أخنوش يستقبل لارشير بالرباط    الأرباح تتعزز في بورصة البيضاء    الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية تثير استغراب نقابات الصيادلة    اعتقال مواطن فرنسي بمراكش في قضية ترويج المخدرات والاختطاف ومحاولة القتل    سبيك: المغرب ينجح في إحباط مخطط "تفجيرات إرهابية عن بعد"    عن تنامي ظاهرة العنف المادي والمعنوي ضد أطر التربية..    تلاميذ طنجة أصيلة يتألقون في البطولة العربية لألعاب الرياضيات والمنطق ويحصدون ميداليتين ذهبيتين    حامي الدين: المغرب يعيش فراغا سياسيا قاتلا يفتح مستقبل البلاد على المجهول    أكثر من 130 مقاتلا مغربيا في تنظيم "داعش" في إفريقيا    غوتيريش يدعو إلى "العمل المشترك" من أجل النهوض بحقوق الإنسان    هزة أرضية بالريف وهذه قوتها    إسبانيا تطرد حلاقا مغربيا من برشلونة بتهمة تجنيد مقاتلين لتنظيم داعش    العداؤون المغاربة يتألقون في ماراثون اشبيلية    البنك الدولي: القطاع الزراعي في المغرب يواجه تحديات كبرى بسبب الجفاف    الاتحاد الأوروبي يعلق عقوبات على سوريا    مراكش.. اجتماع حول المخطط الشامل للتعاون العسكري المشترك بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية    المتحدث باسم حماس: تصريحات أبو مرزوق لا تمثل موقف الحركة    جريمة مزدوجة تهز المحمدية ..سبعيني يقتل ابنته وصهره ببندقية صيد    الطالب الباحث مصطفى المحوتي يناقش رسالة الماستر حول البعد التنموي لقوانين المالية بالمغرب    ندوة بالحسيمة تسلط الضوء على حقوق النساء الراعيات للأشخاص في وضعية إعاقة    منخفض جوي يقترب من المغرب مصحوب بامطار غزيرة وثلوج    رئيس الاتحاد الموريتاني لكرة القدم يستقبل فوزي لقجع    نايف أكرد يغيب عن مواجهة برشلونة بسبب تراكم الإنذارات    الملك يهنئ رئيس جمهورية إستونيا    الكاتب الأول إدريس لشكر يهنئ الميلودي موخاريق بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما للاتحاد المغربي للشغل لولاية رابعة    حريق يداهم الحي الجامعي بوجدة    فرنسا تدين استهداف قنصلية روسيا    دراسة.. ارتفاع معدلات الإصابة بجرثومة المعدة لدى الأطفال بجهة الشرق    ميناء طنجة المتوسط يستقبل سربًا من مروحيات الأباتشي    "زمن الخوف".. الكتابة تحت ضغط واجب الذاكرة    الجبل ومأثور المغرب الشعبي ..    غزة ليست عقارا للبيع!    تفكيك خلية إرهابية مرتبطة بداعش .. عمليات البحث والتتبع لأنشطة عناصر الخلية استغرقت ما يناهز السنة    سفير اسبانيا .. مدينة الصويرة تلعب دورا محوريا في تعزيز الروابط الثقافية بين المغرب واسبانيا    دنيا بطمة تعود إلى نشاطها الفني بعد عام من الغياب    الدار البيضاء.. الأوركسترا السيمفونية الملكية تحتفي بالفنان الأمريكي فرانك سيناترا    مع اقتراب رمضان.. توقعات بشأن تراجع أسعار السمك    دراسة تكشف عن ارتفاع إصابة الأطفال بجرثومة المعدة في جهة الشرق بالمغرب    السد القطري يعلن عن إصابة مدافعه المغربي غانم سايس    المهاجم المغربي مروان سنادي يسجل هدفه الأول مع أتليتيك بلباو    الذهب يحوم قرب أعلى مستوياته على الإطلاق وسط تراجع الدولار وترقب بيانات أمريكية    المعرض الدولي للفلاحة بباريس 2025.. المغرب وفرنسا يعززان تعاونهما في مجال الفلاحة الرقمية    "كابتن أميركا" يواصل تصدّر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية    غوتيريش: وقف إطلاق النار في غزة "هش" وعلينا تجنب تجدد الأعمال القتالية بأي ثمن    السعودية تطلق أول مدينة صناعية مخصصة لتصنيع وصيانة الطائرات في جدة    الصين: "بي إم دبليو" تبدأ الإنتاج الضخم لبطاريات الجيل السادس للمركبات الكهربائية في 2026    الوزير يدعم المغرب في الحفاظ على مكسب رئاسة الكونفدرالية الإفريقية للمصارعة وانطلاقة مشروع دراسة ورياضة وفق أفق ومنظور مستقبلي جديدة    مناقشة أول أطروحة تتناول موضوع عقلنة التعددية الحزبية في المغرب بجامعة شعيب الدكالي    نائب رئيس الكنيست الإسرائيلي يدعو إلى قتل الفلسطينيين البالغين بغزة    صدمة كبرى.. زيدان يعود إلى التدريب ولكن بعيدًا عن ريال مدريد … !    المغربي أحمد زينون.. "صانع الأمل العربي" في نسختها الخامسة بفضل رسالته الإنسانية المُلهمة    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط (1)
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 12 - 07 - 2013

«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية .
بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو.
و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،.
في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس.
و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان.
لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير.
إثنا عشر عاما بعد مُغادرتي البلاد،عُدت إلى مصر مرفوقا بزوجتي روزي، المصورة الصحافية. كان الاستقبال الذي خُصص لنا، لدى نزولنا بمطار القاهرة سورياليا إلى حد ما.فقد تم استقبالنا من طرف ممثل عال من وزارة الإعلام بتشريفات غير مُعتادة. توجهنا على متن ليموزين رسمية إلى أحد أفخم فنادق القاهرة حيث حُجز لنا جناح فاخر، وجدنا داخله بانتظارنا باقة زهور جميلة مع بطاقة تُشير إلى أن «رئاسة الجمهورية» تتمنى لنا إقامة سعيدة. مثل هذه التشريفات تُفاجيء أحد المغضوب عليهم سابقا مثلي.
تعود بداية الرواية التي سأعيشها إلى بضعة شهور بباريس أي في ربيع 1963 .كنت حينها رئيسا لقسم الشرق الأوسط بصحيفة «لوموند»، و هو مركز كُلفت به ضدا على كل منطق ، لأن معظم الدول العربية إن لم نقل كلها، كانت ترفض منح تأشيرة دخولها إلى شخص يهودي.
لا شك أن إدارة الجريدة أولتني ثقتها بسبب تحقيقاتي السابقة في إفريقيا السوداء التي لم يكن من اليسير العمل فيها، خاصة و أن حركة مكافحة الاستعمار كانت في أوجها حينذاك. كما أنه من الممكن أن معرفتي باللغتين العربية و الانجليزية ساهمت أيضا في هذا الاختيار الغريب، إلا أن هذا لا يكفي لفتح أبواب أغلب دول المنطقة في وجهي. كما أن التحقيقات التي أجريتها في إسرائيل و إيران و تركيا، قد تدعو إلى الاعتقاد بأني قادر على اقتحام جدران «القلعة العربية». أما من جهتي ،فلم تكن تساورني أية أوهام، بالنظر إلى العداء الحاد الذي تثيره إسرائيل في المنطقة. إلى درجة أني كنت أعتزم التخلي عن هذا المنصب من أجل التفرغ لمنطقة أخرى في العالم لا يكون لأصولي فيها أي تأثير.
و بعد ثلاث سنوات بزغ شعاع أمل، حين طلب مني صحفي مصري مار بباريس موعدا. كنت أعرف سماعا لطفي الخولي كصحفي ماهر بيومية الأهرام و كاتب مسرحي من اليسار. خلال الغذاء الذي دعوته إليه، قدم لي اقتراحا سيقودني إلى منعطف كبير في حياتي المهنية. لقد كان مكلفا ? كما قال لي ? من طرف محمد حسنين هيكل، مدير الأهرام و صديق جمال عبد الناصر، بأن يُسلمني دعوة لزيارة مصر. و أكد لي بأن كافة التسهيلات سيتم توفيرها لي كي أقوم بتحقيق عن البلاد و أني سأكون حرا في تحركاتي و اتصالاتي بما في ذلك الاتصال بأعضاء المعارضة، كما سأكون حرا في نشر كتاباتي دون رقابة، إضافة إلى تأشيرة دخول تُسلم لي فورا و للمدة التي تلائمني. و هي امتيازات لم تقدمها مصر الناصرية لأي صحفي أجنبي في الماضي.
أبلغت إدارة صحيفة «لوموند» بالعرض فوافقت بشرط أن تتحمل «لوموند» نفسها جميع مصاريف التنقل و الإقامة و ليس الجريدة المصرية.
و مرت عدة عقود قبل أن أتمكن من حل اللغز الذي ظل يلف الدعوة الغريبة لمدير الأهرام.فبسؤالي بعض المقربين من عبد الناصر بعد وفاته، و خاصة مدير ديوانه سامي شرف، اكتشفت أن حسابات سياسية بالغة الدهاء هي التي كانت وراء قرار فتح مصر أمام المبعوث الخاص ل»لوموند». فبعد حصول الجزائر على استقلالها في السنة السابقة، و عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر و فرنسا،كان عبد الناصر يأمل في وضع حد لسنوات الخلاف و المواجهات بتدشينه علاقات ثقة مع حكومة الجنرال دوغول، الذي كان يُكن له إعجابا كبيرا، و هو الإعجاب الذي سيظهر بأنه متبادل بين الرجلين. إضافة إلى أنه كان يعتقد ? و هو اعتقاد له دواعيه ? بأن باريس كانت تمنح الدول التي استعادت سيادتها حديثا طريقا ثالثا يُمكنها من الإفلات من منطق التحالف الإجباري إما مع الاتحاد السوفياتي أو مع الولايات المتحدة. كان ينبغي إذن تبديد العداء المتبقي بين البلدين (ما أمكن) و ذلك بالتوجه إلى الإعلام الفرنسي. و كانت «لوموند»، التي تُعتبر آنذاك دوغولية و عالمثالثية التوجه و التي كان تأثيرها و سُمعتها يتجاوزان الحدود الوطنية بكثير، هي الملائمة للتقريب بين الدولتين.
و قد رأى مُستشارو عبد الناصر، و من ضمنهم مدير الأهرام بنصيحة ربما من لطفي الخولي، أن خطوة أولى في هذا الاتجاه تتطلب إقامة علاقة مع من يرأس قسم الشرق الأوسط في «لوموند» . و قد كان الرهان معقولا تماما، فقد كُنتُ أُعتبر في الأوساط السياسية «تقدميا» من شأنه الاهتمام ببعض منجزات النظام الناصري.
و كانت مقالاتي قد شدت بالفعل اهتمام المسؤولين المصريين. فخلال الأزمة البلجيكية ? الكونغولية عام 1960، اتخذتُ موقفا واضحا في النزاع بين بروكسيل و ليوبولدفيل (العاصمة السابقة للكونغو ? زايير) إلى جانب الحركة الاستقلالية و زعيمها باتريس لومومبا، ضحية مؤامرة دولية كبرى (لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عنها) أدت إلى اغتياله وإحلال موبوتو سيسيسيكو محله. وكنت الوحيد داخل الصحافة الفرنسية الذي كشف خلفيات انفصال إقليم كاتانغا ، الذي دبرته الشركة المنجمية البلجيكية التي كانت تستغل مناجم النحاس الغنية. و مثل باقي كبريات الشركات الكولونيالية، كانت تخشى أن يُفقدها استقلالُ المستعمرات امتيازاتها الهائلة.
سنتان بعد ذلك، في العام 1962 ، و في سلسلة من المقالات، دافعتُ عن الجمهورية اليمنية بعد الانقلاب على الملكية، كما أن انتقاداتي المتواصلة لدكتاتورية شاه إيران (الذي كان الغرب يعتبره مصلحا كبيرا) بسبب خرقه لحقوق الإنسان و رضوخه لإرادة الولايات المتحدة، كانت تأخذ باهتمام الأوساط السياسية المصرية، التي كانت تُشاطر عموما خياراتي السياسية.
و كان تعاطفي النسبي مع مصر الناصرية يتعارض مع العداء الصريح لمُعظم الصحافة حُيال «دكتاتور» القاهرة، بل إن صحيفتي نفسها لم تكن تتورع عن التعرض للرئيس المصري و مقارنته بهتلر أو ستالين، و اتهامه بكونه فاشيا أو شيوعيا أو عميلا للكرملين. و من جهتي لم تكن تستغبيني تلك النعوت المعتادة في الغرب لشيطنة زعماء العالم الثالث الذين كانوا يتحدون الوضع القائم. فزعيم الثورة المصرية لم يقلب الملكية فقط و لم ينزع عقارات كبار الملاكين، و لم يفكك الأوليغارشيا الصناعية و المالية سواء المحلية منها أو الفرنسية أو البريطانية، و لم يؤمم شركة قناة السويس رمز الهيمنة الأجنبية على وادي النيل، بل أقام علاقات ودية مع الاتحاد السوفياتي و حلفائه من أجل مواجهة النفوذ الغربي و خاصة الأمريكي.
وكانت فرنسا الجمهورية الرابعة تلومه خصوصا لمساندته ثورة الشعب الجزائري. وكما يحدث في حالات الحرب المماثلة،فإن الحملة المعادية لعبد الناصر كانت تتخذ لبوسا أخلاقيا للتمويه على المصالح غير المُعترف بها للقوى الكبرى.
كنت من جهتي ، أعتبر مساندة عبد الناصر للثورة الجزائرية أمرا مشروعا، تماما مثل رغبته في إقامة السد العالي في أسوان من أجل توسيع و عقلنة الري في البلاد الصحراوية، و مضاعفة قدرته الطاقية و بالتالي قدرته الصناعية. كما اعتبرتُ من الوضاعة، قرار واشنطن سنة 1956 حرمان المشروع من مساهمتها المالية و التقنية، «معاقبة» لعبد الناصر لأنه أبرم صفقة سلاح مع موسكو لها، مع ىذلك، ما يبررها حين رفضت واشنطن تزويده بوسائل الدفاع.
لم يكن من العسير مشاطرة حماس المصريين، و كذا حماس مجموع شعوب العالم الثالث، لتأميم شركة قناة السويس، في 26 يوليوز 1956، و هي مجازفة كبيرة حينها و عملا ثوريا ? الثاني في المنطقة بعد التأميم المُجهض للبترول الإيراني، قبل ذلك بخمس سنوات، من طرف محمد مصدق الزعيم الإيراني الوطني المعتدل . و قد أدى هذا التحدي بالغرب إلى شجبه واعتباره عميلا لموسكو، قبل قلبه سنة 1953 بواسطة انقلاب قادته المخابرات المركزية الأمريكية.و في الحالتين معا ، كانت استعادة الموارد الوطنية مطابقة لقوانين السيادة و لم تخرق مصالح المساهمين، الذين تم نزع أسهمهم بطريقة مشروعة كما تم تعويضهم بشكل نزيه.
بدا لي الرد على عبد الناصر، مُقارنة مع ما تعرض له محمد مصدق، أكثر قسوة و مُفتقدا لأي تبرير.فبعد ثلاثة شهور تقريبا على تأميم شركة قناة السويس، تدفقت الدبابات الإسرائيلية على سيناء فيما قامت القوات البريطانية و الفرنسية بعملية إنزال في بورسعيد، زاعمة الفصل بين المتحاربين. و في الواقع كان الهدف المشترك للحلفاء هو إسقاط الجمهورية الناصرية، التي انضاف لها طموح الدولة العبرية في أن تتمتع بحرية الوصول إلى قناة السويس و خصوصا امتلاك سيناء. كان انتصار الغُزاة يبدو مضمونا، بالرغم من المقاومة المصرية الشرسة، إلى أن وضع الرئيس الأمريكي إيزنهاور حدا لهذا العبث، و طالب بانسحاب جميع القوات الأجنبية و حصل على ذلك. فيما هدد الرئيس السوفياتي المارشال «بولجانين» بدوره بالتدخل عسكريا، و هو علامة مساندة رمزية من موسكو للدول النامية.
لم تكن مُبادرة الرئيس الأمريكي، الفريدة من نوعها، اعتباطا بل كان تعبيرا بذلك عن غضبه من التحالف بين لندن و باريس و القدس، الذي تم دون مشاورته، آملا من وراء ذلك وضع مصر تحت رعاية واشنطن. و قد كان أيزنهاور مُحقا، فتدخله زاد من شعبية و تأثير الولايات المتحدة داخل مصر و في مجموع الشرق الأوسط، في حين دق فشل «العدوان الثلاثي» ناقوس النهاية للحضور الفرنسي-البريطاني في مصر و سجل بداية انحسار نفوذ القوتين بالمنطقة. و لم يكن الضرر الذي لحق بإسرائيل قليلا: فقد ظهرت الدولة العبرية أكثر من أي وقت مضى كدولة توسعية في خدمة الامبريالية الغربية.
رغم ذلك، فقد عُدتُ إلى مصر و أنا مليء بالتحفظات حُيال النظام الناصري. فقلب الملكية، المتبوع بإصلاحات اقتصادية و اجتماعية عميقة، و إقرار السيادة الوطنية بعد الجلاء النهائي لجيش الاحتلال البريطاني، كان يستجيب حقا لقناعاتي الشبابية، إلا أن الطابع العسكري للنظام المفروض من طرف الطغمة العسكرية التي استولت على السلطة في 23 يوليوز 1952 ظل لطخة غير قابلة للمحو بالنسبة لي. و في النزاع الذي تواجه فيه،سنتان بعد ذلك، عبد الناصر و الجنرال محمد نجيب، الزعيم الإسمي للثورة، كان موقفي مؤيدا لهذا الأخير الذي كان يأمل في إضفاء الشرعية على جميع الأحزاب السياسية، من الإخوان المسلمين حتى الشيوعيين، و إقامة حياة برلمانية.
و رغم المفارقة، فقد كنت متعاطفا مع مبررات خصوم الجنرال نجيب، التي تقول أن الدمقرطة لن يكون لها أي مفعول سوى إعادة نفوذ ممثلي الرأسمال الكبير، الذين لا زالوا يملكون وسائل الهيمنة على الساحة السياسية. كما أن نظام الحزب الوحيد كان سائدا في معظم الدول التي حصلت على استقلالها منذ الحرب العالمية الثانية: فكل شيء كان يُظهر أن هذا هو الثمن الذي ينبغي أداؤه لضمان تقدم و رفاه الشعوب في طريق التنمية.
و بين هذين الطرحين المتناقضين تماما، اللذين يجتذبانني، كُنت أعتقد أني عثرتُ على المسافة الجيدة في تقديري، فبحزب وحيد أو بدونه، لا شيء يبرر مُصادرة الحريات العامة و خرق ما نسميه اليوم بحقوق الإنسان، فالقمع القاسي الذي نزل في مصر على جميع المعارضين: ليبراليين، وفديين، شيوعيين و إخوان مسلمين، كان غير مقبول بالنسبة لي، خاصة و أن التعذيب، بكافة أنواعه لم يكن الاستثناء في معسكرات الاعتقال. و هكذا كتبت «لوموند» في بداية الستينات، عن وفاة مثقفين من الطراز الأول تحت التعذيب ، تعرفتُ عليهما شخصيا بالقاهرة خلال سنوات شبابي و هما شخصان كنتُ مُعجبا بهما كثيرا: فريد حداد أو «طبيب الفقراء» الذي كان واحدا من زملائي في الدراسة الثانوية و شهدي عطية الشافعي الذي التقيته حين كان رئيس تحرير أسبوعية «الجماهير». و كان شهدي، و هو أستاذ للغة الانجليزية، الذي فتن بشخصيته و ذكائه الكثيرين، قد لعب دورا كبيرا في الحركة الشيوعية. و من سُخرية الأقدار أنهما قُتلا تحت أيدي جلاديهما في حين لم يكن أي منهما مُعاديا للناصرية.
كُنت سارحا في ذكراهما حين استُقبلتُ من طرف محمد حسنين هيكل غداة عودتي إلى القاهرة، في يونيه 1963. فخلال مأدبة العشاء التي نظمها على شرفي في سطح سميراميس، و هو فندق فاخر على ضفاف النيل، حرصتُ على أن أُبدد أي غموض قد يعتري علاقتنا الوليدة، فشكرته على الدعوة التي و جهها لي و التي أتاح لي من خلالها فرصة العودة إلى مسقط رأسي في ظروف مُختلفة تماما عن الظروف التي قادت إلى منفاي. كما عبرت له عن امتناني لحصوله على موافقة مبدئية من الرئيس عبد الناصر لتخصيصه مقابلة مع «لوموند»، و هو امتياز لا يمنحه الريس إلا نادرا.
و مع حديثي ،عرضا عن أخلاقيات المهنة التي أنضبط لها بكل دقة، كنت أُفهمه بأن الصديق الذي كُنته لن يكون بدون شروط، و أني سأنشر بعد عودتي لباريس سلسلة من المقالات التي لن تروقه ربما، و لكنها ستعكس بنزاهة آرائي الخاصة، و هي آراء تختلف عن آرائه و عن آراء القادة المصريين.
استقبل هيكل، و هو إنسان بالغ اللباقة، رسالتي في البداية باشمئزاز مُستغرب، ثم بدا لي بارتياح مصطنع. فيما بعد أوضح لي لطفي الخولي، الذي كان حاضرا معنا، بأن مدير الأهرام يفضل التعامل مع رجل ذي قناعات، أكثر من غيره، و لو كان لا يُشاطره الرأي، كان يعتبر أن الانتقادات الصادرة عن حسن نية من طرف ملاحظ ذي مصداقية، من شأنها أن تخدم النظام الناصري أكثر من أمداح صحفي خدوم. فهذا الصحفي الخبير، الذي يعرف الصحافة الغربية جيدا، لم يكن ليصدمه تشددي.
و هكذا أثرت دون تحفظ الموضوع المُحرم، ضمن مواضيع أخرى،حول قمع معتقلي الرأي مشيرا إلى أني أفكر في طرحها على الرئيس خلال المقابلة التي سيجريها معي. و لأني أعرف أن هيكل سيُبلغها لعبد الناصر، أضفتُ أنه من وجهة نظر الرأي العام العالمي ? و الفرنسي فيما يخص جريدتي ? فإن معسكرات الاعتقال تحجب المظاهر الإيجابية لسياسة الحكومة المصرية. لم يفُت هيكل، ملاحظة هذا التحذير الضمني، فاكتفى بابتسامة غامضة.و بعد سنوات عديدة، علمت أن هيكل كان يُشاطرني الرأي سرا...
الحلقة المقبلة:
جمال عبد الناصر (2)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.