اعترف الدستور بسلطة القضاء، مؤسسة دستورية مستقلة مجسدة في المجلس الاعلى للسلطة القضائية، بعد ابتلاع الدولة للقضاء ولقضاته بقصد وبإصرار وبشاعة، وبعناد آليتها السياسية أي السلطة التنفيذية وتدخل وزرائها في العدل، في الشاذة والفاذة من مسارهم ومصيرهم بداية من التحاقهم الى تقاعدهم ، وخاصة لما ولاهم قانون الدولة السلطة المباشرة على جهاز النيابة لعامة، والتاريخ الذي لا ينسى ، يذكرنا كيف استعملت الدولة الضعاف من قضاة النيابة كبيرهم وصغيرهم وكيف استعملت العديد منهم لنشر درجات الرعب والتوحش باسم الأمن والنظام العام، وهي وغيرها لم تكن في حالات كثيرة سوى سترة لاغتصاب القانون والحرية إلى أن أصبحت النيابة العامة قوة ضاربة لكل الاهداف، وأصبحت الدرع القضائي والأمني والسياسي القوي والعنيف للدولة، جفنها يرانا ولا نراه بالليل وبأطراف النهار لا يعرف السبات ولا النوم، وأياديها الممتدة لا تمل من البحث والتحري، تمتد للأفراد والجماعات، في حياة المجتمع بمنظماته وبقبائله وتجمعات طوائفه وتنوع عائلاته وأسره، تستمع لهواتفنا وتلتقط أحاديثنا وتدخل بيوتنا وتخترق حميميتنا وتسجننا وتعتقلنا وتمنعنا من التنقل ومن السفر، وذلك كلما اعتقدت أن لها مصلحة تقدرها لوحدها من وراء ذلك دون رقيب . واليوم، بعد أن قرر الدستور الاعتراف باستقلال القضاء وبوحدة الجسم القضائي دون تمييز بين قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة، ولما أسندت رسميا للمجلس الاعلى للسلطة القضائية مهام التعيين والتأديب والمسار المهني للقضاة ، ولما أعلن الدستور تطليق القضاء من عصمة الوزير طلاقا بائنا بينا، ولما قرر الدستور إبعاد وزير العدل العضو بالحكومة ومسح وجوده من عضوية هذا المجلس لا كوزير ولا كنائب عن الملك، فقد أصبح التساؤل مشروعا وملحا حول الجهة أو السلطة التي سيعهد إليها الإشراف على النيابة العامة، وعلى تطبيق السياسة الجنائية وكل ما له علاقة بالاختصاصات القوية والكثيرة التي يتحملها الوكلاء العامون ووكلاء الملك، كل من موقعه، وكل باختصاصاته وهم عشرات ممن يسمون بالقضاء الواقف رغم أنهم جالسون بمكاتبهم وجالسون لا يقفون حتى وهم بقاعات الجلسات. إن الأنظمة القانونية بخصوص الشخصية التي تشرف على للنيابة العامة بعدد من الدول، ومنها الدول الديمقراطية تختلف، فهناك من المدارس من أعطى للسلطة الحكومية تعيين رئيس النيابة العامة، ومنها من أعطى هذا الاختيار للسلطة التشريعية أي للبرلمان ، ومنها من أعطى للمجلس الاعلى للسلطة القضائية تعيينه، ومنها من أعطى للمجلس الاعلى اقتراحه على الجهة التي تقرر في التعيين، فمن سيتولى تعويض وزير العدل عندنا بالمغرب لمهمة الاشراف على النيابة لعامة ؟ أعتقد أنه من البديهي أن المهمة سيتولاها قاض، واعتقد أن المجلس الاعلى للسلطة القضائية أصبح هو المسؤول دستوريا عن اقتراح القضاة للمناصب التي يتولونها والتي يعينهم فيها الملك بواسطة ظهير. ومن هذه البديهيات والمسلمات، يبدو أن اختيار وتوزيع المسؤوليات بصفة عامة، قد أصبح في ظل دستور المغرب موضوع مساطر ديمقراطية تتم عبر تنافس الكفاءات وتتحكم فيها مقاييس الموضوعية والنزاهة والتجربة، ويبدو كذلك أن الدستور نفسه وضع مسافة بين الملك وبين كل مسؤول لكي لا يتحمل الملك مباشرة مسؤولية الاختيار أو التعيين لا سياسيا ولا قانونيا، ولكي يبقى بعيدا عن الانتقاد أو التأويل النقدي إن كان المسؤول المعين فاشلا في أداء المهام التي تحملها بالتعيين الملكي. وأعتقد أن مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمكوناتها وبتعدد مراكز انحدارهم سواء من القضاء أو من غيره، قد أعطت للملك حق التعيين والاختيار في حدود، وأعطت لقضاة بطبيعة مناصبهم بمحكمة النقض عضوية المجلس، وأعطت لكل القضاة والقاضيات دون تمييز حق الاختيار بالانتخاب في حدود، وأعطت لمؤسسات الحكامة بصفتها تلك موقعا بالمجلس، وبهذا التوازن ، وهذا النوع في التوزيع المهني والسياسي والمؤسساتي، فقد حدد الدستور للملك مجال الاختيار في تعيين خمس شخصيات خارج عالم القضاء، وبالتالي فقد أضحى اختيار رئيس النيابة العامة موكولا للمجلس الاعلى للسلطة القضائية وحده، ولا أعتقد أن الملك في حاجة إلى أن يحمل عبء تعيين لم يحمله له الدستور، ولا أعتقد أن المجلس الاعلى للسلطة القضائية غير قادر على ترشيح من سيحمل قيادة مؤسسة النيابة العامة بعد تداوله في الامر ، ولا أشك أن في وسط القاضيات والقضاة العشرات ممن لديهم الكفاءة في تولي هذه المهمة الشاقة والخطيرة. إن للهيئة العليا دورا كبيرا في تقديم نموذج جديد ليس فقط في اختيار المسطرة الديمقراطية والشفافة لمنصب رئيس النيابة العامة، بل ليتمكن المجلس الاعلى للسلطة القضائية مستقبلا من تحمل مسؤولية حسن أو سوء الاختيار لكل مسؤول قضائي كيفما كان منصبه ، وتحمل المسؤولية في ربط العلاقة ما بين المسؤولية والمحاسبة، وفي حرصها على ترسيخ قيم التداول على المسؤوليات في سقف زمني محدد ولكي لا يختلط عدم نقل القضاة مع استمرار المسؤول في المسؤولية لعشرات السنين، ويتفادى خلق « دولة القضاة « أو «حكومة للنيابة العامة « لا يقدر أحد ولا سلطة محاسبتها تحت ذريعة كون رئيسها معينا من قبل الملك وليس من السلطة التي يتبع لها، أي المجلس الاعلى للسلطة القضائية لا أحد يقدر على الاقتراب منه أو استبداله من غير الملك، لأن التستر وراء الملك في كل شأن أصبح في الكثير من الاحيان مطية وراءها ما وراءها ، فلتتحمل الهيئةالعليا نصيبها من المسؤولية، ولترفع أفق الإصلاحات للأعلى ، لتصبح النيابة لعامة سلطة داخل السلطة وقوة تحت القانون أي مؤسسة مواطنة وديمقراطية.