لم تعد كلمة «ثورة» متداولة كثيراً في السنوات الأخيرة. لقد ملّها الناس في وطننا العربي من كثرة «الانقلابات»، التي سمي كل منها نفسه «ثورة»، ثم بغى وتجبّر، وفي مصر تفرعن كل من قاموا بهذه «الانقلابات/الثورات»، حتى إن الناس يترحمون على ملوكهم وحكّامهم السابقين لهذه الانقلابات. وقد حدث نفس الشيء تقريباً لكلمات ومصطلحات مثل «القومية العربية» و«الوحدة» و«الاشتراكية». وبعد ما فعلته حماس في غزة في يونيو 2007، وفصائل «فتح الإسلام» وتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وفي المغرب العربي، فإن شعارات مثل «الإسلام هو الحل»، أو «نعم، الإسلام هو الحل»، بدأ يصيبها ما أصاب مصطلحات وممارسات كانت ملء الأسماع والأبصار في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي. وكان ممن أسهموا في الترويج للشعارات والمفاهيم والممارسات «القومية»، ثم «الاشتراكية»، في الربع الثالث (1950-1975) من القرن العشرين، الطالب ثم الطبيب الفلسطيني جورج حبش، الذي انتقل إلى رحمة الله في 27/1/2008 بمدينة عمان، عن عمر يناهز ثلاثة وثمانين عاماً. ولأن جيلاً كاملاً من المصريين والعرب لم يعاصروا جورج حبش، وهو في قمة ثوريته، فإنهم لا يعرفون عنه كثيراً. لقد كنت كمئات الطلبة العرب في أمريكا ضمن من عرفوا عن جورج حبش، من خلال زملاء لنا، يدرسون معنا هناك، في عقد الستينات، وكانوا ينتظمون في ما سمي أيامها ب«حركة القوميين العرب»، وأخص بالذكر منهم العراقي باسل البلبيسي، والفلسطيني رمزي دلول، والكويتي عامر التميمي، والكويتي-الفلسطيني عدنان شهاب الدين. وقد تميزت هذه المجموعة بالحماس والانضباط التنظيمي الصارم. وفي صراعات الطلبة العرب ومنافساتهم الانتخابية لقيادة منظمة العرب، كانت حركة القوميين العرب متحالفة مع الناصريين والبعثيين ضد الماركسيين والإخوان المسلمين. ثم حينما وقع الانقلاب الانفصالي ضد عبد الناصر، في سوريا، الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، وأيده البعثيون في أوائل الستينات، افترقت العناصر القومية والناصرية عن العناصر البعثية. ورغم أنهم كانوا جميعاً دعاة وحدة عربية، إلا أن التنافس بينهم حول من يقود المسيرة إلى الوحدة، تحول إلى صراع محتدم على الأرض في الوطن العربي، وبين الطلبة العرب في القارة الأمريكية، وهذه هي الفترة التي تم فيها انتخابي رئيساً للطلبة العرب ضد المنافس البعثي أساساً والمنافسين الإخواني والماركسي، في المؤتمر السنوي الرابع عشر، الذي عقد في شامبين بولاية إلينوي (أغسطس 1965). وبسبب التحالف مع حركة القوميين العرب، بدأت أنا تفاعلاً مكثفاً -كناصري في تلك الفترة- مع زعامات الحركة في الولاياتالمتحدة، وتعرفنا على أدبياتها، واشتركنا في دوريتها، وفي مقدمتها صحيفة «الطليعة» الأسبوعية، وبدأ بعضنا من المصريين الناصريين يكتبون في هذه الصحيفة، وكذا في دورتها الشهرية، «دراسات عربية»... كما بدأنا نعرف أكثر وأكثر عن زعامات الحركة في البلاد، وفي مقدمتهم د. جورج حبش، الذي بدأ البذرة الجنينية، لما سيصبح حركة القوميين العرب، فيما بعد، ثم ستتطور هذه الأخيرة إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». كان جورج حبش قد خرج من مدينة اللّد بفلسطين في خريف 1944، للدراسة بالجامعة الأمريكية في بيروت. وكان في ذلك مثل عشرات الشباب الفلسطينيين الذين يتوجهون إلى القاهرة، أو بيروت، أو دمشق، أو بغداد، لاستكمال دراستهم الجامعية، حيث لم تكن هناك جامعات في فلسطين في ذلك الوقت، بينما كانت توجد جامعة يهودية، هي الجامعة العبرية، في القدس. وفي غضون دراسته في بيروت، ترامت إليه وغيره من الطلبة الفلسطينيين، أنباء انتهاء الانتداب البريطاني وقرار التقسيم (نوفمبر 1947)، وإعلان قيام دولة يهودية، اسمها إسرائيل على الجزء الأكبر من أرض فلسطين، يوم 15 مايو 1948، وما تبع ذلك من ترويع واقتلاع مئات الآلاف من العرب الفلسطينيين من قراهم ومدنهم، وطردهم إلى خارج حدود الدولة اليهودية الجديدة. وتابع جورج حبش وزملاؤه التطورات المأساوية التي تتابعت بعد ذلك، من إعلان جامعة الدول العربية بقرار أعضائها لإنقاذ فلسطين من السيطرة اليهودية، ثم انهزامها على يد من كان الإعلام العربي يسميهم «عصابات». ومن حكايات جورج حبش عن تلك الأيام المريرة، أنه عاد من بيروت إلى فلسطين، عن طريق الأردن للاشتراك في المقاومة. ولكن مع وصوله إلى مشارف بلدته، اللّد، كان يرى جثث الشباب والشيوخ والأطفال على جانبي الطريق، وما أن وصل إلى بيت أسرته حتى علم بوفاة شقيقته الشابة، التي كانت الأقرب إليه بين إخوته. وفي غضون ساعات، كان المسلحون اليهود على الأبواب، يأمرون أسرته، كما أسرا أخرى، بترك منازلهم فوراً... وإلا تم رميهم بالرصاص فوراً. وقد رأى وسمع آخرين يسقطون برصاص هؤلاء المسلحين، عند أي بادرة مقاومة، أو حتى تلكؤ في تنفيذ أوامر الخروج. وكان هو وغيره من الفلسطينيين يتساءلون في مرارة وغضب: أين ضمير العالم؟ أين العرب وجيوشهم؟ أراد جورج حبش أن يبقى مع أسرته، التي أصبحت ضمن آلاف اللاجئين في الأردن. ولكن أمه التي كانت تحلم بأن يصبح ابنها طبيباً، توسلت إليه أن يعود إلى دراسته الطبية في الجامعة الأمريكيةببيروت، وحينما يصبح طبيباً فإنه سيكون أقدر على مساعدة أهله وشعبه المثخن بالجراح النفسية والبدنية. فأذعن جورج لرغبة أمه التي كانت لاتزال بملابس الحداد، مكلومة على ابنتها التي رحلت قبل أسابيع. وفي الجامعة الأمريكية، وهو في سنوات الطب النهائية سينشط جورج حبش في تجميع وتعبئة زملائه الفلسطينيين والعرب بالجامعة، لكي يتدارسوا أسباب «النكبة»، كما سماها المؤرخ السوري الشاب قسطنطين زريق، وكان هو نفسه أستاذا بنفس الجامعة. واستطاع جورج وزملاؤه السيطرة على أحد الأندية الأدبية بالجامعة (العروة الوثقى)، وتحويله إلى منتدى سياسي، ثم إلى تنظيم، اتخذ من شعار «الأرض والثأر» نبراساً لعمله، وكوّنوا ما سموه «كتائب الفداء العربي». وقامت، كما يقول أحد زملاء جورج حبش، وهو ماهر الطاهر، بعمليات ضد مؤسسات ومرافق مملوكة ليهود أو أجانب متعاطفين معهم. ولكن السلطات الأمنية في لبنان وسوريا والأردن لاحقتهم، وأجبرتهم على الإقلاع عن هذه الممارسات «العسكرية»، التي كانت في الواقع «تعبيرية وتنفيسية» للشباب الجريح، أكثر منها ذات تأثير فعال في إفشال المشروع الصهيوني. وفي السنوات الخمس عشرة التالية (1952-1967)، ينتقل جورج حبش، ورفيق عمره وديع حداد، علانية أو سراً، بين بيروتودمشق وعمان والقدس: يفتتحون العيادات والمستوصفات، والمدارس، ومراكز الخدمة الاجتماعية في مخيمات اللاجئين، ويجندون الشباب لحركة جديدة، ستسمى «حركة القوميين العرب»، والتي كانت فلسفتها أن استعادة فلسطين لن تتم إلا من خلال العمل الوحدوي العربي. وكان قيام ثورة يوليو، وظهور عبد الناصر على مسرح الأحداث، هو ضالتهم المنشودة، وتضاعف حماسهم له والمناداة به زعيماً للأمة العربية، بعد تأميمه لقناة السويس (1956) وصموده أمام العدوان الثلاثي، ثم بعد إعلان قيام «الوحدة المصرية-السورية»، ممثلة في «الجمهورية العربية المتحدة». امتدت حركة القوميين العرب من المشرق العربي، لبنان، سوريا، فلسطين، الأردن، العراق، إلى الخليج والجزيرة العربية. وساعد وجود لاجئين فلسطينيين في هذه الأخيرة، كمعلمين وأطباء ومهندسين، على نشر أفكار الحركة، وتلك أيضاً هي الفترة التي انتعشت فيها بين الطلبة العرب في أمريكا وأوروبا. ولأن التنظيمات الناصرية لم تكن موجودة خارج مصر، أو كانت ضعيفة، فإن حركة القوميين العرب، كانت بمثابة «الحزب الناصري غير الرسمي»، وكانت هي التي روجت لأفكار عبد الناصر، ودافعت عن ممارساته، وناهضت خصومه وأعداءه. ولكن مع هزيمة يونيو 1967، أصيب أنصار الحركة بالصدمة والإحباط، خاصة أن جسمها الأساس وطليعتها الفلسطينية، رأت ضياع ما كان قد تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة). ولكن رغم عمق جرح الهزيمة، حاول جورج حبش إعادة زرع الأمل واستنهاض روح الصمود، ومراجعة الأفكار والممارسات السابقة لحركة القوميين العرب وللناصرية. وتردد على القاهرة عدة مرات بعد الهزيمة، والتقى عبد الناصر، وتحاور معه طويلاً حول دروس النكبة الثانية. وهنا يدخل جورج حبش المرحلة الثالثة والأخيرة من تحولاته الفكرية والحركية، ألا وهي «الاشتراكية الماركسية» فكراً، و«العمل الجبهوي» تنظيماً وممارسة، فأسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (1/12/1967). وتبنت الجبهة العمل المسلح نهجاً لتحرير فلسطين. وكان واضحاً إعجاب جورج حبش بالتجربة الفيتنامية، التي كانت في قمة مواجهاتها مع قوى الهيمنة الأمريكية الرأسمالية. ولكن بلا أرض تحارب عليها، كان لا بد للجبهة، كغيرها من الفصائل الفلسطينية الأخرى، أن تشتبك مع إسرائيل وأنصارها الدوليين، إما من لبنان أو الأردن، أو من الجو، وتلك هي الفترة التي بدأت مع معركة «الكرامة» (مارس 1968) من الأردن، وممارسة خطف الطائرات، وأخذ الرهائن، وهي الفترة التي شهدت مواجهات فلسطينية-عربية، بقدر ما شهدت اشتباكات للحركة مع إسرائيل وحلفائها الغربيين، من ذلك المواجهة المأساوية مع النظام الأردني، والتي وصلت قمتها في سبتمبر (أيلول 1970)، وعرفت باسم «أيلول الأسود»، ومن ذلك أيضاً ما حدث بعد خمس سنوات وفجّر الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990). لم يكن جورج حبش هو الفاعل الوحيد، أو المسؤول الرئيسي عن تلك الجوانب المأساوية في المسيرة الفلسطينية، ولكنها أخذت من صحته وتوهجه الشيء الكثير، وظهرت إلى جانب الجبهة، قوى فلسطينية أخرى، تجاوزتها، واستقطبت جماهير أكبر، بدءاً من حركة فتح وانتهاء بحركة حماس. ولأن جورج حبش أيقن بذلك، وكان أميناً مع نفسه ومع رفاقه، فإنه تخلى طواعية عن قيادة الجبهة الشعبية، قبل عدة سنوات من رحيله. لقد اتيحت لي فرصة لقاء جورج حبش والعمل بالقرب منه في عامي 1969 و1970، حيث تطوعت مع عدد من الشباب العربي في صفوف المقاومة في الأردن، وكنت مشاركاً وشاهد عيان على الأحداث التي أدت إلى أيلول الأسود، وكتبت عن ذلك عدة مقالات في حينه، ورغم اختلافي مع نهج جورج حبش في تلك الفترة، إلا أنه لم يخالجني أدنى شك، لا وقتها ولا بعد ذلك، في إخلاص الرجل وتفانيه من أجل القضية الفلسطينية، وفي طهارته وعفته وسمو أخلاقه، لذلك سمي «حكيم الثورة الفلسطينية»، ولأنه كان طبيباً، حيث يسمون الطبيب في الأرياف العربية بالحكيم، فقد أصبح الوصف مزدوجاً، حكيم من الحكمة والطهارة، وحكيم من الطب، كمهنة فيها شفاء للناس. تساءل الكاتب د. خالد الحروب في أحد مقالاته: هل تجوز الصلاة والرحمة على جورج حبش، الذي ولد مسيحياً وانتهى ماركسياً؟ وأنا أجيب، كمسلم، نعم تجوز الصلاة والرحمة على روح د. جورج حبش، ألف مرة ومرة، فقد عاش وأعطى للوطن والأمة أكثر بآلاف المرات مما أعطى كثير من المتاجرين بالدين، وعندنا كمسلمين، يقول الحديث الشريف «الدين المعاملة»، ولقد كان جورج حبش بكل المعايير معطاء لشعبه وأمته، وطاهراً عفيفاً في تعامله مع الجميع. رحم الله جورج حبش، وأدخله فسيح جناته.