تلح علي أحيانا الرغبة في الصمت، أصمت، اكسر قلمك، إنك لن تصلح الكون أبدا، سيجهل قومك مقصدك، سيمزقون صورتك، سيتهمونك في وطنيتك أحيانا وفي عقيدتك أحيانا أخرى، كن كباقي أصحابك، أسمك العصا من المنتصف، حاول أن ترضي الجميع، ما لاذي ستربحه من كشف الحقيقة؟! هل تظن أن الحياة مثل الحدوتة التي نقصها على الصغار؟! في الحدوثة يدور لصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وفي النهاية ينتصر لخير وتعلو كثيرا، ولكن يهزني »فعل أمر« بصدر من أعماقي، هو «اكتب، اكتب» الكتابة تسبق القراءة، ولولاها ما قال الله لنا «اقرأ» يبدأ الإنسان طريق المعرفة بقراءة الكتب ثم يرتقي فيقرأ الناس ثم يرتقي فيقرأ الحياة ثم يرتقي فيقرأ الموت، ولكي نقرأ يجب أن نكتب. كنت أقف بجوار عاطف الحسيني حينما قام بإغلاق شريط الفيديو وصوت الحاجب يخترق أذاننا قائلا: محكمة معلنا رفع الجلسة، ربت أحد المحامين علي كتفي قائلا: الدكتور بديع يريد أن يتكلم معك. ذهبت الى القفص، فأخذت أنظر للوجوه التي بداخله، لم أستطع تبين ملامح القابعين بالداخل بشكل دقيق، فالأسالك الكثيفة المتشابكة تعرف جزءا كبيرا من الرؤية، وكذلك نفس الأسلاك تعوق رؤية الذين بداخل القفص، فلا سيتطعيون رؤية الذين يقفون خارج القفص، ربت على كتف عاطف عواد الذي كان يتحدث وقتئذ مع إخوة لم أتبنهم، وإذ أمعنت النظر وجدتهم الدكتور محمد بديع ومختار نوح، وقفت بجوار عاطف صامتا إلى أن أنهى كلامه، وبعد أن ألقيت السلام سألني الدكتور بديع: من هذا الذي سأل عنه رئيس المحكمة؟ هل هو واحد من الإخوان؟ قلت هامسا: نعم، هو عمرو البلبيسي. بديع: (الحمد لله أن الضابط لم يتعرف عليه وإلا لكانوا قد قبضوا عليه هو الآخر، ربنا نجاه و أعمِى بصرهم وبصيرتهم). أنا: (الحمد لله يا دكتور ربنا ينجيكم). بديع: (على فكرة، إخوانك في السجن يحبونك كلهم ويدعون لك بظهر الغيب، ويطلبون منك الأخذ بالأسباب، ولا تيئسن إن لم تتحقق النتائج، فما عليا إلا العمل). أنا: (طبعا طبعا يا دكتور، إحنا تلاميذك) بديع: عرفت بأمر اللجنة اليت تشكلت برئاستك، ونحن نثق في إدارتك للمعركة، هل قرأت الخطة التي أرسلتها إليك؟ أنا: نعم قرأتها. بديع: كنت حريصا فيها على أن أقول لإخوانك في مكتب الإرشاد إنه من الجيد أنههم تنبهوا لملكاتك وقدراتك، وأإنك تستطيع بقدراتك على التفاوض أ تقفز بقضيتنا الى مناطق آمنة إن شاء الله. أنا: ربنا يوفقنا يا دكتور. بديع: أنا من سجني أساعدك قدر المستطاع، وقد أرسلت إلى إخوانك في المكتب «مكتب الإرشاد» كي يكتبوا مقالة باسم الحاج مصطفي مشهور وينشرونها في جريدة الشعب عن زيارة الرئيس مبارك لبيروت ودعمه لها ولإميل لحود بعد الاعتداءات الاسرائيلية عليها. تدخل عاطف عواد قائلا: (ياريت تطلب منهم يا دكتور يكتبوها كويس ربنا يكرمك، أنا خايف يشتيموا في لبنان أو إميل لحود ويقولوا عليه شيعي أو درزي!!). ابتسم الدكتور بديع وهو يقال: لا أنا طلبت منهم يمدحوا مبارك جدا، هذه فرصة لنا كي نثبت أننا لا نعارض من أجل المعارضة. عاطف عواد: هو ده الكلام يا دكتور، ربنا يكرمك، ينبغي أن لا نكون عدميين، نحن نعرض الخطأ ونوافق على الصواب. التفت بديع ناحيتي وهو يقول: أنا طلبت منهم في قسم المهنيين أن يجعلوا الأخ عمرو البلبيسي مفوضا من قسم المهنيين للحضور معكم وتوصيل طلباتكم فورا لمكتب الإرشاد وللمرشد. كتمت دهشتي، إلا أنني اعترضت قائلا: عمرو عبد الإله البلبيسي يا دكتور!! ألا يوجد أحد غيره؟ رد بديع بحزم: ماله عمرو يا ثروت؟! هو أخ فاضل وخبرته كبيرة في كل أنشطة المهنيين، ثم إنه بلدياتك، ابدأ معه التنسيق من اليوم. وافقت مرغما: كما ترى يا دكتور. جرى في خاطري أنني سأتعامل مع عمرو البلبيسي وسأنسق معه ولكنني لن أكشف له كل أوراقي (وفيما بعد أصبح عمرو عبد الإله البلبيسي أحد الكبار في قسم المهنيين بجماعة الإخوان، إلا أنه بعد الثورة أصبح منزويا بعيدا عن موقع القرار وحدث أن قابلته قدرا في معرض الكتاب فاشتكى لي من الإخوان وظلمهم له) يكفي أن حياتنا امتلأت بالجواسيس، جواسيس يكتبون التقارير لقيادات الإخوان، وجواسيس يكتبون التقارير لأجهزة الأمن، وأحيانا يقوم الجاسوس بالدور المزدوج، لا كما هو متعارف عليه في أجهزة الخابرات، ولكن بشكل جديد، فالجاسوس الإخواني الجديد ينقل لقيادات الإخوان، وفي ذات الوقت ينقل لجهاز أمن الدولة، وكم تكون صدمة الواحد مؤلمة عندما يكتشف أن أحد المقربين منه يتجسس عليه!! وآه من زمن الجواسيس، في كل زمن تتتكرر قصة يهوذا لأسخر يوي، في كل زمن صديق يغدر بصديقه وهو ينظر إلى صندوق الذهب الذي سيحصل عليه، وقد يحصل علي الذهب فعلا، ولكنه حتما يفقد نفسه، يحتقر قلعه، ولكنه ككل إنسان مريض سيستخدم جرعات مخدرة حتى يغيب ضميره، وكلما زاد حجم الخيانة زادت جرعات المخذر، في الحقيقة أنا غير غاضب منهم، أنا أشفق عليهم، أعرف أنهم لا يستطيعون النظر لأنفسهم في المرآة، لا يستطيع الواحد منهم أن يرفع رأسه أمام ابنه وهو يحاول أن يشرده وينقل له تجارب الحكمة التي ستحميه في مستقبل أيامه، كيف يتحدث مع ابنه الذي على مشارف الشباب ويبث في نفسه الأخلاق وهو الذي فقد كل أخلاقه في مقابل حفنة من الجنيهات ستفنى كما تفنى كل الأشياء في الدنيا، أتعرف؟ قد يلجأ إليك هذا الصديق الجاسوس ويطلب منك أن تتحدث مع ابنه وأن تستعيده من انفلات أوشك أن يقع فيه!! فتذهب بكل أريحية وتعقد جلسات وجلسات مع هذا الآبن الشارد، فإذا ما انتهت هذه الجلسات وانفرد بلك الأب الصديق الذي عينوه ليتجسس عليك إذا به يحاول استدراجك ليعرف منك ويحصل علي المعلومات التي سترفع من قدره لدى الجهة الأمنية التي وضعته عليك جاسوسا، يظن أنك لا تعلم، ولا يعرف أنه منذ أول لحظاته وهو مشكوف، كان كتابا مفتوحا من فرط سذاجته، ويظل الجاسوس الغبي دائما مكشوفا وهو يظن أنه أذكى من الجميع، ومع ذلك فإنني كنت أنقل له ما أريده أن يصل، فأنا في معركة، وإخوان في السجن، كنت أحدث نفسي: لا كنت إن لم أنصرهم، فلأستغل هؤلاء الجواسيس، بعضهم كا من الإخوان وبعضهم من خارج الجماعة ولكنهم كلهم كانوا مكشوفين أكاد أقرأ على وجه كل واحد منهم كلمة »جاسوس«. ليست هذه مجردة أو كلمات عامة، ولكنها حياة عشت فيها وعاشرت أشخاصها، كنت أرثي لهم وأشفق على عائلاتهم وأولادهم، كان منهم سليمان، وسليمان هذا ليس اسمه الحقيقي طبعا إذ ليس هدفي أن أفضح هؤلاء أو أشهر بهم، ولكن هدفي أن أكشف عن هذا المرض الذي استشرى في قلب الحركة الإسلامية أو قل في وسط المجتمع المصري الذي اشتدت فيه قبضة الأمن، كان سليمان قريبا مني، بل كان صديقي، وكان في ذات الوقت قريبا م الإخوان، وفي حملة أمنية تم القبض عليه، وكان عجبي كبيرا، سليمان ليس من ضمن أفراد الإخوان، وهو ليس نكرة يجهله الأمن! وضعت علامات تعجب أمام قرار القبض عليه، ولكنني وقفت معه وذهبت لتحقيقات النيابة وحضرت مدافعا عنه، وفي التحقيق وجدت أن أسئلة وكيل النيابة روتينية سطحية مجرد تأدية واجب، و في نهاية التحقيق تم حبس سليمان خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق، وكان أهل بيته قد أحضروا له الملابس البيضاء التي يرتديها المحبوسون احتياطيا فعرفت منههم أن بعض ضباط أمن الدولة قاموا بتفتيش البيت وأخذوا جهاز كمبيوتر، ولكنهم كانوا في منتهى الأدب والاحترام وهم يفتشون البيت حتى إنهم اكتفوا بالتفتيش الظاهري مع تقديم عبارات الاعتذار، وبعد ذلك أذهب إليه يوميا في سجن مزرعة طرة لأطمئن عليه وأنقل له »الزيارة« اليت يجهزها له أهله، وبعد انتهاء فترة الحبس الأولى تم عرضه على نيابة أمن الدولة لتقرر إما مد حبسه وإما إخلاء سبيله، وأثناد دفاعي عنه لاحظت أن وكيل النيابة لم يكن معي، وكأنه لا يسمعني إطلاقا بل كأنه لا يدري أن هناك محاميا جالسا أمامه يبدي دفاعه عن متهم محبوس، فقد كان يقرأ زبتركيز ورقة عليها من ألعى من الناحية اليمنى شعار مباحث أمن الدولة، كنت أريد معرفة ما هو المكتوب في هذه الورقة، شدني حب الاستطلاع إلى حد لم أستطع مقاومته، فسألت سليمان الذي كان جالسا في المقعد المواجه لي أمام وكيل النيابة: هل معك قلم أريد أن أكتب طلبا لسعادة وكيل النيابة، فقال لي سليمان: لا ليس معي، فانكفأت بجسدي على مكتب وكيل النيابة بفظاظة ريفية متحججا برغبتي في أخذ قلم من أمامه، فانتبه وكيل النيابة وقال متعجبا: (فيه إيه يا أستاذ! بتعمل إيه؟) قلت له وأن أنظر بإمعان في الورقة اليت كان يقرأ فيها: (قلم يا قنديل بك! أريد قلما ولا مؤاخذة) رد وكيل النيابة بحسم وقد زاد عجبه: (ستخدم قلمك يا أستاذ). اعتدلت في جلستي بعد أن قرأت العبارة الآتية المذكور من العناصر المتعاونة مع الجهاز.....«. قال وكيل النيابة: ما هي طلباتك يا أستاذ؟ - الإفراج عن المتهم بالضمان الذي تراه النيابة. هب وكيل النيابة واقفا وهو يقول: (لحظات وسآتي لكم، انتظرني يا أستاذ). حمل وكيل النيابة الورقة وخرج بها من حجرة التحقيق فخرجت وراءه لأرقب ما الذي سيفعله فوجدته قد توجه لمكتب المحامي العام لنيابة أمن الدولة، عدت الى الحجرة وابتسمت في وجه سليمان وأنا أقل له: (افراج إن شاءالله يا سليمان). سليمان: (تفتكر؟) أكدت له: (دلوقت هاتشوف) وصدر القرار، كان سليمان هو الويحد الذي تم الإفراج عنه. توقع عاطف عواد بعد أن تم الإفراج عن سليمان أ ينقطع عنا ويقاطع أي إخواني، فكفاه خمسة عشر يوما في طرة، إلا أنني قلت لعاطف: ستجد العكس سيقترب صديقك هذا من الإخوان بشكل أكبر مما كان وسيكون مدافعا عنهم متحمسا لهم بشكل مبالغ فيه، وبعد أسبوعين عقد إخوان منطقة شرق القاهرة إفطارا في أحد فنادق مصر الجديدة وكان سليمان أحد المدعوين، والغريب أن »الرائد رسلام« مسؤول أمن الدولة في منطقة شرق القاهرة كان مدعوا هو كذلك في هذا الإفطار، ومن بعدها ظل سليمان يتجسس علي وأنا أتصنع التغفيل.: ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي تداعت قصة سليمان علي ذاكرتي وأنا أنتظر دوري في الخروج من المحكمة، فقد كنا نخرج في »مبكروباصات« على دفعات. بعد أن خرجنا من مبنى المحكمة جلست مع أحد ربيع في السيارة لمدة ساعة نتداول فيما حدث بالجلسة، قلت له وأنا أختبر فراسته: أظن المسألة واضحة. ضحك بخيبة أمل: (للأسف آه). استرسلت قائلا: هل يعقل أن يكون عاطف الحسيني بجلالة قدر أهله لا يعرف من هو عمرو عبد الإله البلبيسي، عمرو العضو البارز بقسم المهنيين، عمرو الذي كتب توكيلا لحزب الوسط ثم سحبه!! قال أحمد وهو يبتسم ابتسامة ساخرة (أزيدك من الشعر بيتا، عمرو الذي استدعاه عاطف الحسيني أكثر من مرة للتحقيق معه في أنشطة قسم النقابيين!! قلت:» إذن هو من قام بالإبلاغ. أحمد ربيع: قد لا يكو وحده، العصافير تغرد في سماء الإخوان. رددت قائلا: هل تشك في آخرين؟ أحمد ربيع: هل تعرف أن الأخ اسماعيل بكير كان يعرف خبر اللقاء وكان من المفترض أن يذهب مع مختار نوح وخالد بدوي بسيارته إلا أنه اعتذر في اللحظة الأخيرة مما جعلهما يستعينان بعم محمود سائق التاكسي المسكين الذي قبضت عليه مباحث أمن الدولة الأيام؟! أنا: ولكن هذا ليس دليلا على شيء. أحمد ربيع: اسماعيل بكير جاسوس، هذا أمر لاشك فيه، كلنا يعرف ذلك، وعندك الأخ عبد الموجود، هل تعرف أنه تم تجنيده منذ عامين ولتغطية عمالته للأمن قبضوا عليه وحبسوه خمسة عشر يوما؟ أنا: أعرف، وقد استخدموا هذه الطريقة كثيرا (سألت الدكتور محمد حبيب مؤخرا هل كنتم تعرفون أن عبد الموجود عميل لأمن الدولة؟ قال نعم كنا نعرف ذلك ولكن بعض إخوانك كانوا يستفيدون من عمالته هذه لأنه كان يقضي لهم مصالحهم ويفاوض الأمن ويقلل من حجم الخاسائر بخصوص الحملات الأمنية، أي أنه كان يفيدهم فكان من الطبيعي أن يركنوا إليه حتى أصبح مركز قوة كبيرا في الجماعة، بل في الدولة كلها بعد الثورة، لدرجة أنه جعل لاإخوان يسندون لأحد أقاربه مركز مرموقا في الدولة). أكملت وأنا أبدي لأحمد موافقتي علي ما قال: لا عم أحمد، أنا أكاد أعرف كل الجواسيس، سيما هم علي وجوههم من أثر التجسس، وجوههم كريهة سمجة. أحمد ربيع: نعم أن معك، لكن الاحتياط واجب، وخذ بالك، أنت تعرف أن بعض أعضاء الإخوان كانوا ضباط مباحث سابقين وهم على صلة قوية بالأمن ويقدمون لقيادات الجماعة خدمات كثيرة من خلال علاتهم بالقيادات الأمنية في مصر. أنا: اعقلها وتوكل. ضحك حمد ربيع قائلا: هل ستفعل كحسني مبارك؟ قال مرة في خطبة له »اعقلها وتوكل« وهو يشير الي رأسه، وكأه يظن أن »اعقلها« من أعمال العقل. بادلته الضحك وأنا أقول: إذن اربطها و توكل.