«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية . بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. سيكون لقائي مع عبد الناصر، بضعة أيام بعد ذلك، حاسما على أكثر من صعيد.فقد فوجئت أولا بالبساطة الودية لاستقباله لي. فقد كان ، يرتدي سروالا من القماش و قميصا قطنيا خفيفا ذا ياقة مفتوحة، ، حين استقبالنا «روزي رولو» و أنا، في منزل متواضع نسبيا بمنشية البكري في الضاحية القاهرية، و هو المنزل الذي كان يسكنه و هو ضابط شاب، و الذي فضله على القصور التي وضعتها الجمهورية رهن إشارته. كانت القاعة التي جرى فيها الحوار مؤثثة على الطريقة التقليدية للبورجوازية المصرية المتوسطة ، لكنها كانت بعيدة عن عكس وضع رئيس الدولة. كان الجدار ذو اللون الرمادي- الأخضر مزينا بصور زعماء حركة العالم الثالث، ممهورة بتواقيعهم: تيتو، نهرو، شوان لاي، نكروما، سوكارنو. لم تكن القاعة مجهزة بمُكيف، و في المقابل كانت المروحية تجعل بالكاد حرارة شهر يونيه القاهرية قابلة للتحمل.دام حوارنا - الذي تم مرة بالانجليزية و أخرى بالعامية المصرية- أكثر من ساعتين، بحضور هيكل، الذي لم يتدخل - احتراما للزعيم- في أية لحظة من لحظات الحوار. أخذ مُضيفنا ، طويل القامة، ذو المنكبين العريضين كمنكبي ملاكم مع ميل خفيف إلى الأمام، و ذو النظرة المُشعة و الطيبة، الكلمة في البداية كي يُيسر لنا الوضع. و بسرعة ذاب الجليد بيننا: فقد شكا من مُعاناته من الوحدة، منذ أن غادرت أسرته، زوجته و أبناؤه، إلى الاسكندرية خلال عطلة الصيف. كان المنزل، الذي لم نلاحظ فيه مساعدين و لا خدم (باستثناء الشخص الذي يقدم لنا عصير الليمون و القهوة التركية)، يبدو له فارغا تماما. لحسن الحظ، قال مستطردا، أنه يشتغل كثيرا، أكثر من اللازم في نظره، في المكتب الذي أعده في شقته , و كان يُحاول رغم كل شيء ممارسة رياضتيه المحببتين: السباحة و التنس. أليس له هواية تشغله؟ لم يصل عبد الناصر إلى درجة البوح بإعجابه ? المعروف لدى المقربين منه- بأفلام «الويسترن» الأمريكية، أو بلعبة الشطرنج التي يتطارحها ما أمكن مع المشير عبد الحكيم عامر، أقرب أصدقائه من الضباط الأحرار الذين استولوا على السلطة في يوليوز 1952 .( أعفاه بصعوبة بعد هزيمة 1967 العسكرية، التي اعتُبر عامر،رئيس الأركان آنذاك، مسؤولا عنها). كان عبد الناصر يتمتع بفضول لا يشبع و بقدرة كبيرة على الإنصات. قبل أن أتمكن من صياغة أول أسئلة الحوار الذي سأنشره في «لوموند»، سألني مطولا عن حياتي المهنية،و عن طريقة عمل وسائل الإعلام الفرنسية و الحريات التي تتوفر عليها، و بطريقة مفاجئة عن حياتي الخاصة. كم من الأطفال لدينا؟ كيف نسكن؟ كيف تمكنت من شراء الشقة التي نقطنها في قلب باريس؟ ما هي الفوائد البنكية عن القرض الذي استلفته؟ ما هي نسبة الدفعات الشهرية من ميزانية العائلة؟ و أمام تعبيري المستغرب اعتذر عن فضوله ، مُوضحا لي أنه يريد أن يعلم ما إذا كان بالإمكان تزويد المصريين بسكن غير مُكلف و يستطيعون تملكه في النهاية، كان يتساءل ما إذا كان مثل هذا المشروع طوباويا في بلد في طور التنمية حيث مدخول الأغلبية العظمى من المواطنين يُمكنهم بالكاد من العيش. ثم، كما لو أن ديوانه لم يزوده بجميع المعلومات التي تخصني، سألني مرة أخرى عن أصولي، و عن الحياة التي كُنت أعيشها في مصر في سنوات شبابي، لكنه تفادى بمهارة السؤال عن الأسباب التي دفعتني للمنفى. فقد كنا «جيرانا»، بما أن مسقط رأسي «هليوبوليس»، كان قريبا من بيته في منشية البكري حيث يجري الحوار. لقد كان يقوم بشكل لافت بمحاولة الإغراء التي يُجيدها رجال التواصل و يملكون سرها. بدا لي الجو ملائما كي أطرح عليه السؤال، الأكثر صعوبة ، عن معسكرات الاعتقال. و يبدو - بالنظر إلى السرعة التي رد بها - أنه كان ينتظره ، فقد قال بهدوء :»لقد قررت، إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين قبل نهاية السنة الجارية». هذا الإعلان المُفاجئ، سيشكل عناوين الصحافة الدولية و «لوموند»، بطبيعة الحال. و بثت جميع الإذاعات هذا الخبر ، باستثناء إذاعة القاهرة و هو ما يدعو للاستغراب، و الذي لم يمنع مئات المعتقلين من الاطلاع عليه بفضل الإذاعات الأجنبية التي يسمعونها بشكل منتظم. انفجر الفرح في المعتقلات و تم الاحتفال بشكل صاخب بالحدث.و هبت ريح من التفاؤل على المجتمع المدني، و هو يساري في أغلبه. و أصبحتُ في نظر المعتقلين السياسيين، «البطل» الذي نجح في انتزاع الوعد من الرئيس. كانت الهوة التي تفصله عن الشيوعيين تبدو، آنذاك على الأقل، غير قابلة للجسر. فمعظمهم أدانوا انقلاب يوليوز 52 . و بعد سنتين على ذلك التاريخ، اصطفوا إلى جانب الجنرال محمد نجيب، مطالبين بعودة الجيش إلى الثكنات. كما تم اعتقال عدد منهم بينما تم نفي خالد محيي الدين، و هو واحد من الضباط الأحرار المقربين من الشيوعيين داخل مجلس أعضاء الثورة و صديق مقرب من عبد الناصر، إلى سويسرا. و نزلت موجة من الاعتقالات لا سابق لها سنة 1958 ، حين أعرب الماركسيون عن اختلافهم مع السياسة القومية لعبد الناصر، منتقدين إياه لكونه فرض وحدة مصطنعة مبنية على هيمنة الحزب الوحيد. شُيدت الوحدة السورية ? المصرية، التي أطلق عليها إسم الجمهورية العربية المتحدة، في فبراير 1958 بطلب و إلحاح من زعماء دمشق، على الشروط التي فرضها الريس: حل جميع التنظيمات السياسية لفائدة الحزب الوحيد، نسخ النظامين السياسي و الاقتصادي السائدين في وادي النيل على سوريا بغض النظر عن البنيات و التقاليد المحلية في الشام. و رغم ذلك، فإن إدماج البلدين أثار في البداية حماس السوريين و المصريين معا، كما أبهج مجموع العالم العربي. و هكذا أشاد الإعلام ببزوغ فجر جديد «للأمة» الممتدة من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي. و اعتُبر هذا تحذيرا للأمبرياليين و عملائهم، وللمُلاك المستغلين و للملكيات الرجعية ، بأن الأمر ليس إلا بداية صيرورة لا تَراجُع عنها. و جاء الانقلاب على الملكية بالعراق في يوليوز 1958 ، و صعود طغمة شبيهة بالطغمة الحاكمة في مصر، فأثارت قراراتها الثورية الأولى، القومية و الاشتراكية، آمالا كبيرة في المنطقة. و بدا أن عهد الناصرية المنتصرة يسير نحو قمة جديدة. و في بلدان أخرى، مثل لبنان، حيث تحرك القوميون، و هم كُثر بهذا البلد، من أجل الانضمام لقافلة العروبة المنتصرة. في هذه الأثناء، و عكس أي توقع، فإن الماركسيين عاكسوا هذا التوجه. فعلى طول العالم العربي، و بالخصوص في العراق، عارضوا أي وحدة بين القاهرة و بغداد. و اعتبروا هذه الوحدة تراجعا، خاصة و أن الحركة الثورية في بلاد الرافدين كانت أكثر راديكالية منها في وادي النيل. فعلى عكس عبد الناصر، كان نظيره العراقي، عبد الكريم قاسم، يستند إلى تحالف للقوى السياسية. ففي البداية، كان الشيوعيون العراقيون مصممين على مقاومة فرض الحزب الوحيد، في حين أنهم هم أنفسهم كانوا مهيمنين على الباقين. و قد كان لهم تأثير و نفوذ كبيران في أوساط الشيعة، و هي أهم طائفة بالبلد، و كذا وسط الأكراد (قرابة ربع السكان)، و كانت الطائفتان معا حذرتين من أي اندماج من شأنه محو خصوصية هويتهم داخل مجموعة عربية و سنية. و بالتالي فقد كانت أغلبية العراقيين مثل حكومة قاسم، لا تأمل الذوبان وسط الجمهورية العربية المتحدة. و ما لبثت الخلافات بين القاهرة و بغداد، التي كانت في البداية مخملية، أن اتخذت طابع المواجهة الواضحة. و مع وقوف الشيوعيين المصريين إلى جانب رفاقهم العراقيين تم اتهامهم بخيانة بلدهم و أمتهم العربية. فنزلت موجة الاعتقالات ليس عليهم فقط، بل طالت عدة مثقفين ليبراليين أو يساريين لم يكونوا يتحملون البونابارتية الناصرية. و لذلك فإن الإعلان عن إطلاق سراح المعتقلين السياسيين خمس سنوات بعد ذلك، أثار استغرابي. لماذا اتخذ عبد الناصر هذا القرار؟ و لماذا اختار أن يُعلنه من خلال صحفي أجنبي عابر؟ كان واضحا أن عبد الناصر يريد التوجه بالدرجة الأولى إلى الرأي العام الغربي، الذي لم يكن في معظمه، يُكن له أي تعاطف. كان يسعى إلى تمتين نظامه، الذي كان لا يزال يترنح بسبب انهيار الوحدة السورية ? المصرية، قبل عامين. كما أن الاعتبار الذي كان يحظى به في العالم العربي و في مصر نفسها قد خُدش. و بعد الانقلاب على عبد الكريم قاسم سنة 1963 ، اعتبر خلفاؤه من حزب البعث أنفسهم كمنافسين للناصرية. لذلك فقد كان الرئيس المصري يَحذر منهم إلى درجة الهوس، معتبرا أن هذا التنظيم قد خانه بالتسبب في انهيار الجمهورية العربية المتحدة. و بعد مرور الوقت، علمت أن قرار إغلاق معسكرات الاعتقال ، ما كان ليُفاجئني كثيرا.فبالرغم من طابعه المذهل، لم يكن الأمر يتعلق سوى بتدبير ضمن تدابير أخرى تؤكد إرادة عبد الناصر في طي صفحة. و كان يشكل مرحلة منطقية ضمن مراحل الإصلاحات المتتالية التي تم إدخالها من أجل تجديد و دعم النظام. و على سبيل النقد الذاتي، شرع عبد الناصر في إقصاء القومية التقليدية بجعل مضمونها غير مساير. و كما سيفسر ذلك ، خلال الحوار الذي أجريته معه، فإن الوحدة لا يمكن أن تتحقق إلا بين شعوب «ذات أهداف مشتركة» : أي الاشتراكية و مُعاداة الأمبريالية. و بصيغة أخرى، فإن الوحدة الثقافية و اللغوية و الدينية ليست كافية للتوحيد. ينبغي توحيد الشعوب عوض توحيد الأوطان: إذا ما تم ذلك ? يقول عبد الناصر- فإنه ينبغي أن يتم على شكل كونفدرالية بغرفتين، إحداهما منتخبة بالاقتراع النسبي و الأخرى تمثل الدول الأعضاء بالتساوي، و تستجيب للمصالح الخصوصية للشعوب المعنية. و كانت السوق الأوربية المشتركة، كما تصورها دوغول، نموذجا له فيما يبدو. و رغم عدم ارتياحه لصياغة نظرية قد لا تملك حظوظا لكي تتجسد في الواقع، على الأقل في مستقبل منظور، فإن الريس قاوم الضغوط لتوحيد مصر و اليمن، التي أرسل لها قوات من أجل الدفاع عن الجمهورية، التي أُقيمت في نهاية 1962 ، ضد القبائل المأجورة من الملك المخلوع و من العربية السعودية. كما كان عبد الناصر معارضا لوحدة جزائرية-مصرية. كما أدان شوفينية حكام بغداد، الذين يرفضون الاعتراف بشرعية طموحات الأكراد (مسلمون و غير عرب) في الاستقلال الذاتي داخل الدولة العراقية. و بعد عدة سنوات لم يستجب للطلب المُلح للعقيد الليبي معمر القذافي ،من أجل إعلان الوحدة بين البلدين. كان من الواضح أن الريس يسعى إلى الاحتفاظ بليبيا كملاذ ودي من شأنه استيعاب الساكنة المصرية الزائدة و المنتوجات الفائضة. كان يهدف إلى ممارسة ضغوط أكبر على البلدان العربية النفطية، الموصوفة ب»الملكيات الرجعية»، كي يُجبرها على تخصيص جزء من عائداتها لتنمية «الشعوب الشقيقة» التي لا تملك موارد طبيعية ، و على رأسها مصر بطبيعة الحال. و من خلال نفوذه السياسي على الجماهير العربية، يسعى إلى خلق تضامن كامل موجه أساسا لمساندة الدور المصري على الساحة الدولية. و كان الدليل الواضح على هذه السياسة ينعكس في كافتريا «نايت أن داي» بفندق سميراميس الواقع على ضفاف النيل. كانت الكافتريا المفتوحة، كما يدل على ذلك إسمها، ليلا و نهارا، مكانا للقاء بالنسبة للاجئين السياسيين العرب، و القادة القدامى و المقبلين، الذين يمتزجون بمثقفين مصريين من كافة التيارات. كان هؤلاء المنفيون جميعهم تقريبا «ناصريين»، يؤمنون بأن الوحدة العربية، كيفما كان شكلها و محتواها، من شأنها أن تساهم في تحقيق طموحاتهم. و جميعهم كانوا مدينين للريس ، الذي أتاح لهم اللجوء السياسي، و منحهم في غالب الأحيان ،وسائل العيش. و من جهته، كان عبد الناصر يضمن لنفسه حلفاء محتملين في العالم العربي. كنت أحضر عمليا كل الأماسي، في هذه اللقاءات و أشارك في نقاشاتها، التي كانت تتواصل حتى الليل المتأخر. و كان الصحفي يجد فيها ما يصبو له، إذ يكفي أن تستمع لهذا الطرف أو ذاك، و هما يتجادلان عبر الطاولات المتجاورة كي تأخذ فكرة عن الوضع في مختلف بلدان المنطقة. و غالبا ما كنتُ أحصُد من هذه اللقاءات معلومات غير مسبوقة، كانت تبثها حركات المعارضة و ينشرها ممثلوها بالقاهرة. كان فؤاد الركابي، و هو منشق عن حزب البعث الذي كان أحد مؤسسيه قبل أن يتولى زعامة الحزب الناصري بالعراق، و وزير سابق للجنرال قاسم، يُحدثنا عن الفظاعات التي تم اقترافها في بغداد بعد انقلاب 1963. كان شابا (لا يتجاوز الثانية و الثلاثين حينها) متحمسا و متفائلا، لم يكن يشك في المستقبل المُشع الذي ينتظر بلده. و حرص عبد الناصر على أن يُظهر له مشاعر الود بقبوله أن يكون شاهدا على زواجه. و عقب عودته للعراق سيتم اغتياله في السجن من طرف جلادي صدام حسين. أما سعيد العطار،الثلاثيني، الذي عرفته طالبا في باريس، فكان يدافع بانفعال و شغف عن قضية الجمهورية اليمنية التي قامت السنة الماضية. فبفضله، كنت أحد أوائل الغربيين الذين دخلوا إلى الإمامة، بعد أقل من أسبوع على قلب الملكية. كان سعيد ينحدر من دجيبوتي، حاز على دبلوم في الاقتصاد من الجامعة الفرنسية و تولى مناصب مسؤولية سامية ، وزارية خصوصا في اليمن. و قد دامت صداقتنا لعدة عقود. عبد الله الريماوي، أستاذ الرياضيات و الفيزياء، نائب سابق في البرلمان الأردني، كان فلسطينيا نموذجيا حينها، معتبرا أن الوحدة العربية ينبغي أن تسبق تحرير فلسطين لا العكس. كان يعتبر نفسه ناصريا لكنه كان ضد الحزب الوحيد، كما لم يكن يوافق على طرح عبد الناصر الذي يقول أن حل المشكل الفلسطيني يمكن أن يتم سلميا إذا ما طبقت إسرائيل قرارات الأممالمتحدة، و لم يكن يتوقف عن ترديد ضرورة زوال الدولة العبرية ككيان استعماري. الجنرال علي أبو نوار، الهارب من الأردن بعد أن دبر مؤامرة ضد الملك حسين، لا يتكلم إلا قليلا، تبين أنه قومي متشكك، مُعاد للانجليز و حَذر تجاه مواطنيه ذوي الأصول الفلسطينية. كان أبو نوار، من بين جميع رفاقي في «نايت أند داي»، يتميز بشخصيته و آرائه و مظهره. فقد كان ذا صلابة عسكرية، يرتدي دوما بدلة رمادية جيدة الفصالة مع ربطة عنق سوداء. و كا ن يُبدي العداء و الازدراء و اللامبالاة لأفراد مجموعتنا، باستثناء سلطان لحج، العاهل المخلوع عن محافظة لحج اليمنية، الذي يتواصل معه. و كان يَحدُث له أن يدخل في جدال مع المثقفين الناصريين الحاضرين بيننا. و قد سمعته يقول ذات مساء للصحفي لطفي الخولي الذي كان يعتبر نفسه ماركسيا: «ينبغي القضاء على جميع الشيوعيين أمثالكم». و كما لو توقع ما أشعر به حُياله قال لي في ليلة أخرى : «نعم، أنا فاشي، إذا كان هذا يعني الدفاع عن الأمة العربية ، نعم أنا عنصري حينما يتعلق الأمر بشجب ادعاءات الأكراد للحصول على الاستقلال الذاتي». كان من المستحيل فتح أدنى حوار معه. عاد إلى عمان، سنة بعد ذلك إثر عفو الملك عنه، و شارك سنة 1970 في قمع الفدائيين الفلسطينيين خلال مُواجهتهم للجيش الأردني (إيلول الأسود)، قبل أن يتم تعيينه سفيرا في باريس، حيث طلب معونتي كي أقدمه للمجتمع المدني الباريسي. جلال الطلباني، و كان حينها إطارا عسكريا شابا لدى زعيم الانتفاضة الكردية، الملا مصطفى البرزاني، كان يحب عبد الناصر حبا جما، و كان عبد الناصر قد شرفه باستقباله و تأكيده مساندة كفاح الشعب الكردي من أجل استقلاله الذاتي. كان موقف الريس جريئا في مرحلة كانت القومية فيها تتماهى مع الشوفينية. ارتبطتُ بصداقة مع جلال، الذي سأراه عدة مرات في معسكرات التمرد الكردي بالعراق، و لكن أيضا في بغداد و بيروت و طهران و أنقرة و باريس...كان محدثا جيدا، يتمتع بروح الفكاهة التي تغطي سخريته، يغير ولاءاته دون وخز من ضمير،من عدو إلى حليف كما يغير...إيديولوجيته بسهولة (كان ماويا في وقت من الأوقات) إلى درجة تفاهمه مع صدام حسين. كان تكتيكه يتطور حسب الظروف، لكن استراتيجيته ظلت هي هي : بقي وفيا لطموحات شعبه. عرف أوج مساره خلال انتخابه لرئاسة الجمهورية العراقية بعد الإطاحة بصدام حسين سنة 2003.و تبين أن ولاءه لأمريكا، حامية الأكراد قبل و بعد غزوها للعراق، كان نموذجيا. شخصية أخرى من الشخصيات اللامعة التي التقيتها في مقهى «نايت أند داي» هو الشاعر و الكاريكاتوريست صلاح جاهين ، المتعاون الشهير في يومية الأهرام، كان يحكي نُكتا حذرة في عدم احترامها للمُمسكين بالسلطة. قصير القامة، مُكور الجسد، أصلع بوجه طفولي، كانت له شجاعة التعبير عن آرائه. ففي رسم مرافق لمقال حول الحريات المحدودة في التعليم العالي، نشر مرة في الأهرام دماغا بقفل. و لأني أعرف طابعه البعيد عن أي عنصرية، أبديت ملاحظتي على رسمه للإسرائيلي دائما بأنف معقوف. فاجأته ملاحظتي، و هو الذي يجهل كل شيء عن العداء الغربي لليهودية، لكنه و منذ الغد ،غير شكل مواطن الدولة العبرية. كان هناك أيضا تونسي غريب رائع، ابراهيم طوبال، كان بدون حزب و لا علاقات سياسية له في بلده، كان يعلن باستمرار عن دنو الثورة التي ستقلب نظام الحبيب بورقيبة، دون أن نتمكن مما إذا كان جادا أم لا. كان زعيم المعارضة المغربية، المهدي بنبركة ينضم لنا في بعض الأحيان في مقهى «نايت أند داي». كان يُنصت باهتمام لكل ما يقال وكان يُحدثنا عن الوضع في بلده الأصلي أقل مما يتكلم عن مشروعه حول مؤتمر «القارات الثلاث» (إفريقيا، آسيا و أمريكا اللاتنية) الذي يهدف إلى جمع شعوب العالم الثالث في جبهة واحدة معادية للامبريالية. كما لم يكن يُخفي تعاطفه مع البعثيين، رغم علاقاته الجيدة مع منافسيهم الناصريين، و كان يساند حكومة بغداد ضد الأكراد المطالبين بالحكم الذاتي. و ستعمل المخابرات المغربية، بالاشتراك مع بعض رجال الشرطة الفرنسيين على اغتياله في باريس سنتين بعد ذلك. و من ضمن الأعضاء المواظبين داخل جماعتنا كان هناك الأخضر الإبراهيمي، كان في الثلاثين تقريبا من عمره سفيرا للجزائر في القاهرة. كان دبلوماسيا ذا طابع خاص. فقد كان يأتي إلى مقهى «نايت أند داي» مرتديا الدجين و قميصا قصير الكمين مع «صندل» خفيف في القدمين ، و كان يشاركنا محادثاتنا باعتباره مثقفا ملتزما. و قد كان مع ذلك كتوما جدا، و ذلك بسبب ارتباطه بعلاقات وثيقة مع الزعماء المصريين، و على رأسهم عبد الناصر، الذي كان يُكن له التقدير و الصداقة. كنا نُنصت له باهتمام كبير خاصة و أن ملاحظاته و تحليلاته كانت بالغة الدقة. و سيشغل الأخضر، الذي حافظت على علاقات ودية معه طيلة عقود من الزمن، عدة مناصب عليا في بلاده، من بينها وزارة الخارجية قبل أن يضع نفسه في خدمة الأمين العام للأمم المتحدة. الذي بعثه إلى مختلف مناطق النزاعات، خاصة في أفغانستان و العراق بعد احتلالهما من طرف القوات الأمريكية، و تبين أنه دبلوماسي بالغ المهارة و لا شك أنه واحد من أهم دبلوماسيي عصرنا هذا. وقد عملت نظرة عبد الناصر الجديدة للقومية حينها على إزاحة أحد أهم العوائق أمام تصالحه مع اليسار: فقد كان اعتقال الشيوعيين المصريين بسبب معارضتهم للوحدة مع سوريا و العراق و هو أمر لم يعد له مبرر الآن. كما أن الماركسيين من كافة المشارب أصبحت لهم مبررات للتقارب مع الثورة المصرية، قبل الانضمام بشكل دائم للناصرية. فقد أشادوا بالتدابير «التقدمية» للريس: مشاركة مصر في باندونغ ثم انضمامها لحركة عدم الانحياز و صفقة السلاح مع موسكو و تأميم قناة السويس و معاهدة الجلاء و الاتفاق مع الاتحاد السوفياتي لتمويل بناء سد أسوان الذي حقق حلم أجيال من المصريين. الحلقة المقبلة: جمال عبد الناصر (3)