يثير موضوع الثورات العربية بين الاستقلال والتبعية مشاكل عديدة، إنه يشير من جهة إلى سؤال ليس من السهل الإجابة عنه، في الوقت الراهن على الأقل، حيث لاتزال الثورات العربية وتداعياتها متواصلة. وهو يحيل ثانية، إلى نمط من أنماط تعامل الفكر السياسي العربي مع القضايا العربية والدولية، وهو نمط يعتمد بطريقة ميكانيكية مجموعة من الثنائيات الجاهزة، الأمر الذي يتطلب في نظرنا إنجاز عملية مُركَّبة، أثناء التفكير فيه والإجابة على التقابل الذي تستوعبه صيغته. تحدد العناصر التي اختصرنا في هذه الفقرة البراديغم المهيمن على كثير من التحليلات والمواقف، التي تعنى بفهم كثير من الظواهر في المجتمع العربي، وهي عناصر تعمم في الأغلب الأعم، دون مراعاة الجدليات التاريخية والسياسية المعقدة، التي تستوعبها الظواهر في التاريخ. لنبدأ التفكير فيما يحيل إليه الموضوع، أي في المضمرات المستوعبة في مفرداته، يتعلق الأمر بالثنائية التي تجعل الذي يفكر فيه مضطرا للتعامل معه، انطلاقا من تقابلات مقررة سلفاً. وهذا الأمر يكشف أن السائل ينتظر من المجيب أحد أمرين لا ثالث لهما، في حين أن إشكالات التاريخ والسياسة والثورة أكثر تعقيدا مما نتصور. وبناء عليه، نحن مدعوون لركوب طريقة أخرى في التفاعل معه، من قبيل القيام بمحاولة التفكير في السؤال نفسه، بهدف بلورة مساع أخرى في النظر موصولةٍ به قصد تفكيكه، إن لم نقل قصد التخلص منه والتحرر من بعض حدوده، وتركيب ما نعتبره البدائل المناسبة لمقاربات تُسهِّل إمكانيات إدراكه بصورة أفضل. إن ما يخفيه السؤال هو حرص السائل على ربط الذات بالآخرين، الاستقلال بالتبعية، ربط الفعل والمُنجزِ الثوري بالتدخل الخارجي، وقس على ذلك، حيث يمكن عرض ثنائيات أخرى متداولة في هذا الباب، ومطابقة في الأغلب الأعم للثنائية الظاهرة في السؤال، وذلك من قبيل الداخل والخارج، الإسلام والغرب، العروبة والصهيونية، إلى غير ذلك من السرديات التي استأنس بنسج وإعادة نسج خيوطها أجيال من المثقفين والسياسيين العرب. تبدأ الحكاية بالتلويح بالمؤامرة الخارجية، ومنحها أسماء حركية متعددة، ثم إعلان خيانة القائمين بها وضلوعهم في التهييء للاختراق الأجنبي. وعندما يتواصل الطابع الملحمي للانفجارات التي ملأت كثيرا من الميادين والساحات العمومية في أغلب البلدان العربية، كما هو عليه الحال في انفجارات 2011، يتم إخراج بطاقة الصراع المذهبي والطائفي والقبلي الحاصل أو المفترض الحصول، وإغفال ملامح الفعل الاحتجاجي المُوَاطِن، وما يرتبط به من توجهات إصلاحية، سياقها مؤكد في تاريخنا المعاصر. فننسى في غمرة ما جرى ويجري أن للحكاية تأثير كبير ومرغوب فيه، من أجل التمكن من تحويل النظر عن جوانب بعينها في الحدث، نحو جوانب أخرى يراد لها أن تكون وراء الحدث. إن صعوبة النظر في حدث الثورات العربية، يقتضي عدم التعامل بإيجابية مطلقة معها، أي مع ما حصل في تونس ومصر، وما حصل ويحصل في ليبيا واليمن وسوريا ، ذلك أنه بجوار الفعل التاريخي، المندفع والصانع للحدث المزلزل لقواعد الطغيان، تبقى جوانب عديدة مليئة بالألغام والألغاز، من قبيل نوعية التدخل الذي تمارسه التفاعلات القومية والإقليمية والدولية على الحدث وعلى طبيعة تحوله. كما تبقى أمامنا في قلب أمكنة الحدث المرسوم في جغرافيات، وإن تباعدت بينها المسافات، فقد وَحَّدتها الأنظمة والهزائم. يبقى أمامنا وسط كل هذا الفعل في لحظات تشكله، جثث الضحايا وتخريب المنشئات، إضافة إلى النتائج الآثار التي تنشأ عن تعميم أشكال جديدة من الفوضى، من قبيل حصول انكسارات عميقة في لحظة معينة من التاريخ، انكسارات لا يمكن الادعاء أبدا بسهولة لملمتها، وربطها بأفق واضح في التحول التاريخي، القادر على تركيب الطموحات، التي حملها الذين كانوا يرفعون أصواتهم بنداءات التغيير والحرية والكرامة والعمل. ينبغي التسلح في تصورنا بفضيلة الاحتراز في لحظات متابعة ما جرى ويجري، وفي أفق هذا الاحتراز ينبغي احتضان الحدث والانخراط فيه، وإعادة تأسيسه عند تجاوز عتبة بدايات سقوط النظام، ذلك أن إسقاط النظام، تليه مرحلة إعادة تأسيس البديل التاريخي المأمول، إعادة تركيب شرعية دستورية جديدة، والانطلاق في بناء مشروع التحديث السياسي والإصلاح الديمقراطي. ويكون الاحتضان في تصورنا ببلورة الأسئلة والاحتياطات السياسية التاريخية، التي تسمح ببناء أفعال قادرة على تحصين وتطوير ديناميات وأفعال التغيير الجارية. 2- نتجه في هذه المحاولة إلى إنجاز جواب يروم إعادة النظر في صيغة الموضوع، وذلك بالوقوف على تداعيات الثورات العربية وأسئلة الراهن العربي. تستوعب محاولتنا وضع اليد على إشكالات نظرية ومنهجية محددة، بعضها موصول بقضايا كتابة تاريخ الراهن، حيث تتداخل العوامل وتختلط، ويصعب فرزها في أزمنة تواصل أفعال الثورة وتواصل حضور ملامح الأطوار الانتقالية الحاصلة بعدها. ونواجه في الوقت نفسه، وأثناء التفكير في بعض أبعاد السؤال، ما يمكن أن نسميه الأوجه الخفية والمطموسة للانفجارات التي عرفتها بعض الميادين العربية. لا يمكن أن ندعي في سياق كل ما سنقوم به في هذه المحاولة، أننا سنفك طلاسم وألغاز الانفجارات التي ملأت فضاءات بعض الساحات العمومية، بل إن الهدف المتوخى من ورائها، هو المساهمة في تحصين الفعل الثوري العربي، وربطه بصورة قوية بالأفق الإصلاحي الديمقراطي، باعتبار أنه شكل ويشكل في تصورنا الخلفية المرجعية الصانعة بصُوَّر مختلفة لجوانب من الحدث ومن مكاسبه، ما ظهر منها وما يظل في حاجة إلى معارك أخرى لتتم عمليات إتمام حصوله. ننطلق في هذا العمل من الإقرار بصعوبة الموضوع، بحكم أنه يندرج في إطار تركيب تاريخ الراهن في جريانه، حيث تظل كتابة تاريخ الراهن كما يعرف المختصون من الكتابات المحفوفة بالمخاطر، بحكم أنها تواجه كما أشرنا آنفا، أحداثا في طور التشكل، الأمر الذي يتطلب الاستماع المتواصل إلى وتائر إيقاعاتها، ويتطلب في الآن نفسه، الانتباه إلى تداعياتها ومختلف ما تُولِّده من نتائج في الحاضر وفي المستقبل، كما يقتضي تعليق بعض الأحكام إلى حين التحقق من عمليات الفرز التي ستحصل لاحقا. وعندما يتعلق الأمر بحدث مماثل للانفجارات الميدانية التي ملأت الميادين والساحات العمومية العربية في مطالع سنة 2011، تزداد المسألة صعوبة، بحكم أن هذه الانفجارات وبالصورة التي تبلورت بها في المجتمعات العربية، تستدعي كثيرا من اليقظة، في النظر إلى أنماط تشكلها وأشكال تطورها وتوقفها، كما تتطلب كثيرا من الحيطة لحظة معاينة ومتابعة التحولات، التي تلتها في أغلب البلدان العربية. نسلم في ضوء ما سبق، بصعوبة إنجاز أبحاث بخلاصات ونتائج نهائية في موضوع الثورات المذكورة، كما نسلم بأن أي انخراط في تعقل ما جرى ويجري من أحداث في المجتمعات العربية، منذ اندلاع هذه الانفجارات، يمارس بدوره أشكالا من التموقع السياسي في قلبها، وذلك حتى عندما يدعي صاحبه الحياد والموضوعية.ونتصور رغم كل الصعوبات التي أشرنا في الفقرات السابقة إلى بعضها، لزوم مواصلة مزيد من فحص مختلف أبعاد ما حدث، ذلك أن بناء مقاربات متنوعة، يراكم في تصورنا، ما يسمح بتعقل كثير من سمات الثورات العربية ومستقبلها. 3- نعدد من بين المداخل التي تتيح الإحاطة بالحدث في جريانه وغليانه، المتابعة الحَدثيَّة التي تروم توصيف معطيات ما حصل، وبحث أسبابه ونتائجه، وهذه المقاربة يفترض أن تُركِّب الأسباب القريبة والبعيدة لما جرى ويجري، ولا شك أنها تضعنا أمام أوجه وتمظهرات الحدث، وخاصة عندما تجتهد في النظر إليه ضمن السياقات الموصولة به، وتعمل من جهة ثانية على تركيب معطياته في إطار ما تفترض أنه يماثله من أحداث حصلت في أزمنة وأمكنة قريبة أو بعيدة عنه، ذلك أن الأحداث في التاريخ وإن اختلفت، وتنوعت، تظل بينها وشائج من القربى، وعلامات من التشابه والاختلاف، تمكِّن الباحثين من الاقتراب منها بصورة تساعد على الفهم والمقارنة. وقد لاحظنا في غمرة متابعتنا للحدث وللقراءات التي تلته، طغيان المدخل السياسي على المقاربات التي حاولت تعقل ما جرى في المجتمعات العربية سنة 2011. ومما ساعد ويساعد على سيادة المقاربة السياسية المباشرة للحدث وتداعياته، أن الأحداث التي حصلت أطاحت بأنظمة سياسية معينة، ففي أغلب الندوات والمؤتمرات والكتب الصادرة بعد الحدث هنا وهناك، تحضر المقاربة السياسية أولا، وبجوارها وفي قلبها نعثر على مقاربات اجتماعية أو اقتصادية، ولكن المقاربات الأخيرة تكتفي في الأغلب الأعم بتتميم المقاربة السياسية. وهناك مقاربة ثالثة، حصل استبطانُها جوانب منها في المقاربة الأولى، يتعلق الأمر بالمدخل الاستراتيجي، الذي يفكر في الثورات العربية في علاقتها بدوائر الصراع الإقليمي والدولي، ويسعى لتعقل أحداثها ضمن دوائر التشابك المتعولم في عالم يتغير. نتبين في أغلب المقاربات نوعا من الاتفاق على أن ما حصل يعد نتيجة لعقود من الجبروت، الذي حوَّل الأنظمة السائدة في أغلب البلدان العربية، إلى أنظمة غير قادرة على مغالبة درجات الفقر والتهميش، التي لحقت بها. إضافة إلى استشراء الفساد والبطالة وعدم القدرة على النهوض والتقدم. ومقابل كل ذلك، أشار بعضها إلى المؤامرات والدسائس التي تحاك ضد هذه المجتمعات، وترهن مستقبلها بالتبعية وما يترتب عنها من استغلال لثرواتها ومخزونها النفطي، الأمر الذي يكرس استمرار تخلفها.