ماستر المهن القانونية والقضائية بطنجة ينظم دورة تكوينية لتعزيز منهجية البحث العلمي    "سبيس إكس" تطلق 21 قمرا صناعيا إلى الفضاء    "حماس": منفذ الطعن "مغربي بطل"    الكاف : المغرب أثبت دائما قدرته على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة يقلب الطاولة على بنفيكا في مباراة مثيرة (5-4)    الحاجب : تدابير استباقية للتخفيف من آثار موجة البرد (فيديو)    ارتفاع عدد ليالي المبيت السياحي بالصويرة    "البام" يدافع عن حصيلة المنصوري ويدعو إلى تفعيل ميثاق الأغلبية    كأس أمم إفريقيا 2025 .. "الكاف" يؤكد قدرة المغرب على تنظيم بطولات من مستوى عالمي    ربط كهربائي ومعبر جديد.. المغرب وموريتانيا يرسّخان جسور الوحدة والنماء    افتتاح قاعة رياضية خاصة بأسرة الأمن الوطني    المغرب يواجه وضعية "غير عادية" لانتشار داء الحصبة "بوحمرون"    تركيا.. ارتفاع حصيلة ضحايا حريق منتجع للتزلج إلى 76 قتيلا وعشرات الجرحى    التحضير لعملية "الحريك" يُطيح ب3 أشخاص في يد أمن الحسيمة    لمواجهة آثار موجات البرد.. عامل الحسيمة يترأس اجتماعًا للجنة اليقظة    استياء بين طلبة معهد الإحصاء من تعطل معدات الوقاية من الحرائق واحتجاج على صمت الإدارة    الحكومة: سعر السردين لا ينبغي أن يتجاوز 17 درهما ويجب التصدي لفوضى المضاربات    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الانخفاض    تركيا.. يوم حداد وطني إثر حريق منتجع التزلج الذي أودى بحياة 66 شخصا    وزارة التربية الوطنية تعلن صرف الشطر الثاني من الزيادة في أجور الأساتذة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مطالب في مجلس المستشارين بتأجيل مناقشة مشروع قانون الإضراب    اتخاذ إجراءات صارمة لكشف ملابسات جنحة قطع غير قانوني ل 36 شجرة صنوبر حلبي بإقليم الجديدة    رئيس مجلس النواب يشارك في اجتماع مكتب الجمعية البرلمانية للفرنكوفونية بفيتنام    توقيع اتفاق لإنجاز ميناء أكادير الجاف    مجلس المنافسة يكشف ربح الشركات في المغرب عن كل لتر تبيعه من الوقود    الدفاع الجديدي ينفصل عن المدرب    اليوبي يؤكد انتقال داء "بوحمرون" إلى وباء    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" رفقة سكينة كلامور    افتتاح ملحقة للمعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة أكادير    هل بسبب تصريحاته حول الجيش الملكي؟.. تأجيل حفل فرقة "هوبا هوبا سبيريت" لأجل غير مسمى    أنشيلوتي ينفي خبر مغادرته ريال مدريد في نهاية الموسم    المجلس الحكومي يتدارس مشروع قانون يتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة    ندوة بالدارالبيضاء حول الإرث العلمي والفكر الإصلاحي للعلامة المؤرخ محمد ابن الموقت المراكشي    المبادلات التجارية بين المغرب والبرازيل تبلغ 2,77 مليار دولار في 2024    الغازوال والبنزين.. انخفاض رقم المعاملات إلى 20,16 مليار درهم في الربع الثالث من 2024    مطالب برلمانية بتقييم حصيلة برنامج التخفيف من آثار الجفاف الذي كلف 20 مليار درهم    تشيكيا تستقبل رماد الكاتب الشهير الراحل "ميلان كونديرا"    انفجار في ميناء برشلونة يسفر عن وفاة وإصابة خطيرة    المؤتمر الوطني للنقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية: "خصوصية المهن الفنية أساس لهيكلة قطاعية عادلة"    العمراني : المغرب يؤكد عزمه تعزيز التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد تنصيب ترامب    في حلقة جديدة من برنامج "مدارات" بالاذاعة الوطنية : نظرات في الإبداع الشعري للأديب الراحل الدكتور عباس الجراري    ترامب يوقع أمرا ينص على انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية    إيلون ماسك يثير جدلا واسعا بتأدية "تحية هتلر" في حفل تنصيب ترامب    ترامب: "لست واثقا" من إمكانية صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    المغرب يدعو إلى احترام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة    الإفراط في اللحوم الحمراء يزيد احتمال الإصابة بالخرف    وفاة الرايس الحسن بلمودن مايسترو "الرباب" الأمازيغي    دوري أبطال أوروبا.. مواجهات نارية تقترب من الحسم    ياسين بونو يتوج بجائزة أفضل تصد في الدوري السعودي    علماء يكشفون الصلة بين أمراض اللثة وأعراض الزهايمر    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تستيقظ المدن إلا في أحلام الشاعرة المغربية نسيمة الرّاوي
نشر في أكورا بريس يوم 31 - 10 - 2012

بقلم: د. فاضل سوداني (العراق) [email protected]
لا تستيقظ طنجة أبداً إلا عندما تدخلها الشاعرة في كل مرة، وهي مثقلة بذاكرتها، ولهذا فإنها تعودت أن تلقيها في الفجر عند أول بحر قبل أن تستيقظ مدينتها .
هنا، وفي ديوانها الأول تربط الشاعرة المغربية نسيمة الرّاوي- وبذاكرة ووعي تجاوز سن العشرين بقليل- تربط البحر بالمدينة والذاكرة، محاولةً تفكيك هذه الرموز الثلاث، حتى تستطيع أن تفهم أو تستوعب تجليات ذاكرتها أولاً قبل ذاكرة البحر أو المدينة، وبهذا فإنها تؤشر لنا تلك الأسرار التي شعرنا بها سابقاً، وأثارتنا من دون أن تشعل في دواخلنا توهج سري.
غلاف ديوان قبل أن تستقظ طنجة
وبعناد واع، تربط الراوي في قصيدتها بين الذاكرة والبحر، والأهم من هذا بين الموت والشعر؛ أو أسرار الموت وأسرار الشعر، وحتى تؤكد هذه المفاهيم؛ فإنها تعلق قصيدتها النثرية على قضبان سياج مقبرة مطلة على البحر، أو تدفنها في رمل ساحل مطل على مقبرة (ذات المعنى) مادام الزمن هو مرآة للموت، والزمن كما هو معروف -نكاية بالإنسان- يولد العدم، أو الخراب الذاتي. لهذا فإنها تحول قصيدتها إلى تعويذة تعلقها نكاية بالزمن والموت، نكاية بالمدينة والبحر، وبهذا فإنها تقرن الموت بالمدينة؛ أي تقرن طنجة الواقعية التي تخنق الشاعرة والإنسان عموما بأشناتها الصخرية كمدينة تخلت عن ماضيها لتتحول إلى مدينة صفيح، ومرتع للتجار والسماسرة.
أما طنجة مدينة الحلم؛ فإن الشاعرة تبحث عنها باعتبارها ماض حلمي شفيف يغزو الشعراء دائما. وفي هذه المدينة بالذات، تبحث الشاعرة عن ذاتها، كما بحث الكثير من الكتاب والشعراء الذين عبروا طنجة للبحث عن ذواتهم.
” أهدهد أوجاعي على سرير الروح
بالحلم، لا بالنسيان،
طنجة لا تنسى وضع ذاكرتي في سلتها،
كلما نزلت إلى البحر ..”
وبالرغم من أن طنجة هي مدينة الشاعرة، إلا أنها ما تزال تشعر بغربتها وبهاجس من الشجن، وهذا واضح من ديوانها الذي يضج بقصيدة نثرية قصيرة مكثفة، ومؤسلبة وسريعة الإيقاع قريبة من قصيدة الهايكو ..
وطنجة الحلم، لا يمكنك أن تعبرها دون أن يعترضك بحرها، بل دون أن يصبح هو ذاكرتك؛ فيغزوك من جميع الجهات. والبحر يختلط بالذاكرة، فتصبح جميع الأشياء الحاضرة ومعها أشياء الماضي أكثر وضوحاً وصفاءً وشفافية ً.
وفي ديوان الشاعرة نسيمة الراوي، يضج الماضي بالبحر والمدينة، فيصبحان هما الحاضر الذي يستجلي ذاكرة الشاعرة، أو لنقل أنه يستجلي أشياء البحر وأشياء طنجة في ذات الوقت. ولكن ما الذي يحدث في لحظة امتزاج الظلام بخيوط الضوء الأولى، تلك التي يتهادى الفجر فيها غازياً الظلام البهيم ليتجلى للشاعرة “قبل أن تستيقظ طنجة”، مالذي يثير الشاعرة في تلك اللحظة؟ وهل المدينة التي تستيقظ هي طنجة الواقعية أم طنجة الحلم؟ و هل تحاول الشاعرة اقتناص الماضي قبل أن تستيقظ المدينة؟ وهل الماضي هو أسرار البحر والمجهول أم أسرار المدينة؟.
ونسيمة الرّاوي شاعرة منهكة بذاكرة أربعة وعشرين ربيعا ً ممزوجة بهموم ذاكرة مدينة، تطل على بحر غريب هو خليط من المتوسط والأطلسي. فلو تمعنا في العناوين التي اختارتها الشاعرة لقصائدها، لاكتشفنا بأنها أسماء لمدن عبرتها الريح فلم يبقى منها إلا الصدى، أسماء مدن متشابهة حتى وإن اختلفت في روائحها، وكلابها السائبة التي تعودت التجوال ليلاً في شوارعها الخلفية. فلكل مدينة عبقها الخاص الذي لا ينسى أبداً؛ لأنه أريج الماضي المتراكم الذي ينبعث فجراً بعد أن ينسحب المتعايشين من شوارعها ليركنوا للنوم، عندها ستغمر رائحة الماضي مفاصل المدينة وسترقص جميع الأشياء حافية حتى لا تستيقظ المدينة من نومها المتكاسل والخفيف. إذن ما الذي يحدث قبل أن تستيقظ طنجة ؟؟.
سؤال يضج في دواخلنا، ولا يمكن الإجابة علية إلا إذا فهمنا قصيدة نسيمة الراوي؛ إذ يجب أن تكون المدينة هي آخر الحلم حتى تستطيع الشاعرة أن ترى انبلاج الفجر الذي يلقي بخيوطه الفضية في شوارعها.
وما يمنح هذه المدن وجودها المكثف، هو أن ذاكرتها تختلط مع البحر-وذاكرة الشاعرة- الماضي- وتلك الأسرار الشعرية التي تتراءى لنا كإيقونات تشكل حلم الشاعرة، وحلم المدينة في الآن ذاته. وهذه الإيقونات الشعرية، هي التي يجب أن نوجد لها علاقة مترابطة فيما بينها، وبالتالي علاقتها بذاكرة الشاعرة. فهل هناك علاقة بين البحر (المجهول) وماضي المدينة؟ أو بينهما وبين الذاكرة الحلمية للشاعرة ؟؟ يبدو لي ذلك، فمن أجل كل هذا قسمت الشاعرة ديوانها إلى فصلين:
أولا – قبل أن تستيقظ طنجة.
ثانيا – البحر أسطورة زرقاء.
وبالتأكيد هي تعي العلاقة بين أسطورة البحر الزرقاء وبين طنجة، الماضي الحالم .
في القسم الأول تناولت القصائد مدن متشابهة فيما بينها مثل طنجة، أصيلة، ريو دي جانيرو وغيرها من المدن التي عاشتها الشاعرة، فرسخت في ذاكرتها، وهي مدن بحرية عادة. أما القسم الثاني فقد شكلت الشاعرة علاقة بين لوركا والغجر والمدينة؛ أي بين الشاعر المستباح ومدنه المستباحة مع تطور جزئي، هو أن علاقة الشاعرة بالمدينة أصبحت علاقة شعرية فيها الكثير من التشفي، مادامت المدينة تمتلك القدرة على أن تُشَيِّءَ الإنسان. وكل هذا له علاقة بالحلم، وأسطورة البحر وسر الموت.
وبما أن البحر يضج في ذاكرة الشاعرة ويحاصرها دائماً مما يضطرها إلى أن تستعير مفرداته مثل: الهدير، المد، الجزر وغيرها، وتربطها بمفردات الذاكرة أو مفردات حياتية أخرى، فيتحول الهدير إلى موسيقى داخلية، والمد يتحول إلى حضور؛ لأنه دائماً يزحف نحو الإنسان، ويتحول الجزر إلى غياب عندما ينسحب البحر إلى الأزرق البعيد الذي هو دائما حالة من حضور المد، وغياب الجزر، بل هو دائما حالة حضور الذاكرة وغياب الحضور.
فعندما تخلق المدن أسطورتها، تحقق حالة من الحضور والغياب في ذاكرة الشعر الذي يعمل على أن يؤشر على غياب الواقع الثرثار، ويخلق أيضا، حضور تلك الأسرار الحلمية التي تحقق أسطورية الواقع؛ أي أن الشعر يحول الواقع والأشياء والكائنات جميعها إلى أسطورة شعرية.
ولا يمكن تحقيق هذا إلا من خلال الموسيقى الداخلية لأشياء البحر والمدينة، حتى تتحقق الذاكرة الشعرية المتعالية، فيستلقي البحر في شرفته ليسمع هدير موسيقاه الزرقاء، ويبقى الحلم في شرفة نومه حتى يوقظه الشعر الذي يمكن أن نفهمه على أنه:
” فراشات صغيرة تعبرُ،
نهرٌ من الشعر ينحدرُ من ذاكرة تتثاءب
عند الشرفة في قميص نومٍ أزرق”
الشعر هنا، يصبح نوعا من الهمس المُتناوَبْ بين البحر وذاكرة المدينة اللذان يحاصران ذاكرة الشاعرة المعبئة بحلم البحر الأزرق أو أسطورته الزرقاء. ويستمر الهدير يلح على الذاكرة، والبحر لا بد أن يلفظ كلمته الأخيرة ويرحل، ليترك ديمومة الأثر للأزرق الذي لا يرحل أبداً؛ لأنه الإحساس الدائم بضغط الأبدية التي هي كالحلم؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يرميها في البحر ما عدا الشاعر فهو القادر على ذلك، ومن ثم يرحل بصمت، لهذا فإن الشاعرة تبحث من خلال ذاكرتها المتعالية عن الأبدية والبحر وحلم المدينة. في هذا الديوان تتماهى الشاعرة نسيمة الراوي مع البحر؛ لأنه يغمر ذاكرتها بزرقته:
” لا يلقي البحر بظله
إلا ليكتبني بالرمل المبلل
أو ببقايا الزبد…
أنا الغجرية التي
يُشهر سكان البحر
قيثاراتهم
في وجه كعبها
كلما على الشاطئ
رَقَصَتْ…
كلما على الشاطئ
لم ترقص .. “
وتتماهى الشاعرة أيضا مع الطبيعة ومكوناتها وأشيائها ومظاهرها، التي تأتي إليها مبتهجة لتحضنها كأم حنون، مما يدفع الشاعرة أن تباركها بقدسية:
“هو الموج ينحدر دفعة واحدة ً
لأنه يعلم أني على الشاطئ “
أو
“ الليلُ
حتى الليلُ
من رواد البحر
لكنه ينسى شمسيته
دائماً “
فكلما اقترب الإنسان من الطبيعة كلما صار أكثر شاعرية، ونسيمة الراوي كشاعرة مفتونة بالبحر والطبيعة، فإنها تمنحها صفاتها الإنسانية والشعرية، ولا تتوانى أن تجعلها صنواً لها مادامت هي أيضاً تمتلك شاعريتها، وبالتالي قادرة على أن تغني ذاكرة الشاعرة فيصبح البحر حالماً والليل مسكوناً بملائكة الشعر وطنجة لا تتودد للغرباء لكنها غارقة بالفطرة بذلك الحنين إلى الماضي، وأشياءها تثقل ذاكرة الشاعرة. و في اللحظة التي تبارك الشاعرة فيها مدينتها تمجد في ذات الوقت بحر اللؤلؤ والمحار الذهبي. فالبحر هو الأبدية يصبغ البشر بألوانه الشفافة، لِيُغّرِق الشعراء بذاكرته حتى يتحول إلى رمز خالدٍ.
وفي الفجر تتراءى طنجة كغجرية مجنونة ترقص عند حافة البحر لا تسعها الأكوان، تهيم هناك لا تبحث عن جثة شاعرها فحسب، بل جثة شاعر الغجر الإسباني الذي قتله الغزاة البرابرة هناك، والمقابر الجماعية مازالت تحت البحر، وتبدو كمدن اغتالها البحر ذاته.
وفوق ساحل البحر وعند حافته بالذات ترقص الشاعرة الغجرية، التي تتمنى أن يغتالها هو وتصبح جزءاً من غنائمه، لهذا فإنها ترن له بخلخالها لتوقظه، وتوقظ معه الموتى والأحياء؛ ومن بينهم يقوم لوركا من رقاده ليبدأ رقصة الغجري -التي أثارت البرابرة – في شوارع المدن المستباحة، وطنجة كمربية له ستدعوه بحنان.
ويدور لوركا كشاعر طنجة (الذي فقدناه) خائفاً حافياً في شوارع الطمأنينة، تحيطه مجموعة من الراقصين الغجر، وهم ينقرون دفوف الجنون. لكن المدن المستباحة تغتال دائما الشعراء الغرباء الذين يهيمون بلا أوطان، لكنهم عند جرف البحر يعرفون كيف يواسونها بدهاء.
وعندما تسقط السماء ملتصقة بالبحر يغرقان في اللانهاية المحتومة، والشعر دائما ستكون له علاقة باللانهاية عندما يشعر بها الإنسان. إنه هوس عميق وغريب ولا محدود لنهايات الأشياء، إنه زمن الصفر الذي تتجلى فيه الرؤى الشعرية؛ فيتماهى فيها الشعراء الغجر مع الموت في ذات اللحظة التي يعزفون فيها موسيقاهم للبحر.
استخدام الأشياء
في العديد من قصائد الديوان، هنالك تأكيد على وجود الأشياء ككيان مستقل؛ فالشاعرة تحولها من وجودها الواقعي إلى وجودها الصرف المكثف والمفروض.
” هل كان على الريح المثقلة بتباريح الشوق
أن تجرف كل ما يدور ببال الستائر الحمراء؟
في فندق المنزه ..
هل كان على القصيدة أن تخرج للبلكونة ؟
تدخن صورها ..
أو تذيبها قطعة قطعة في الشاي،
ليراني
ويرى فراشاتي .. “
وأمام مرايا طنجة (ذاكرتها) تعترف الشاعرة بأسئلتها المحيرة:
“ … وها رأسي،
مغروسا في الكتف،
سؤال للمرايا:
ماذا أكون لولا انصهار الشكل بالشكل ؟
ماذا أكون لولا هشاشة تتسكع حافية
في شوارع طنجة ؟
ماذا أكون
……؟ “
وبالتأكيد، فإن هذه الأسئلة تقلق المدينة قبل الشاعرة؛ لأنها أسئلة في الجوهر الوجودي تعمق ذاكرة المدينة والشاعرة في آن واحد.
نكاية بالمدينة
والآن لنتناول القصيدة الأهم، وهي”نكاية بالمدينة” مهداة إلى شاعر طنجة منير بولعيش الذي مات بعد إصدار ديوانه الأول “لن أُصدقك أيتها المدينة”، والشاعرة الراوي كانت قريبة من كل هذا، فقدت قصيدتها لتلقيها في ذكراه لكن الحزن تغلب على حنجرتها. ومنير بولعيش شاعر طنجة العصامي، والمتفرد ففي اللحظة التي مسك بها أبدية الشعر في داخله، أدهشنا بديوانه الأول والأخير فرمى ألأبدية في بحر أشقّار، وأنسحب بهدوء وصمت كصمت العظماء كما كتبت الشاعرة، لذا فإنها قررت أن تكمل حلمه:
” أتوسد حلمك لأكمل حلمي
بقصيدة نثر تعلق أبياتها
على سياج مقبرة
نكاية بالموت
نكاية بالمدينة
……… “
وتوسد الحلم، هو تكملة للماضي الذي سيمتد إلى حاضر الشاعرة أو حاضر الشاعر بولعيش، والمقبرة والبحر هو توهم وسر شعري، إذن سيكون الماضي إما توهماً أو سراً، وتتحول قصيدة الشعر إلى قصيدة للماضي، والماضي يتحول إلى قصيدة للحاضر. هذه هي قصيدة الشاعر، وبها تتمايز الشاعرة عندما تكتب قصيدتها بتوهج شعري متفرد. مات منير بولعيش، لكن أشعاره مازالت تتردد في شوارع مدينته طنجة بالرغم من أنه لم يصدقها.
وها هي نسيمة الراوي، تمجد أحلام صديقها الشاعر بقصيدة متميزة، وتجعل من شخصيات قصائده كورس للندب ليس على شاعرهم، وإنما أيضا على مدينته مازجة بينهما وبين لوركا، وكأن طنجة قد سبتهما هما بالذات. شخصيات وأبطال أحبها بولعيش، وأحبتهما بعد ذلك الشاعرة الراوي أيضاً.
فالرافضة ببنطال ممزق، كانت هي الحب الأول والأخير للشاعر واقعاً وشعراً، وكذلك شخصية الهيبي الذي أُصيب بخيبته إبان غزو الهيبين لطنجة في الستينيات من القرن الماضي، لتصبح عاصمة للخيال والشعر، وبالرغم من أنه انتحر إلا أنه أخفى مفتاح المدينة كما مجده بولعيش. وكذلك شخصية مثل الكاتب محمد شكري الذي أيقضه الشاعر بعدة قصائد.. وغيرهم كثيرون، وهم قريبون من الشاعرة ذاتها. وإذا كان منير بولعيش لم يصدق المدينة، فإن نسيمة الراوي تعلن غضبها نكاية بالمدينة، عندما تعلن بأن جبلا من الأحلام والهموم يجثم على قلب الشاعر المنسي، أي هروب “لطنجة العالية”من المشهد البشع، مشهد غريب بطله الشاعر منير بولعيش الذي كان يتنفس فيه أنفاسه الأخيرة، قال: ” أسندوني” ليطل على طنجة من نافذة الشعر العالية، وكانت إطلالته الأخيرة. إذن أي همس روحي شعر به لوركا عندما قال له قاتله “اذهب ” حتى يغتاله من الخلف ؟.أتكون طنجة هي المقبرة الأخيرة لتمرد الشعراء ؟.
وكحلم كان بولعيش ينتظره، تأتي الرافضة ببنطالها الممزق، لتضع بعض من زهور سرقتها من مقبرة الآخرين، لتضعها على شاعر حلم بها يوماً من شرفة مطلة على الأطلسي، وبالرغم من بشاعة المشهد تنتظر الرافضة في المقبرة البحرية. ومن جديد تتلصص الشاعرة على الهيبي الذي تجول في المدينة سئماً بقبعة تستقر في الفراغ؛ لأنه وضع رأسه بين يديه وسار مفتونا ً يسابق حلمه. إنها تحيي تلك الشخصيات التي خلقها بولعيش -في حياته وديوانه- الذي تركناه يجمع الأزهار البرية من مقبرة مولاي بوعراقية، ويعيد المحار إلى أعماق البحر، وهو ينظر إلى ذلك الهيبي الذي أخفى وجه محمد شكري داخل حقيبته، كي لا تتهمه المدينة بأنه داس على الخبز الحافي في زمن الأخطاء، هيبياً له القدرة على المشي فوق الموج أو الغيم:
” ولأن طنجة ليست عالية بما يكفي،
مشى الهيبي على سجادة من غيمٍ”
ولكن الشاعرة الراوي ترى الرؤيا من جديد، وتسمع مطارق غريبة تقترب من طنجة فترى:
” مقبرة تجاور البحر
بالمقبرة عشبٌ يابس ٌ..
من بعيد
أرى سفينة تحمل البحر
صوب المقبرة .. “
وفي الختام أقدم لكم الشاعرة نسيمة الراوي وهي تحمل بعض من أسرار القصيدة النثرية المؤسلبة التي تطمح أن تضع المدينة في زجاجة، وترميها في بحر أشقّار كما رمى الشاعر بولعيش الأبدية هنا، لهذا ستحتفظ الشاعرة بأبدية الشعر في روحها، وهي تسير حافية في مدينة الشعراء. وتبقى نسيمة الراوي تكتب شعرا قريباً من تعاويذ الغجر محاولة بذلك أن تترك أثرها على سطح الموج.
قبل أن تستيقظ طنجة نسيمة الراوي دار النهضة العربية بيروت ، لبنان 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.