصبية التي كانت تغلّف عبارات عاطف إلا أننا جلسنا في سيارتي أسفل مكتب جمال تاج... أخرج عاطف ورقة مطوية من جيبه وقال: حدث اليوم شيء مؤسف. قلت له مستفسراً: خير، ما الذي حدث؟ فتح عاطف الورقة التي كانت معه وقال: شيء مذهل لم أكن أتوقعه. قلت: هات ما عندَك. عاطف: وفقا للنتيجة الرسمية نجح مأمون ميسر وجمال تاج وصلاح سالم ومصطفى زهران وسيد عبد العزيز. أنا: أعرف! ثم ماذا؟ عاطف: اسمع هذه القصة... كنا في شرق القاهرة قد أجمعنا أمرنا على انتخابك عن الكبار، وسيد عبد العزيز عن الشباب، وبالفعل، معظمنا صوَّت لك. قلت: هذا الأمر لا يهمني. عاطف (اسمعني الله يخليك، الأمر على درجة كبيرة من الخطورة). أنا مستغرباً: أكمل إذن ما تريد قوله. عاطف: عندما أعلنوا النتيجة لم نجد اسمك من ضمن الناجحين، فأثار هذا الأمر استغرابي وفضولي، فدلفت أنا وممدوح أحمد إلى الغرفة التي قاموا فيها بتجميع الأصوات، وكان من حسن الحظ أن عثرنا على الورقة التي تم تدوين النتيجة فيها. أنا مستفهماً: وماذا وجدتما؟ عاطف: النتيجة المعلنة مزورة يا صديقي!! جماعة الإخوان ارتكبت جريمة تزوير لتمرير شخص تريده بالذات!! أنا متشككاً: مزوِّرة! إخواننا يزوِّرون الانتخابات! مَن هذا الشخص الذي تريد الجماعة أن تفرضه علينا؟ عاطف: واحد من الذين تربوا في حضن الحاج مصطفى مشهور وهو أحد التابعين الأوفياء لمحمود عزت، وستجده ليل نهار جالساً عند خيرت الشاطر، (حاجة تقرف). ثم قدم لي عاطف الورقة التي كانت معه وقال: انظر في هذه الورقة. أمسكتُ الورقة التي قدمها لي عاطف بيد مرتعشة وأنا لا أكاد أصدق عينَيّ.