رأى أنّ موقف سارتر من الصراع العربي الإسرائيلي جزء من عار «الرأي العام الغربي» على خلفية علم الاجتماع، ابتكر المفكر المغربي الراحل نبرته التي مزج فيها السوسيولوجيا بأسئلة اللغة والهوية والرواية والنقد والفلسفة. المختارات التي جمعها مواطنه عبد السلام بنعبد العالي تحت عنوان »نحو فكر مغاير«، مناسبة لاستعادة تلك الأسئلة العابرة لزمن كتابتها في إطار تقويض المعارف الثابتة نصياً وفق رؤية جديدة ووعي فكري مغاير لما عهدته معظم الكتابات العربية، أنجز المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي (1938 2009) العديد من المؤلفات التي تضمنت قراءات جريئة وإشكالية في الرواية والنقد والفكر والثقافات الشعبية والشفوية، وابتكر نبرة تمزج بين الظواهر التي تقرأها وإخضاعها المستمر لاختبارات القراءة ذاتها. كتاب »نحو فكر مغاير« الذي وزعته مجلة »الدوحة« مع عددها الجديد، فرصة لاستعادة أجزاء من مسيرة وتجربة المفكّر وعالم الاجتماع الذي استثمر إقامته بين عالمين ولغتين في كتابة العديد من المؤلفات القائمة على زاوية نظر منحرفة عن السياق العام مثل »الذاكرة الموشومة« (1971)، و»صور الأجنبي في الأدب الفرنسي« (1987)، »الرواية المغاربية« (1993)... يتضمن الكتاب (ترجمة وتقديم عبد السلام بنعبد العالي) قراءة عميقة لعدد من القضايا التي تناولها عبد الكبير الخطيبي، أبرزها علاقة الصهيونية باليسار الغربي، معتمداً على ما سمّاه »النقد المزدوج«. وينقسم إلى قسمين: الأول عن »المغرب أفقاً للفكر«، والآخر »الصهيونية واليسار الغربي«، وهو القسم الذي يشغل الجانب الأعظم من الكتاب، ويناقش موضوعات »الوعي الشقي وشقاء اليسار«، و»دموع سارتر«، و»هل ماركس مناهض لليهود«، ساعياً إلى تحليل مواقف اليسار الغربي، وخصوصاً الفرنسي من »الصهيونية«. رغم وصف الخطيبي لاستراتيجياته بأنّها »مادية النزعة«، فإنه لم يكن ينغلق داخل العقيدة الماركسية. سريعاً، سلّط عليها سلاح النقد الذي رفعته شعاراً عبر تحولها التاريخي، معتقداً أنه ينبغي »مساءلة الماركسية كنسق، لأنها لا تعدو أن تكون نسقاً من الأنساق في مجموعه وكبريات تناقضه. نعني أيضاً في إرادة قوته التي واكبت التوسع الاستعماري« بحسب الخطيبي. لا يعني ذلك أن يكيل للماركسية »التهم«، بل يطالب بأن »نبعد الاعتراض الذي يختزل فكر ماركس في التمركز العرقي، فمن يستطيع أن ينكر أنه كان ضد الاستعمار والإمبريالية، وأنّ فكره قدم خدمات إلى العالم الثالث لإطاحة الإمبريالية وقوتها المحلية؟ الأمر يتعلق باعتراض آخر ناحية ماركس، اعتراض على إرادة القوة التي تريد توحيد العالم حسب نسق عالمي«. وبالتالي، فالرؤية التي سعى إليها الخطيبي ليست ماركسية بالمعنى الضيق، ولا ضد الماركسية بالمعنى اليميني للمصطلح. ويخلص صاحب »النقد المزدوج« إلى التباس موقف ماركس من »اليهود«، ف»إذا عمّم نظريته حول الصراع الطبقي، فإنّ الأقليات ستخضع هي أيضاً لجدل التاريخ، فداخل الأقلية اليهودية كانت هناك فوارق، وبورجوازية، وبروليتاريا، وقد هاجم ماركس النظام البنكي والتجاري الذي كانت تهيمن عليه هذه البورجوزاية«، ما يعني في نظر الخطيبي أنّ »ماركس خان هذه الأقلية، مهاجماً إياها بعنف، الأمر الذي لا يعني أن المفكر الألماني كان معادياً لليهودية، فهجومه عليها كان من أجل تقويم نزعة إنسانية شاملة كما يقول بعض الماركسيين اليهود أمثال إسحق دويتشر«. وفي ما يخص موقف سارتر من الصهيونية، رأى صاحب »الاسم العربي الجريح« أنّ موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي هو جزء من عار »الرأي العام الغربي«. ويرى الخطيبي أنّ الفيلسوف الوجودي أفصح باستعجال عن رأيه في »الصراع«، مشيراً إلى ازدواجية موقفه، »مساندة إسرائيل والفلسطينيين في الوقت ذاته«، ما يعني معاناته تجاه القضية من تمزق وانزعاج شديدين، ويصف الخطيبي ذلك الموقف ب»الحياد الكاذب«. ويثبت المؤلف في نهاية تحليله أنّ موقف سارتر المحافظ هو موقف »صهيوني مشروط« قبل أن يستدرك أنه لا يطالب رائد الوجودية بأن يكون فلسطينياً، بل إنّه يعاين فكره السياسي، ويفضح بعض تناقضاته. التفكيك هو الأساس المرجعي الذي تنبني عليه كتابات الخطيبي، وإن لم يُشر صراحة إلى استراتيجيات التفكيك، مفضّلاً الإشارة إلى »السخرية« باعتبارها طريقه »لفضح تناقضات نص ما«، وهي السلاح النقدي الحاد، ونقيض العقيدة والفكر الوثوقي. والسخرية كأداة كشف عن التناقض النصي، واستيطان »الميتافيزيقا« داخل الخطاب هي سمة »تفكيكية«، وخصوصاً أن جزءاً كبيراً من نتاج التفكيكية انصب حول هذا المحور، وبدت المدارس السابقة في نظر التفكيكية خلفية تستحق السخرية الدائمة. ووفق رؤية الخطيبي، فإن السخرية ليست أداة منهجية تفرض على الموضوع، بل إنها من صميم إنتاج النص ذاته، فهي تعني الأخلاق والأيديولوجيا اللتين تطبعان النص. وبطبيعة الحال، فإنّ »السخرية خلخلة مستمرة للوجود».