سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أزمة الجامعة بالمغرب والحاجة إلى تحويلها إلى بنك علمي معلوماتي أكاديمي لمحيطها الشمال إفريقي.. مهم تعلم الدرس من التجارب البرازيلية والتركية والماليزية..
تطرح أزمة الجامعة المغربية إشكالا جديا للتنمية، وأساسا لمعنى تدبير الحكامة في هذا القطاع الحيوي. ذلك أنه منذ حكومة التناوب الثانية برئاسة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، ومنذ مشروع الإصلاح الجامعي، الذي شرع عمليا فيه، بعد نقاشات موسعة مع الجسم الجامعي، في كافة أذرعه، التربوية والعلمية والفكرية والنقابية، على عهد وزير التعليم العالي الأسبق خالد عليوة، والذي دشن عمليا لشكل جديد للتدريس عبر الوحدات وعبر مواءمة التكوين مع سوق الشغل ومع متطلبات التنمية، ضمن استراتيجية شمولية لحاجات المغرب من الأطر في المستقبل المنظور. منذ ذلك الزمن، سجلت تحولات هيكلية في هوية الجامعة المغربية، في أفق منحها الإمكانيات الملموسة، لتكون فعليا «جامعة مواطنة». أي جامعة منتمية لشرط التحديات المعرفية والعلمية والتنموية التي تواجه المغرب بعد 50 سنة من الإستقلال. مثلما أنها تساعد على مصالحة الجامعة، كأرقى فضاء لإنتاج المعرفة العالمة بالمغرب، مع طموحات المغاربة المجتمعية، أي مصالحة الجامعة مع محيطها المجتمعي. من هنا، كان ذلك الإنفتاح على مباحث جديدة، خلقت لها إطاراتها التكوينية إداريا، عبر فتح عدد من المعاهد والمدارس وكراسي البحث المتخصصة، وكذا تحقيق أكبر قدر من الإنصاف المجالي، من خلال فتح كليات ومعاهد عليا عديدة في مدن وجهات مغربية كانت مقصية من البحث العلمي العالي والأكاديمي (لا يزال أمر تأسيس جامعة بأقاليمنا الصحراوية الجنوبية مهما، لأن منافعه التنموية والوطنية جد واعدة). اليوم، تطرح الجامعة المغربية تحديات أخرى، ترتبط بتنويع انفتاحها على محيطها الدولي، من خلال ربط الصلة العلمية ومراكمة الفائدة التقنية، مع اجتهادات أكاديمية عالمية متنوعة خارج المنظومة الفرانكفونية التقليدية، التي على أهمية الشراكة معها علميا وأكاديميا، يخشى أن تكون قد حولت البحث العلمي مغربيا والجامعة المغربية، إلى مختبر خلفي في خدمة استراتيجيات بحثها هي الخاصة، التي لا تتواءم دائما بالضرورة مع حاجياتنا العلمية والأكاديمية. من هنا الحاجة إلى الإنفتاح مثلا، على ما حققته التجارب الأنغلوساكسونية في مجالات مباحث «النانو تكنولوجي» (مثلا تجارب جامعات ومعاهد ولاية كاليفورنيا الأمريكية، خاصة في مجال الأبحاث الدقيقة المتخصصة في صناعة الطيران والتكنولوجيا الرقمية)، وذلك استحضارا لما أصبحت تمثله بلادنا من سوق مغرية مثالية للعديد من الرساميل العالمية في مجال الصناعات المندرجة في باب التقنيات الدقيقة. بدليل اتساع صناعة آليات الطيران المدني بمدن الدارالبيضاء وطنجة، بفضل ما توفره الجغرافية من قرب من السوق الأروبية والأمريكية، وكذا توفر الكفاءات المكونة المتخصصة مغربيا. كما أن من التحديات المطروحة على الجامعة المغربية، توسيع هوامش أبحاثها وتخصصاتها المرتبطة بعلوم الأرض (الجيولوجيا وعلم المعادن)، وكذا مجالات الصيدلة (السوق الإفريقية والعربية)، ومجالات الإتصالات (المغرب له بنية متقدمة إفريقيا). وأن الإستثمار الدولي الجديد في بلادنا، أصبح يفرض توفير كفاءات تقنية عبر مناهج جامعية متطورة، تتوافق وحاجات سوق الشغل، دون التفريط في إلزامية البحث العلمي كاستراتيجية وطنية. هذا واحد من التحديات المطروحة اليوم على الجامعة المغربية، التي تؤكد بالملموس أن الأمر ليس تقنيا محضا، بقدر ما هو مندرج في خيار سياسي منتصر للمصلحة الوطنية العليا في تحقيق وتوسيع أسباب التنمية المستدامة. بما يفرضه ذلك من حماية اجتماعية وعلمية أكاديمية للجسم التربوي الجامعي بالمغرب. من هنا تكامل أذرع المشاريع التنموية والتأطيرية التدبيرية المرتبطة بإصلاح المنظومة الجامعية بالمغرب. ولعل من أول الأبواب لذلك، الإنفتاح على محيطنا المغاربي والإفريقي والعربي، من خلال تجدير التعاون العلمي الأكاديمي التكاملي مع حاجات البحث العلمي العالي والأكاديمي في مجتمعات دول الساحل وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا والسنغال، وكذا مع حاجات التنمية عربيا، خاصة بدول الخليج العربي والشام والعراق. لأنه هذا هو العمق الطبيعي تنمويا وعلميا للمغرب. ولا يمكن لجامعاتنا المغربية أن ترتقي في مصاف البحث العلمي دوليا إذا لم تتحول إلى مرجع معرفي أكاديمي، مسنود ببنك معرفي معلوماتي، حول محيطها الإقليمي. أليس ذلك ما نجحت فيه جامعات مثل الجامعة البرازيلية وجامعة ماليزيا والجامعة الكورية وأيضا الجامعات التركية. إن التكامل المغاربي جامعيا وعلميا قدرنا المستقبلي، ضمن منظومة الإصلاح الجامعي والعلمي مغربيا. ومن هنا ضروري التذكير بما جاء في كتاب أخير للدكتور حفيظ بوطالب الجوطي (الرئيس السابق لجامعة محمد الخامس بالرباط)، والذي اختار له توصيف ذكيا وآنيا «جامعة المستقبل». لأنه حين يتحقق التفكير في موضوعة الجامعة المغربية بأفق تنبؤي مستقبلي، من الدكتور بوطالب، كباحث وأستاذ جامعي ورئيس سابق لأكبر جامعات المغرب، فإن لذلك ألقه الخاص، الذي يجعل صفحات الكتاب ل 200، غنية بتفاصيل علمية دقيقة. وأكثر من ذلك أنها تفاصيل مؤطرة برؤية معرفية وبرؤية سياسية وطنية، يحركها قلق الغيرة على مستقبل المعرفة وإنتاجها بالمغرب. وأن تلك الرؤية تغتني بكونها لا تكتفي فقط بمقاربة رجل السياسة لموضوعة التعليم الجامعي المغربي وممكنات ربح جامعة المستقبل، بل إنها تنتبه أيضا لأطراف حاسمة لها علاقة قوية بالإبداع الجامعي (تربويا) هم الطلبة وأيضا الأسرة المغربية. على أن من عناوين إبداعية مقاربة الدكتور بوطالب لهذا الموضوع الحيوي والإستراتيجي، طرحه للبديل المغاربي في تحقيق التنمية المرجوة من خلال تطوير دور الجامعة. أي أن قوة التنسيق والتعاون الجامعي المغاربي (ككتلة موحدة) واحد من أهم الحلول لتجاوز أعطاب البحث العلمي والتكويني في جامعاتنا المغربية والجزائرية والتونسية واللليبية والموريتانية. ومعنى الرهان على البعد المغاربي، هو جواب على أن الحل لإنقاذ مستقبلنا المشترك، كامن في تنسيق الأدوار بشكل تكاملي بين الخبرات المغاربية، والطاقات المغاربية، بما يخدم عمليا تحديات التنمية بجهتنا المتوسطية. وهو ما يحقق معنى للوحدة المغاربية غير مسبوق، ومطلوب ومرتجى، لأن منطق التكتلات الدولية يفرض ذلك، وأن كل مشروع جهوي مماثل لا يمكن أن يتحقق سياسيا واقتصاديا إذا لم يكن مسنودا برافعة معرفية وباستراتيجية متكاملة لمصالحة المعرفة والبحث والتكوين مع سوق الشغل ومع إبداعية الحلول المؤثرة لتحقيق التنمية المستدامة بين شعوب المنطقة. أليس هذا هو اللحمة الأرسخ لتحقيق فكرة المغرب الكبير فعليا؟. ومما يؤكد عليه الدكتور بوطالب في الصفحة 194 من كتابه (في الشق المعني بالخلاصات المركزية ضمنيا)، قوله: « لكي تستطيع الجامعات المغاربية خوض غمار أنشطتها عليها تثمين البحث بصفة جدية، لابد أن تزود نفسها ببنية تحتية للبحث في مجالات الإحتياجات الحقيقية للتنمية الصناعية لبلدانها. ومن أجل هذا، يمكن إقامة مشروع تعاون مغاربي مشترك حول محاور تبلور الإهتمامات المشتركة بينها وإحداث أقطاب تنافسية جهوية وعالمية. ويمكن أن ترتكز تلك الإهتمامات والأقطاب على مواضيع كتكنولوجيا الإعلام والإتصال والماء والطاقة والطاقات المتجددة والبيئة والتنمية المستدامة ومحاربة التصحر».. ولعل أطروحة الكتاب المركزية، تتحدد في معنى التصالح مع شرط العولمة، ومع تحديات منطق السوق، عبر بوابة المعرفة وعبر بوابة منظومة التعليم، وفي المقدمة منه التعليم الجامعي. التعليم الجامعي الذي اعتقد الكثيرون أنه صار مجرد ترف وفاتورة ثقيلة على ميزانية الحكومات، والحال أنه أهم قطاع استراتيجي للتنمية ولتحقيق استقلالية القرار السياسي الوطني التنموي. لقد أكد الدكتور بوطالب «أن الذي يميز العولمة في عصرنا الراهن هو التسارع: تسارع في إدماج الإقتصادات الوطنية في الإقتصاد العالمي. وتسارع في تدويل رؤوس الأموال وقوة العمل، وتسارع في جهوية المبادلات وتدخل المؤسسات الدولية. هذا التسارع مرده الأساسي هو الثورة المعلوماتية المرتكزة عل تقنيات المعلومات والتواصل. فالثورة المعلوماتية تشكل الوسيلة الفعالة والدعامة الأساسية لإحكام سيطرة المراكز المالية والشركات المتعددة الجنسيات على الإقتصاد العالمي وتوجيهه بما يخدم مصالحها وليس مصالح الدول كيفما كانت قوتها». من هنا إلحاحية الإستثمار في البحث العلمي بالجامعات المغربية، لضمان تصالح حاجات التنمية المحلية وطنيا مع منطق السوق، بالشكل الذي يحمي القرار السياسي المستقل للدولة وللمغاربة. بالتالي فالتحدي هو تحدي وجود، وليس مجرد ترف نخبوي كما قد يتوهم البعض. ومن هنا مركزية الأطروحة الغنية التي يقدمها كتاب الدكتور حفيظ بوطالب جوطي، الذي يعتبر مؤتمر نقابة أساتذة التعليم العالي هذه الأيام، فرصة مثالية لطرح عمق الإشكالات المتحدية للجامعة المغربية، في أفق تأمل استراتيجي بناء، وليس في أفق فئوي آني منغلق.