يترتب عن المقدمات التي سطرنا، ضرورة الاتفاق في البداية على تصور محدد لسياق الحدث، ضرورة تحديد المنطلقات والمبادئ العامة المساعدة في عمليات تشكله واستوائه. وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نتقدم في مناقشة التدخلات التي تروم التفكير فيه، وتُرتِّب ملامحه العامة إما في أفق تكريس التبعية الحاصلة، تبعية الأنظمة العربية لخيارات ومواقف سياسية محددة، وإما في إطار التأشير على ممكنات الاستقلال والإصلاح والتقدم. وفي قلب ما سنقوم بتوضيحه في هذه الصفحات، ينبغي عدم إغفال أن التدخلات المتواصلة في مستوى التحليل والموقف، تندرج بدورها في باب الخيارات المتداولة بحسابات سياسية واستراتيجية محددة. إن الثورات كما نتصور ونفترض، لا تستعمل أسلحة واحدة، وبعض الأسلحة المستخدمة اليوم في الانفجارات العربية الجارية، تعد في نظرنا أمضى من أسلحة الدمار الشامل المفترض حصولها، ذلك أنه في الكثير من الحالات يكون الخوف من الموت أبطش من الموت. سنركب في المحور الأول من ورقتنا العلامات الكبرى للانفجارات التي حصلت خلال سنة 2011 في أغلب المجتمعات العربية، وأطاحت برؤوس أنظمة سياسية معينة، وسنعتني أساساً برصد بعض أمارات التآمر في الحدث. صحيح أنه لم يكن هناك وضوح في عمليات التشخيص، كما لم يكن هناك اتفاق، ولكن الدارس المعاين يدرك منذ البداية أن المتابعات التي حرصت على فهم ما يحصل أصبحت بدورها جزءا منه، مثلما تحولت شبكات وقنوات الإصلاح الناقلة لمظاهراته جزءا منه، ومن صور التأثير المستخدمة في رسم ملامحه، الأمر الذي عقَّد الحدث وحوَّل صورته من النسخة إلى ما يكاد يعادل في بعض الأحيان وفي بعض المشاهد الأصل، أي حوَّل ما يجري فعلاً إلى نُسخ لا أصول لها، فأصبحنا أمام معارك لا ندري متى بدأت ومتى ستتوقف. اختلطت الأمور في الميادين وفي دوائر القرار، وأصبح يصعب فرز ملامحها وعلاماتها، كما يصعب ضبط سجلاَّت العلل والمعلولات والداخل والخارج. وننتقل في المحور الثاني من عملنا، لبناء جملة من المعطيات النظرية التي ستتيح لنا التمهيد لكيفية من كيفيات تجاوز التفكير اعتماداً على الثنائية المعتمدة في الانفجارات المتوالية في البلدان العربية خارج منطق الضحية وما يتصل به من نعوت كالمسكنة والقدرية، ذلك أن الثورات في التاريخ مؤامرات ومناورات، ومفردات من قبيل الاستقلال والتبعية في صيغة السؤال قد لا تكون كافية للإحاطة بما حدث ويحدث، إن ما يجري اليوم في سوريا يضيق بها إلى حين. إن الفاصل بين حدود المؤامرة وحدود الفعل الذاتي في الثورات العربية، يكاد لا يرى، بحكم أن الأحداث الثورية في التاريخ، تتسم بكثير من الاختلاط، إنها تتعين بجملة من العوامل الدولية والإقليمية والمحلية، كما ترتبط بسياقات التاريخ الذاتية والموضوعية، وتتصل بالاستراتيجيات التي تحسب حسابات الراهن والمستقبل، ودون إغفال مقتضيات المصالح ممثلة في النفط ومجسدة في إسرائيل وحسابات أخرى إقليمية. لكن ألا تعتبر الحالة المختلطة في لحظات اندلاع الثورات في التاريخ ظاهرة عامة؟ قبل الجواب عن هذا الاستدراك، لنقدم محاولات في التشخيص المساعد على إدراك ما حصل. أولا : في التشخيص الأولي لبعض أمارات الحدث لنبدأ بتقديم الخطوط العامة لسردية المؤامرة، وذلك اعتمادا على المعطيات التي استوعبها كتاب صدر مؤخراً عن المركز الفرنسي للبحث في المخابرات، تحت عنوان الوجه الخفي للثورات العربية. ينصب الحديث في الكتاب المذكور، عن الأدوار السرية للوسائط الإعلامية وبعض الدول العربية والغربية، في ترتيب جوانب من آليات تبلور الثورات العربية والمسارات التي تلتها. صحيح أنه بعد صدور الكتاب، برزت أدوار أخرى لم تكن ملامحها واضحة تماماً، من قبيل التطور الذي عرفه الموقف الإيراني مما جرى ويجري في سوريا، ومواقف حزب الله ثم مواقف إسرائيل، وهي أمور لا نجدها في هذا الكتاب، وقد اكتفى معدوه بالتركيز على المراحل الأولى لتبلور الحدث السوري. يوجِّه الكتاب اتهامات صريحة إلى وسائل الإعلام الدولية، التي تعمل على تعميم وقائع مختلفة عما يجري في ميادين المواجهة بين الأنظمة العربية ومعارضيها. وقد توقف الكتاب أمام الأدوار التي لعبتها قناة الجزيرة في مجال توجيه الأحداث والوقائع الصحيح منها والمركَّب في إطار مواقف محددة. يستعرض الكتاب مواقف دول الخليج من الانفجارات التي اندلعت وتواصلت في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، كما يوضح جوانب من مواقف الغرب وأدواره في كل ما حصل، ليقف بعد ذلك أمام الموقف التركي والجزائري، محاولا كشف بعض الخفايا التي ساهمت في منح الانفجارات العربية حدودا معينة. ومن خلال المعطيات التي يستوعبها، نقترب أكثر من مواقف السعودية وقطر، كما نتبين بوضوح مواقف الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبريطانيا، الأمر الذي يكشف قوة التدخل الغربي في توحيد كثير من مسارات الأحداث في الثورات العربية، ويكشف في الآن نفسه، حدود النخب السياسية العربية في صناعة استقلال الحدث، حتى عندما تختلط فيه المصالح ويصعب الفصل بينها، كما يضع اليد على التحالفات الحاصلة والمرتبة بحساب حيث تصبح المؤامرات وهي جزء من العمليات الجارية في قلب الثورة مرتبة ومركبة. يدرك الفاعل السياسي العربي أن الانفجارات العربية تستجيب لسياقات تاريخية محددة، إنها تندرج ضمن أفق يروم الإصلاح السياسي الديمقراطي في المجتمعات العربية، إلا أن المحاور الإقليمية والدولية مَعنيةٌ بدورها بما يجري، بحكم أنها مَعْنِيةٌ بمصالح بلدانها في البلدان العربية مشرقا ومغربا، إنها تحرس مكاسبها ومصالحها. ويفترض في الفاعل السياسي الذي يتطلع إلى التحرر والاستقلال، أن يدبر علاقاته مع الأطراف الإقليمية والدولية بحسابات المصالح وموازينها في عالم متغير. وفي سياق عرض مؤشرات التآمر والمؤامرة، نقترب من مفارقة وصول الإسلام السياسي إلى السلطة، في أغلب البلدان الذي اندلعت فيها الانفجارات الاحتجاجية، ذلك أن هناك من يرى أن كل ما حصل في العالم العربي، رُكِّب في إطار مؤامرة رتبت ملامحها في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا، وحصلت بتواطؤ جهات عديدة، في إطار ما عرف بحاجة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان. وضمن هذا السياق، يتحدث البعض عن اللقاءات التي أقيمت في الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 2004، وقدمت فيها مجموعة من البرامج والدورات التكوينية الموجَّهة للشباب العربي، بتمويل من الإدارة الأمريكية، ومن بعض الشركات الخاصة، مثل غوغل، وذلك بهدف توفير تدريبات مكثفة للشباب في موضوع كيفيات استخدام الأنترنيت، وبناء أشكال من التبادل الشبكي التفاعلي، قصد التنسيق والتشاور، لتعبئة الجماهير واستقطابها، من أجل التجمع في حركات غير عنيفة، للمطالبة بالحرية والديمقراطية. إلا أننا نرى أن العناصر التي يبرزها هذا الموقف، تظهر الطابع المؤامراتي والإرادوي الموجِّه لما حصل ويحصل. مغفلةً أن ما حصل، وإن كان يمكن أن يفهم في علاقته بالمصالح الخارجية، ومقتضيات التعولم الجارية، كما طورتها تقنيات المعلومات، إلا أن هذا الفهم، يقلل في نظرنا، من شأن الفعل الذاتي، الذي أنجزه المتظاهرون والمحتجون في الساحات العمومية، داخل الحواضر والبوادي العربية. ولعله يغفل أيضا أن مطلب التغيير، يندرج ضمن الطموحات القديمة والجديدة في الآن نفسه، للنخب السياسية وللمثقفين الملتزمين بقضايا مجتمعهم. وأن أي حديث عن تربص الآخرين بنا، ينبغي أن نلح فيه على ضعفنا، لا على قوة من نعتبر أنهم يتربصون بنا، لعلنا نقترب أكثر من رصد عِلَلِنا، فنتخلص منها. لنتابع التشخيص المعتمد على بناء معطيات محددة في باب رصد التآمر، فهناك من يرى أيضا أن دول الخليج ساهمت وتساهم في تدبير المؤامرة الجارية، وأن إيران شريك مخاصم لها، بل هناك من يعتقد أن دول الخليج تريد وأد الديمقراطية في العالم العربي قبل ولادتها، وتسليم السلطة لقوى محافظة تعيد الزمن إلى الوراء، كما أن إيران لا ترى في سوريا إلا فضاء لتوسيع نفوذها ونشر دعوتها الإيديولوجية. ويبدو لي أننا عندما نعاين ما يقع في سوريا، نجد صعوبة كبيرة في التمييز بين حدود المؤامرة والفعل الذاتي، نُقرُّ بشرعية الموقف الذاتي في الانتفاض على النظام، ولكننا نقر في الوقت نفسه باختلاط الأوراق. وإذا كانت الكلفة الاستراتيجية والإنسانية المترتبة عن الصراع في سوريا تتصاعد باستمرار، ليس فقط بالنسبة إلى السوريين، لكن أيضا بالنسبة إلى مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية في المنطقة، فإن التدفقات البشرية على الحدود تسبب خطورة أمنية، وتضاعف من عدم استقرار المنطقة العربية، وفيها كما نعرف كثير من الحلفاء والشركاء، إسرائيل والأردن وتركيا والعراق ولبنان.