المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    مقتل 66 شخصا احتراقا في تركيا إثر حريق في فندق    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    تركيا تعلن 66 قتيلا في احتراق فندق    الدفاع الجديدي يقيل مدربه زكرياء عبوب بعد توالي النتائج السلبية    شباب الريف الحسيمي يعيد الأشهبي لعارضته الفنية متأملا الصعود للقسم الوطني الأول    هوامش الربح تتحدى التقلبات.. كيف حافظت شركات الوقود في المغرب على أرباحها رغم انهيار الأسعار الدولية؟    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    الاتحاد الوطني للشغل: مشروع قانون الإضراب يعكس رؤية "الباطرونا"    بأكادير.. أخنوش يترأس افتتاح مصنع سيشغل 3 آلاف شخص وتوقيع اتفاقية إحداث الميناء الجاف    تداولات الإفتتاح ببورصة البيضاء    برنامج Go سياحة.. عدد الطلبات التي وافقت عليها وزارة السياحة بلغ 531 ( عمور)    إقليم الحوز: السلطات تتوعد المتلاعبين بحقوق المتضررين في إعادة الإعمار والتأهيل    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    العمراني : المغرب يؤكد عزمه تعزيز التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تنصيب ترامب    بلقشور يكشف عن أزمات الأندية المغربية وخطط العصبة لتطوير كرة القدم الوطنية    وزراء الحكومة يفرجون عن جميع "تفويضات كتاب الدولة" بعد طول انتظار    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    برادة يطلق الدعم التربوي في فاس    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    رفقة كلامور.. فضيل يطرح جديده "فاتي" بستايل رومانسي    "حماس" تستعد لمبادلة 4 إسرائيليات    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    توقيف 4 أشخاص للاشتباه في تورطهم في حيازة والاتجار في مسكر ماء الحياة بآيت ملول    وزير العدل الفرنسي يعلق على اعتقال "القط" من طرف السلطات المغربية    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    توقيف البطولة إلى غاية إجراء مؤجلات الجيش الملكي والرجاء البيضاوي ونهضة بركان    دوري أبطال أوروبا.. مبابي يبدد الشكوك قبل المواجهة الحاسمة لريال    فضيحة في كلية العلوم بالرباط.. حكم يدين أساتذة جامعيين في قضية تشهير ومس بالحياة الخاصة لنساء    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    مباحثات بين الرباط وإسلام أباد لتعزيز العلاقات الأمنية بين البلدين    كيوسك الثلاثاء | الحكومة تفتح الطريق أمام "TGV" عبر نزع ملكية 21 قطعة أرضية    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    وزارة الاقتصاد: "التسوية الضريبية الطوعية" ساهمت في خفض نسبة عجز الميزانية    فرض رسوم جمركية على المنتجات المستوردة من كندا والمكسيك ب25 بالمائة ابتداء من 1 فبراير( ترامب)    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    المغرب يطالب باحترام هدنة غزة    الحكومة تعلن عزمها توظيف 1840 عونا إداريا ناطقا بالأمازيغية هذا العام    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    ياسين العرود: قائدٌ واعدٌ لرؤية اقتصادية جديدة في شمال المغرب    اختتام ملتقى الدراسات بالخارج وممثلو الجامعات والمعاهد.. يؤكدون نجاح الدورة الثالثة    باكستان تبحث تعزيز التعاون الأمني مع المغرب في مكافحة الإرهاب    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" بستايل رومانسي رفقة سكينة كلامور    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. 116 وفاة و25 ألف إصابة ودعوات لتحرك عاجل    تنظيم أول دورة من مهرجان السينما والتاريخ بمراكش    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    فريق كوري يبتكر شبكة عصبية لقراءة نوايا البشر من موجات الدماغ    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاطعُ من قصيدة ممكنة الحدوث بيروتُ سِرٌّ يكمنُ في الشِّعر الذي يُدثِّرها

مِن باب مَطار رفيق الحريري رأيتُ بيروت ملفوفةً برداءٍ غُباريٍّ يميلُ لونُه إلى الحُمرة، كَما لو أني أقْرأها في «كِتاب الحصار».
«جبلٌ مسقوفٌ بالضبَاب:
رجلٌ يُغامرُ.
غابةٌ مسقوفةٌ بالضبَاب:
امرأةٌ تحلمُ...».
كأن المطار حين حطت بنا الطائرةُ فيه، كان خارجَ بيروت المدينة.. هل نسيتُ لحظتها أن كل المطارات تكونُ على عتبات حُدود مُدنها؟ هل نسيتُ، أيضا، أن الغرابةَ تبدأ حين يَغشانا الضوءُ أو حين ينسدلُ حجابُ الغُبار على الكَون؟
نسيتُ... ولكني لم أنسَ أن المدنَ تقومُ (أو تنهضُ) على الدم، وبيروت كما هي في مُخيلتي تسري في شرايينها دماءُ أديمهَا. قلتُ، وأنا أغضُّ الطرْف عن تعليقاتِ من معي: سأخترقُ هذا الغِشاءَ الغُباري، وأدخلُ بيْروت وأنا مترعٌ بالضوء الأرجُواني.. لستُ طيفا ولكني خيطُ ضوءٍ، لا هُو يَشعُ بالأزرقِ ولا هُو يَضُوءُ بالأحْمرِ...
****
مِن نافذة شقتي، في الطابق الثاني عشر، بفندق «أرجان روشة من روتانا»، ألقيتُ التحية على البحْر الأبيضِ المتوسط، وإذا بأصواتٍ بعيدةٍ تتناهَى إلى مَسامعي: الأذانُ يَختلط بقرع الأجْراس... وتذكرتُ أني لمحتُ، حين كانَ الميني بَاصْ يخترقُ بنا شوارعَ بيروت في اتجاه الفُندق، مسْجداً ذا قُبة عَظيمةٍ تَغْفُو بِجانبيها قُبتان صَغيرتان، والكلُّ مُسيَّجٌ بأربعِ مآذنَ سَامقاتٍ في اتجاه السماء (قيل لي في ما بعد إنه مسجد محمد الأمين)؛ وبعد هنيهة: ها هي كَنيسةٌ شاهقةٌ على طراز الفن الروماني نابضةٌ بالحياة (عرفتُ في ما بعد أنها كنيسةُ مَارْ مَارون).. وتساءلتُ: هل تعيشُ بيروت، فِعلاً، على إيقاعٍ تناغُميٍّ في أجْواء تَعدد الأديان والطوائف، أم أن الأمرَ مُجرد وَهْمٍ قائمٍ على سَطْحِ الثَرى والبَحرِ؟
ومن شرفة الشقة تساءلتُ أيضا: هلْ هذه الصخرةُ الثاويةُ على مَرأى شاطئِ المتوسطِ سَتُسِرُّ لي بلغزِ غُصة الشُعراء على هذه المدينة؟ ذلك لأن سِرَّ المدينة يَكمُن في الشعر الذي يُدثِّرها.. وَمِن «مديحِ الظل العالي» جَاءني صوتُها:
«بحرٌ لأيلولَ الجديد. خَريفُنا يدنُو من الأبواب...
بحرٌ للنشيدِ المرِّ. هيَّأنا لبيروت القَصيدةَ كُلها...».
****
صخرةُ الرُّوشة. ما هذا الاسْمُ الغريبُ الذي لا مَعنى له في لِسان العَرب؟ هل لهُ معْنى في لسَان العَجم؟ قِيلَ: إن كلمة «رُوشَة» يكمنُ أصلها في الكلمة الأرامية «رُوشْ» التي تعني «رأس». وَقِيلَ أيضا: إنها فقط تعريبٌ لكلمة La roche الفرنسية التي أطلقها الفرنسيون أيام الانتداب على المنطقة التي تُطل على الصخرة البحرية الكبيرة. وتناهَى إلى سَمعي أنهم يُنادونها ب «صَخرةِ الحُب» أو «صَخْرة الانتحار» لكثرة ما جرى على الألسن بأن العُشاق الفاشلين كانوا يصْعدون إلى قمتها ويرمون بأنفسهم في البحْر.
تَشُدكَ الصخرةُ وشقيقتُها الصغرى، وتَتملى طويلاً في الفجْوة التي تخترق الكُبرى.. وعلى امْتداد الكُورنيش مقاهٍ مُتناثرة هي بالنسبة لأهلِ بيروتَ، وغيرهم من الوافدين، لحظةُ استراحةٍ وإمعانُ بَصَرٍ في هُدوء مياه البحرِ الأبيضِ المتوسِط.
وعلى امتدادِهِ، أيضاً، أطفالٌ يمُوتون من أجل كِسرة خُبزٍ، قالوا إنهم جَاؤوا من «دَرعا» هَاربين من خَرابِ الأرض ومن طُوفَانِ الدَّم.. أطفالٌ على وجُوههم غبارٌ، كأنهم خَرجُوا للتو من نَحْرِ آبائهم وعَويلِ أمَّهاتهم.. أطفالٌ كَفروا بالأرضِ وبالسَّماءِ.. أطفالٌ شَحُبَ في عيونهم تاريخُ الوطن حتى صَاروا أسمالاً تتلاعبُ بها رياحُ المتوسط، تشمُّ فيها رائِحة الحَريقِ، يَأكُلُها الليلُ ويلفُظُها النهارُ.. أسمالٌ، خَارجَ التقْويم، مُعلقةٌ في حَبْلِ الهَواء، لا أظُنها إلا دماً يقطرُ من يَدِ الغيْب...
****
وأنا أدخلُ شارع «الحمْرا» من الغرب، قادماً إليهِ من البَحر الأبيضِ المتوسطِ، قلتُ: هل سيكونُ يَومي أليفاً بما سأراهُ، أمْ سَيكُون غريباً بما سَأفاجَأ به؟ وتصَادتْ في رَأسي كلماتُ الشاعر أدونيس:
«لكنْ، ما هذا اليومي الأليفُ في بيروت/ النص؟
هُو ما نحنُ غالبا. في العملِ والفتراتِ التي لا عملَ فيها. في السهرِ وفي النومِ. في الشارعِ والمقهى. في كلِّ ما يتصلُ بالعَالم الشخصيِّ الحَميم. هُو، باختصارٍ، كلٌّ منا في وضعهِ العادي الخاص..»..
هل سَأعلنُ حبِّي على «الحمرا» وعلى «بيروت»؟
وَحْدهُ المطرُ كان رَفيقي في الطريق.. رَذاذهُ مُوسيقى والجَسدُ يخْطُو راقصاً... وبدأتُ شيئا فَشيئا أرَى الجَمال.. وأرى رعبَ الجَمال، ذاكَ الذي رآهُ الشاعر راينيه ماريا ريلكه في طَريقهِ إلى القصيدةِ. وبدأتُ أنظرُ إلى مُضَاعَفِي في المرايا التي تَعكِسُني وتعكسُ المارين أمامَها والجَالسين خَلفها. أنظرُ الأجسادَ: هَذه رِيتا، وذاكَ محمُود درويش.. هَذه مَيْ زِيادة وذاكَ جَبران خليلْ جبران.. هَذه هِيلين وذَاك يُوسُف الخَال.. هَذه خَالدة سعيدْ وذَاك أدُونيس.. هَذه فيرُوز وذاك عَاصي الرحْباني.. هَذه غَادة السَّمان وذاك غسَّان كنفاني.. هذه كَارِي وهذا أنا... وكَم كنتُ، ولاَ أزالُ، مُغرماً بها.. كمْ صِرتُ متعَددا في شارع الحَمراءِ.. صرتُ ما كنتُ أريدُ أن أكُونه وما كنتُ أريدُ أن أصِيرهُ... عِشرون سنة.. ثلاثون.. أربعُون سنة، وأنا أقْرأ بيروت.. وهَا هِي الآن أمامي، أتمزقُ مَشياً وشَوقاً فِيها...
****
كنتُ على وَشْكِ إغْماضَةِ العيْنِ حين طَالعَتْني: واجهاتٌ زُجاجيَّةٌ تَعرض أحدث الألبِسة الرجالية والنسائية.. مُجوهراتٌ باهضةُ الثمن.. صَيَارِفَةُ العُملات.. أنواعُ هَواتف محْمولةٍ تَخلُب العين.. مقاهٍ أنيقةٌ على الطريقة الأوروبية.. حاناتٌ في «الحمرا» وفي الشوارع الجانبية (سأعود إلى واحدة منها).. مطاعمٌ فاخرةٌ (أُكلاتٌ متباينَة من الشرق والغَرْب وآسيَا...).. محلاتُ السندويتشات والمنَاقيشِ والفَلافِل (دخلتُ فورا وأكلتُ سندويتش فلافل).. مانيكاناتٌ فاتنةٌ في ملابسَ داخليةٍ شفافةٍ وملونةٍ، للذكر مثلُ حظِّ الأنْثى.. مَكتباتٌ تعرضُ مجلات وكتباً بالعربية والفرنسية والأنجليزية (سألتُ عن «جَسَدْ»، قيلَ لي إنها توقفت ولم تعد موجودةً).. خليطٌ من الجنسيات والألسن.. امرأةٌ في مقتبل العُمر تحملُ طفلاً تَقْرصُه تَستجْدي ببُكائِه العَابرين.. سياراتٌ فاخرةٌ.. طاكسياتٌ غير مُوحدة اللونِ والنوعِ.. ضبابٌ أكادُ ألمحُ عبرهُ أفقاً للغياب..
توقفتُ بين مُفترقي «الحَمْرا» و»جانْ دَاركْ» تاركاً العينَ تأخذُ لقطةً طويلةً.. وفجْأةً امتلأتُ بقصيدةِ «الجِسْر»، وتَراءى لي الشاعر خَليل حَاوي يُطلُّ من بَلكُونة شُقته قائلاً:
«سَوف يمضُون وتَبقى
فارغَ الكَفَّين، مصلوباً، وحيدْ...».
ثُم انتبهتُ إلى نَفسي، وقلتُ: هلْ هذا هُو شارع الحَمْرا، أم أني كُنت أحلمُ مشياً وشوقاً وأنا جَالسٌ في حَانة «بيديفير» في شارع جانْ دَاركْ؟
****
«لِتسقُطِ العليَّةُ وتهلكْ. الرِّيحُ سترحمُنا،
والطارقُ سيُجالسنا. جائعٌ هو إلى الخبزِ، وظامئٌ
إلى عَتيقِ الخَمر».
مَقْطَعُكَ الشِّعريُّ هَذا يا يُوسُف الخَال لا يَشيخُ ولا يَهْرمُ، تَماماً مِثلَ الخُبْزِ والنَّبيذ، مِثلَ مَقطع هُولدرلين:
«لِمَ الشعراءُ في الزمن الضَّنين؟
لكنهُم مثل كَهنةِ ربِّ النَّبيذ المقَدَّسين،
يعْبرونَ في الليل المقدس من بلدٍ إلى بلدٍ...».
وفي مَطعم وحَانة «بيديفير» شربتُ الجِعَّة والنَّبيذ. الفضاءُ أليفٌ حَميمٌ، كأنه كَانَ في مكانٍ قصيٍّ بداخلي وخَرج. النادلُ والنادلةُ لا تُغادرهما الابتسَامةُ ولا يُغادرهُما الشَّوقُ لتلبية طلباتِ من جلسُوا ومن جلسْنَ في الخارج. الكُونطوار، في الداخل، دائرةٌ يتوسطها شاب في مقتبل العمر، شكلهُ وملامحهُ يُشبهان شكلَ وملامحَ «بيديفير»، أحد فُرسان المائدة المستديرة في فِيلم «الملك آرثر» لأنطوان فُوكْوا.
كمْ جميلٌ هذا الضوء الخافت في الداخل! وكمْ جميلةٌ هذه الأجسادُ الأنثوية الناحلة! الفِتنةُ تضُوءُ في العيون، والشفاهُ تَترنَّمُ المُوسيقَى.. كلُّ جَمال الدنيا تَجمَّع في هذا الخِدْرِ البِيديفيرِي.. الأسطوانةُ تدورُ، والآذانُ تصغِي.. الخمرُ يُراقُ والكؤوسُ مصابةٌ بالعَطشِ.. وحينَ التفتُّ يميناً لمحتُ نِرمين تَرمُقني بعينين كحِيلتين بالشوقِ لتلبية ما أريد. ودون أن أعي، أو دون أن أدْري، قلتُ لها بِلسَانِ الخَالْ:
«نحنُ نعيشُ أو نموتُ
وهَذه السُّفوحُ
كالنَّهدِ ساعةَ السُّكوتِ
يَعلُو
ويحلُو معهُ النُّزول».
****
في بيروت انْكشفَ لي بعضٌ من سرِّ الإله.. انكشفَ في اللحظة التي كنتُ أمشِي في «الحمرا» حَاملاً في يدي اليُمنى كأسَ «جين»، وكان المطرُ خفيفاً هادئاً يتهاطلُ عَلى الأجْساد.
أيُّ معنىً للإلهِ إذا لم يتجلَّ جمالاً وينْضَحَ عِطراً في جَسد هذه المدينة؟
كُنتُ أمْشي واحداً متعدداً، قريباً بعيداً، صاحياً منتشياً، مؤتلفاً مختلفاً، حاضراً غائباً، قابضاً باسطاً، صارخاً هامساً: يا لجَمال المطرِ يُداعب وجهَ هذه الأنثَى! يا لرُعبِ القَصيدة!
توقفتُ لحظةً، كأن يداً ربتت على كَتفي، وقلتُ مُحاكياً أدونيس:
«لا تحيَا بيْروت إلاَّ إذا أعادتْ بناءَ الأرضِ».
وَجاءتِ الأرضُ تبحثُ عن ملاَمحِ وجْهها.. كأنَّها طفلٌ خرجَ من «أنشُودة المطر»:
«... باتَ يهذِي قبلَ أن ينامْ:
بأن أمَّه - التي أفاقَ منذُ عامْ
فلم يَجدْها، ثم حِين لَجَّ في السُّؤال
قالُوا لهُ: «بعد غدٍ تعودْ..»
لا بُد أن تَعودْ...».
ومن حَولي كانت الوجوهُ تدخلُ وتَخرجُ من «الحَمْرا»: وجوهُ «جانْ داركْ» تُلقي التحية على وُجوهِ «مَقدسي»، وُجوهُ «إميل إدي ليون» تُصافحُ وجوهَ «بَعلبك»، وجوهُ «ألفريد نوبل» تدخلُ لتصلي معَ وجوهِ «مارْ بُطرس وبُولس»... وتناسلتِ الوجوهُ في الدخولِ والخُروجِ حتى شُبِّهَ لي أني قِناعٌ في»كرنَفال دي فِينيسيا»: ها هُو عرضُ «موكبِ الملاك»، وهَا هو «مَوكبُ الماءِ الصامتِ»، وها هِي «آنْيِيس» تخرجُ عارية من مَلابسها في موكب احتفائي بالجسدِ الأنْثوي في «أَمُورُزَا» مَيْ زيتيرلينْغ...
وقرأتُ أني سأسيرُ في الأرضِ دهراً باحثاً عن جَمال هو «الطريقُ والدليلُ».. وأني سَأمْخرُ البحرَ دهراً باحثاً عن «سمكةِ المُهرج»، كُلما مددتُ يَدي إليها تعددتْ ليختفي أصْلها في غيبِ العماء ناثراً شقائقَ النعمان عطراً يفوحُ في بَشَرَةِ جِسْم الماء...
****
الآن، ولهيبُ الجنوبِ يَهُبُّ على الغربِ يكادُ يغشى بَصري، أذكرُ مَغربَ ليالي مُنتصفِ سَبعينيات القرنِ الماضي، حين كنتُ أقرأُ كُتب مَارون عَبود: «مغاورُ الجِن»، «الأخرسُ المتكلمُ»، «الأميرُ الأحمرُ»، «قبل انفجارِ البركان».. وميخائيل نُعيمة: «كرمٌ على درب الأوثان»، و»البيادر»، و»في مهب الريح»، و»اليومُ الأخير»... لا، لم أعُد أذكرُ كم كنتُ أقضي الليالي ساهراً رفقةَ أرواحِ جبران خليل جبران المتمردة وعرائسِ مُروجهِ ومَجنونِه الذي كان يسيحُ في «حديقةِ النبي» على أنغامِ «أعْطني الناسَ» و»سَكَنَ الليل»...
مِنَ النسيان تجيءُ مِزَقُ الذاكرة لا تكادُ تَبِينُ حتى تَحملَها الريحُ، هناكَ، إلى غيمةٍ تُظلل رأسَ الجبلِ و»رأسَ بيروت».
النسيانُ يتوَاطأ مع الحَركة لا مَع السُّكون..
النسيانُ حَلمةُ النهْدِ ونُونُ النبيذ..
النسيانُ عَينُ المعنَى ويَاءُ الوَريد..
النسيانُ وشْمٌ لا يَمحُوهُ الخيالُ..
****
- مَاذا، هلْ سَأودِّع بيروت؟
- لا تركضْ، انتظرْ، ما زال لديكَ بعضُ الوَقت.
استجبتُ للنداء، واستدرتُ. كانتْ نِرمين تبتسمُ، كأنَّها تكتبُ آية القصيدةِ بحبرِ البحر الأبيض المتوَسط، كأنها الأحمرُ النبيذُ يندلقُ من الكأسِ إلى الفمِ العُنقِ الصدرِ السُّرةِ البرزخِ الرعشةِ القبضِ البسطِ... يَختفي الإلهُ وتظهرُ القصيدةُ، لا فرقَ فيهَا بين الذكَر والأنْثى، لا فرقَ أن أنادِم مَيْ أو تُنادِمني جَانْ، لا فرقَ يَجيء إليها إلاَّ منَ الاختلاف الذي يكمنُ فِيها.
- مِن أينَ لي ببساطِ ريحٍ يأخذُ المطارَ بعيداً إلى حِينٍ؟
نِرْمِينُ عِطْرٌ جَاسَدَنِي في رأس بَيروت.. شَمِيمٌ دافئٌ «كحليبٍ بِحلاَوةِ العَسلِ».. رذاذُ مَطرٍ مَمْزُوجٍ بندَى البَحر.. أريجُ «ورْدةِ الجنوب».. رِيقُ «زَهرةِ نبيذِ بَالدِيني المحبوبة»...
وَفي طريقِ عَودتي إلى الفُندق،
كان مَطرُ الغُروب يَرْشَحُ من جَسدها، يُدثرني، يكادُ يُنسِيني أنها لا تزالُ تصحُو وتنامُ على أنين جِراحِ جَسدها الآخر..
وكان صوتُ نِرمين يخرُج مُبلَّلا برُضابِ النبيذ:
«وحين أموتُ خُذوا جَسدِي
ولا تَدفنوه
لئلاَّ يقومَ مع الفَجر يوماً
ويكشفَ سرَّ الإلهْ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.