لم أَمِلْ، في البداية، إلى التجاوب مع طلب صديقي د. محمد نور الدين أفاية بأن أكتب مقدمة لكتابه: الديمقراطية المنقوصة. وعلَّلتُ اعتذاري له، عن عدم التجاوب مع رغبته، بأن الكتاب يقدِّم نفسه بأحسنَ ممّا يملكُ أحدٌ أن يقدّمه به. والحقُّ أني داريْتُ، بهذا التعليل، شعوراً بأن الرجل أكبرُ من أن يقدّمَهُ أحد؛ فهو فَرَض نفسَه واسمَهُ، منذ ثلاثين عاماً حافلةٍ بالكتابةِ والتأليف. وهو تَكَرَّسَ، بتأليفه الثّرّ، واحداً من ألمع رموز الفكر والثقافة في المغرب، وحَظِيَتْ كتاباتُه بالاعتراف والإشادة في البلاد العربية. وهو، إلى ذلك، من أكثر أهل الرأي صرامةً في الرأي، وأناقةً في الكتابة، إلى غِنًى لديه في الهواجس والمدارات؛ فلسفة التواصل، تاريخ الفكر، الفكر السياسي، الفكر العربي المعاصر، السينما والصورة... إلخ، ناهيك بمنِْزعٍ ملحوظ إلى إتيان موضوعات الكتابة بنَفَسٍ فلسفيّ، استشكالي، حتى حينما تحاذي (تلك الموضوعات) ضفافَ اليوميّ والوقائعيّ... غير أنّي نزلتُ، أخيراً، عند رغبته بعد أن قّدرتُ أن كتابةَ هذه السطور، تقديماً للكتاب، تشريفٌ لي وليس تعريفاً بكاتب وكتاب ما أغناهُمَا عن تعريف. والحقّ أني وجدتُ في الكتاب أسباباً أخرى، إضافيّة، للتجاوب مع رغبة صاحبه في التقديم؛ فالأفكار التي يدافع عنها الكاتب، بقّوةٍ إقناعية مثيرة للإعجاب، أشاطرهُ أكثرها الأغلب، ولا أكاد أن أختلف معه فيها إلاّ في تفاصيلَ فرعيةٍ لا تُفْسِد للاتفاق قضية. وضغطُ المسألة التي يتناول، وحساسيتُها الشديدة اليوم في المغرب والوطن العربي، من الراهنية والإلحاح على الوعي بحيث تسُدُّ عليَّ سبيل الاعتذار عن واجبٍِ فكريّ دُعيتُ إليه: أنا المشغوف بالمسألةِ شغفَ صاحبي بها. وطريقتهُ في تناولها، في الكتاب، من التميُّز والتمايز المتفّرِد من مثيلاتها، السَّيَّارة، بحيث تجعل من توقيعي شكلاً آخر من التضامن المعرفي مع ضَرْبٍ من المقاربة الفكرية لمشكلات الاجتماع السياسي غيرِ مألوفٍ عندنا. ثم لأن الكتاب، وللأسباب التي ذكرت، يفتح أمام التفكير في المسألة الديمقراطية، والمناظرة في أسئلتها المتشابكة، أفقاً جديداً لِمَنْ أخذ بأصول التفكير النظري، وازْوَرَّ عن التبسيط والاستسهال ازوراراً. وأنا لستُ أبالغ، أو أتزيَّد، في القول إن كتاب الصديق د. محمد نور الدين أفاية فاتحةٌ لكتابة جديدة في الشأن السياسي، أو قُلْ، للدقة، في شأنٍ يحتل مكانةً معتَبَرة في الاجتماع السياسي: الوطني والعربي على السواء، هي مسألة الإمكان الديمقراطي، وجملة ما يَحُفّ به من عوامل جاذبة ونابذة. وحسبانُهُ فاتحةً، على زعمٍ أزعُمُه، إنما يُرَدُّ إلى ملاحظةِ أمريْن متقابليْن، ولكنهما، في الوقت عينه، مترابطيْن؛ أولهما أن الغالب على التفكير في المسألة، والكتابة فيها، التسرعُّ والخِفَّة في الاستنتاجات والأحكام، وآيُ ذلك ما نقرأه اليوم من ضروب الاحتفالية ببشارة "الربيع العربي" ووعوده "الديمقراطية"، لدى الكثرة الكاثرة ممّن دبّجوا رأياً في الموضوع: في المغرب وفي البلاد العربية كافةّ. وهي احتفالية مسكونة بروح الكسل المعرفي، وتعاني خصاصاً حادّاً في القلق الفلسفي مأتاهُ من نزعة إيمانية ضاربة الجذور في اللاوعي الاجتماعي والثقافي. والنتيجة أننا لا نخرج من هذا الخطاب الاحتفالي، الظفراوي والانتشائي، إلا بنذْرٍ تفيهٍ من التفكير، وفائضٍ كثير من التبشير يُخْشى عليه من صدمةِ الواقع حين تَطِير السَّكْرة! وثانيهما ما ذهب إليه أفاية من مذهَبٍ في التناول تركيبيًّ؛ جَمَعَ إلى النظرة الاجتماعية والتاريخية للظاهرةِ، موضوع البحث، مَيْلاً إلى التحليل الثقافي لظواهر الاجتماع السياسي، وحسّاً بالتاريخية عالياً، واستدعاءً كثيفاً للسوابق قصد المقارنة، مع غيرِ قليلٍ من النَّفَس الفلسفي في الاستشكال والنقد. لم يكتب نصّاً سياسّياً وإن كان موضوعُهُ في السياسة؛ فلم يركن، لذلك السبب، إلى مفردات السياسة، ولا إلى مقتضيات الكتابة السياسية من انحيازٍ إلى موقفٍ أو رأي، وإنما آثر أن يتأمل حدثاً تاريخياً ببرودةِ أعصابِ الباحث، ولكن أيضاً بحرارة وجدان المواطن والمثقف الملتزم بفكرة النهضة والتقدم والحداثة، فأتى نصُّه نصّاً مفكِّراً في السياسة بمنطق التاريخ لا بياناً، جافاً ومباشراً، لموقفٍ شخصي في شأنٍ سياسيّ: على مثال أكثر ما يُنْشر، اليوم، بل منذ عام ونصف، بمناسبة "الربيع العربي". ولستُ، هنا، في مَعْرِض أن أُنكِْرَ على الناس الحق في أن يأتوا مواقفَ سياسية في شأنٍ سياسيّ، وأنا واحدٌ ممن يفعلون ذلك، ولا أنا في معْرِض نفْيِ الرأي السياسي عن الكاتب في هذا النصّ، وإنما أجدني مدفوعاً إلى التنويه بهذا الموقع المعرفيّ، السياسيّ المميَّز الذي اخْتَارَهُ الباحث ليُطِل منه على موضوعٍ يتعَسَّر على المرء الحيادُ فيه، من دون تضحيةٍ منه بأحدِ حقَّيْن أتقن الجَمْع بينهما: الموضوعية العلمية، والرأي. إن كتاب الصديق أفاية يعلّمنا كيف يمكن للباحث أن يفكّر في شأن سياسيّ، اجتماعيّ من دون أن يتحوّل إلى داعية. وعندي أن ذلك من النادر، اليوم، في مسألةٍ بحماوة مسألة "الثورات" والحركات الاحتجاجية العربية؛ حيث تتكاثر الأقلام ويَقِلّ الكلام، وتَهبِْط الكتابة عن معدّل الرصانة الضروري! أشياء كثيرة تشُدُّ قارئ هذا النصّ؛ وضوح الإشكالية والموضوعة لدى المؤلف، التنقُّل السَّلِس من التحليل، إلى النقد، إلى الاستنتاج، إلى التركيب، ومن المقاربة النظرية إلى التناول المباشر للظواهر والأحداث السائلة؛ التقشفُ الصارم في أحكام القيمة؛ الحِذْرُ الشديد في إتيان استنتاجات نهائية؛ ثم انسيابيةٌ في التعبير عن الفكرة من غير كبير تكلُّف، وحيث السيطرة ملحوظةٌ على اللغة النظرية (المفهومية)، والاقتدار في تطويعها، لكتابة نصٍّ لا يساوم صاحبُه على جماليات التعبير بَيِّنٌ. إنه نصٌّ قويّ ورصين يَحْسُن بقارئه أن يقرأه بتمهّل حتى يَلْحَظ، على نحوٍ أفضل، مستويات القول فيه... وهي كثيرة، متراكبة. ويمكن قارئَ هذا الكتاب أن يتفق، مثلي، مع ما ذهَب إليه المؤلفُ فيه، أو يختلف. لكنه، قطعاً، لا يملك أن يُشيح بوجهه عن تحديَّيْن ألقاهما الكتاب على قرائه: عدم استسهال التفكير في المسألة الديمقراطية، ومعه استسهال الخوض في حديث دعويّ تبشيري وشعبويّ، ثم الدعوة إلى تحليل ثقافي لظواهر الاجتماع السياسي ومنها الديمقراطية، جنباً إلى جنب مع مستويات أخرى في التحليل (اقتصادي، سوسيولوجي، سياسي، ديمغرافي...). لقد انصرف إلى نقد ذلك الاستسهال من طريق نقدِ فكرة الوصْفات الجاهزة، والخلط الفادح بين الديمقراطية والليبرالية السياسية، ونقد الأزعومات التي تروّجها المعارضاتُ عن نفسها بوصفها حاملةً المشروعَ الديمقراطي، ونقدِ النظرة غير التاريخية، وغير التراكمية والمتدرّجة، للديمقراطية والبناء الديمقراطي، مسلّطاً الضوء على جملة الحوائل التي تنتصب اليوم، ومنذ زمن، كعوائق على طريق الديمقراطية؛ من قيم متكلسة، وبُنى اجتماعية مترهّلة، ومؤسسات مضطربة الوظائف، ومواريث تاريخية ثقيلة في السياسة والاجتماع والثقافة. وهو في كل ذلك النقد، وقد أتاه بحزمٍ وجرأة، لم يُرِدْ خطابَهُ مُوئِسِاً، وإنما أرادهُ منبِّهاً، ولم يُسْقِط الإمكان الديمقراطي، ولكنه فتح أمام التفكير فيه باب العوائق والموانع التي تجذِّف ضدَّ تياره في الأمد المنظور. وهو إلى ذلك أصاب، أيّما إصابة، في توجيه النظر إلى أهمية حاجتنا، اليوم، إلى نظرة شاملة تركيبية إلى المسألة الديمقراطية، تَسْتَدْخِل ما ظلَّ طويلاً في حكم المغيَّب والمتجَاهَل من أدواتٍ وعُدَّةِ اشتغال، ومنها أدوات التحليل الثقافي؛ أي التحليل الذي يستدعي عوامل أنثروبولوجية وسيكولوجية عدّة كالقيم، والمعايير، والخيال، والمعرفة، والرغبة...إلخ، وهي عوامل لا يكون موعىً بها دائماً، لكنها تتدخل في تشكيل الوعي، فتكون إمّا دافعة أو عائقة. وليس من شك في أن تحليل المتخيَّل الديمقراطي، اليوم، ضروريّ لفهم هذا التضخم الديمقراطوي في الوعي العربي، وتحجب عنه رؤية المنطقة الرمادية في صورة الواقع الموضوعي. وهو ضروريٌّ ضرورة تحليل الثقافة السياسية العربية وقياس منسوب القيم الديمقراطية فيها؛ إذْ صَحَّ في التاريخ والأذهان أنْ لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين. يُحْسَب للمؤلف أنه لم يكن عدميّاً وهو يمتشق سلاح النقد؛ فقد سَلَّم بأن مجتمعاتنا تشربت كثيراً من القيم الديمقراطية، وأن عمران ثقافتنا بات مأهولاً، في بعض أجزائه، بهذه القيم؛ وأن مؤسساتنا الاجتماعية والمدنية تخطو الخطوَ الحثيث صوب التكيف مع الأفكار والقواعد الديمقراطية؛ وأن دولنا أحرزت حظّاً، وإن متواضعاً، في التحديث السياسي والتأقلم مع الأحكام العالمية للديمقراطية: إمّا في دساتيرها أو في بعض منظوماتها القانونية؛ وأن ملايين المواطنين أصبحوا يتدفقون على الشوارع، خارجين من أقفاص الخوف والحجز والسلبية، يطالبون بالديمقراطية؛ وأن بعضهم أصاب نجاحاً في إجبار حاكمه على الرحيل أو على التجاوب مع مطالب الإصلاح...إلخ، ولذلك هو عنونَ كتابه: الديمقراطية المنقوصة. المشكلة، عنده، هنا؛ في أننا نعاني نقصاً فادحاً في الديمقراطية. لكن هذا النقص لا يُغَطَّى في السياسة كما يُغَطَّى في الاقتصاد، فقد يتطلب شوطاً من الزمن أطول، وعطاءً وبَذْلاً، من أجل سَدِّه، أجزل. حتى النقص في الغذاء، وهو نعانيه منذ ردحٍ من الزمن طويل، لا يُسَدّ في زمنٍ قصير، فكيف بالذي أخذ من غيرنا من الأمم والمجتمعات شطراً مديداً من تاريخها الحديث والمعاصر...