نظمتْ مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» للدراسات والأبحاث، طيلة يومي السبت والأحد المنصرمين بمدينة المحمدية، ندوة فكرية بعنوان «الدين والثقافة: الواقع والآمال»، حضرها ثلة من المفكرين والمهتمين في العالم العربي. وكان هدف هذه المؤسسة، التي تسهم في خلق فضاء معرفيّ حرّ ومبدع لنقاش قضايا التجديد والإصلاح الديني في المجتمعات العربية والإسلامية، هو إعادة طرح مسألة التجديد الديني في العالم العربيّ اليوم في ظلّ المستجدات التي يعرفها، وفي مقدّمتها هذا الحراك العربيّ ضد التسلط والاستبداد، وما ترتّب عليه من صعود الإسلاميين إلى الحكم، وانتشار ثقافة التقليد والمحافظة. من هنا قدّم التونسي صلاح الدين الجورشي تشْخيصا عن الوضع العربي، من خلال حالة تونس. وهو وضع صعد فيه الإسلاميون الذين باتوا يتنازعون فيما بينهم عن الحقل الديني، مما أدى إلى الفوضى الدينية، وإلى غياب التماسك والانسجام في خطاب هذه الحركات التي لم ترتق إلى مستوى تكوين مدارس فكرية جديدة، بقدر ما بقيت تيارات سياسية ونسخا مشوهة عن الفرق الإسلامية القديمة. فضلا عن كونها تعيش أزمة كفاءات وأطر، لأن رهاناتها انتخابية لا غير، ولا تؤمن لا بالديمقراطية كآلية وكمنظومة، ولا بالحريات الفردية، وبالتالي لا نعرف إلى أين تتجه هذه التجارب. هذه الثقافة الدينية المتهالكة هي التي وقف عندها الباحث التونسي عبد المجيد الشرفي مبرزا أنّ ما يُنتج وما يُذاع عن هذه الثقافة في الإعلام والصحف والمجلات يعكس انتشار ثقافة دينية شعبية محدودة. وهي نتيجة لعوامل أبرزها عجز الثقافة الدينية العالمة، عند شيوخ الأزهر والزيتونة والقرويين الخ عن مواكبة العصر وتجديد الخطاب، وكذا تجذّر الحركات الإسلامية السياسية التي بات يتواجد في صفوفها أطباء ومهندسون ومحامون وأطر دولة قلّما تجد من بينهم المتمكّن والمؤهل للحديث باسم الإسلام. هم مجموعة أطر ليس لها تكوين جامعي متخصص، وهم يشتركون في هذه السطحية مع التلاميذ الذين يتلقون في المدارس تعليما دوغمائيا منغلقا يقدم لهم الدين على أنه مجموعة من الحقائق الثابتة والأحادية والمتفق عليها. وهو الوضع نفسه الذي جعل الباحث العراقي عبد الجبار الرفاعي يشدد على ضرورة إعادة النظر في تأطير وتكون الدراسات الإسلامية، لأننا اليوم مسكونون بهاجس التراث الذي نعتبره كاملا ونهائيا ومثاليا. لذلك يعيب الشرفي على تعليمنا في العالم العربي كوْنه غير أمين في نقل ما يحفل به التراث الديني الإسلامي من تعدد وانفتاح. كل هذا يؤدي إلى الفقر المعرفي في شؤون الدين، وإلى التعصب والانغلاق وخلق حواجز تحول دون تبني القيم الكونية الحديثة، ومن أهمها: الحرية والمساواة، كما يؤدي إلى انفصام الشخصية في صفوف العديد من الشباب بالخصوص. وفي هذا السياق عاد السوري هاشم صالح إلى كتابات محمد أركون التي تدعو إلى الاطلاع على الأديان الأخرى، وتحرير الوعي الإسلامي، والعودة غلى تدبّر القرآن من خلال ما سماه «آيات الانفتاح» داخله. من هنا انطلق المغربيّ محمد سبيلا، في عرضه حول «التقليد والحداثة» من قراءته لكتابات الإيراني داريوش شايغان، لإبراز كيف أنّ التقليد والحداثة يتشابكان لخلق أساطير تتغذى على استيهامات تخيلية اصولية في العودة الى الجذور العتيقة. ومن ثمّ فإنّ سؤال انحطاط الوعي الاجتماعي للمجتمعات التقليدة وصدمة الحداثة، يطرح رؤيتين مختلفتين: الرؤية الأولىتتمثل في توسيع إطار الحضارات التقليدية، أو ما يسميه شايغان «التجمع الروحي الواحد» حيث ان الحضارات الاسلامية والهندية والصينية تتميز بتجانس بنيوي في التجربة الميتافيزيقية، ويعتمد هذا التجانس على منهج مقارن يرتكز على ما يعرف في مجال الفلسفة (ب المماثلات التناسبية). أما الرؤية الثانية فهي اعتماد رؤية حضارية شاملة للثقافات الشرقية والغربية ،لأنّ الحضارة كل ممفصل لا يتحمل أي فرز. فالأجزاء لا تتحرك بمعزل عن الكل، وهذا الكل له منطقة الخاص وقانونه ومقولاته ومفاهيمه، ندرك ان خطاب الحضارات التقليد يضع نفسه دائما ضمن سيرورات الاجابة ليشكل حضور مستمر ضمن المشاغل الكونية. فالحضارات الاسلامية تحاول اسلمة مفاهيم الحداثة وإدخالها ضمن الفضاءات الاسلامية وقد وصف شايغان هذه الاشكالية المعقدة (الاسلام هو الذي يحاول ان يدخل في التاريخ ليقاتل الكفر. ولعل هذا ما جعل الباحث الأردني فهمي جدعان يرسل إشارات واضحة مفادها أنّ الدين حالة وجدانية ومعرفية يطبعها تعدد طرق الإيمان وطرق التصديق، داعيا في الوقت ذاته إلى اعتبار أنه كلما كان هناك «عقل» و»عدل» فثمّ شرع الله، لأن قيمة العدل هي رأس القيم وصمّام الأمان. وتعميما لهذا المبدأ، وقف كل من اللبناني هاني فحص والعراقي خزعل الماجدي عند ضرورة النظر إلى الدين من زاوية رحبة لا تعتبر الإسلام، مثلا، ديانة خارج التاريخ وخارج الديانات التوحيدية الأخرى. والحل، كما يقول فحص، هو خلق دولة مدنية تعتبر المواطنة هي الأساس. المواطنة هي أن تتحول الأرض التي نقيم عليها إلى وطن، والإنسان إلى مواطن، استنادا إلى دستور وقانون على أساس المساواة في الحقوق والواجبات.