تعتبر الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير مطمئنة، إذ لا بد أن يكون للهزات التي تقع في بعض بلدانها انعكاسات على المنطقة كلها. وأشد ما يقلقنا اليوم أن بعض بلدان هذه المنطقة منقسمة داخليا جراء الصراعات الطائفية، ومنهارة اقتصاديا ومتصدعة اجتماعيا دونَ أن يبدو مستقبلها القريب واعدا بالأفضل. لقد تم فرض جماعات الإسلام السياسي على رأس حكومات بعض بلدان هذه المنطقة، بذريعة أنَّ هذا الزمن زمنها حسب ما روَّجَ البعضُ، كما أنَّ هذه التنظيمات نفسها لم تبخل بتوزيع الوعود وتقديم نفسها باعتبارها المنقذ المنتظر. لكن هل تغير بترتيب منحها الكراسي الحكومية شيء من أحوال مجتمعات هذه البلدان؟ وهل ظهر عقد اجتماعي جديد بين الحكومة والمحكومين يؤشر على تحسن شروط الحياة فيها؟ كلا، لا شيء من هذا حدث، بل لقد بدأت فجوة الثقة تتسع بين الحكومة والرأي العام، لأن طائفية هذه الحكومات لا تسعى إلا إلى تفتيت الوحدة الوطنية... ولأن المغرب هو أيضا عرف صعود حكومة ملتحية تنفيذا لإرادة بعض القوى العظمى في تفتيت أوطان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالطائفية الدينية، فقد أدت بلادنا ثمنا باهظا، حيث عرف الاقتصاد الوطني تراجعا خطيرا يمكن تفسيره بتراجع ثقة المستثمرين وضعف التنافسية، وغياب إرادة حقيقية لدى الحكومة لحلِّ المشاكل الحقيقية، إذ سجلت البورصة في نهاية السنة الماضية تراجعا خطيرا، حيث نقصت ثروات المستثمرين ب 61 مليار درهم مقارنة بسنة 2011، كما تراجعت الأرباح الصافية للشركات المدرجة في البورصة ب 11% في يونيو 2012. فضلا عن ذلك، هناك تفاقم خطير لمشكل السيولة، حيث لم تعد البنوك قادرة على تمويل الاقتصاد. وقد أشارت إحدى المجلات السويسرية إلى أن ودائع الأثرياء المغاربة في البنوك السويسرية قد تضاعفت تقريبا مقارنة بالسنوات الفارطة. بالمقابل نشهد جوا من انعدام الثقة في قدرة الاقتصاد الوطني على المقاومة، ما يزكي فرضية تهريب رؤوس الأموال المغربية إلى الخارج. فوق ذلك، إن المغرب لم يعد له من احتياطي العملة الصعبة إلا ما يكفي لتغطية 4 أشهر من الواردات، ما يشكل خطا أحمر بالنسبة لبلد كبلدنا ويهدد استقلالية القرار الاقتصادي، ويتطلب بالتالي حل المشاكل الهيكلية على مستوى المالية العمومية عبر إصلاح أنظمة التقاعد، وصندوق المقاصة، والنظام الضريبي...، وهي أوراش حيوية تتطلب إرادة وجرأة لوضع الحلول الملائمة للواقع المغربي بدل الاستنساخ الحرفي لتجارب بلدان أخرى قد لا تكون مفيدة. وفي غياب أية رؤية للإصلاح لدى هذه «الحكومة» فمشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية لن تُحلَّ وبلدنا لن يتمكن من ترسيخ استقراره. في لغو «الحكومة» الملتحية لقد جرى في وسط هذا المناخ الملتبس في بلادنا إقصاء المواطنين والنساء والشباب، حيث تتبنى حكومة الإسلام السياسي منطق التشرذم القائم على أفكار وأيديولوجية تقسّم وتفرّق ولا توحّد، وذلك حتى تستحوذ على مقومات الدولة كافة، وتعيد صياغة هويتها، حسبما يرى دعاتها وشيوخها. فالسياسة بتعريف علم السياسة هي نشاط إنساني محوره الإنسانُ وليس الحكومة. وإذا لم تسر الأمور على هذا النحو، فلن تكون هناك سياسة ولا دولة. لا تقوى حكومة الإسلام السياسي في المغرب على حل مشاكله الاقتصادية والاجتماعية ولا تهتم لذلك. وبحكم نزعتها الطائفية، فهي تسعى جاهدة إلى إحداث انقسام خطير يهدد بتفتيت الوطن الذي ترفض أيديولوجيتها استمراره في الوجود. لذلك، لابد - حسب فهم علم إدارة الأزمات - من منح الأولوية لمواجهة إرادة التقسيم هذه، وتفادي تأثيراتها بإزالة أسباب الانقسام. وتلك هي قاعدة مباشرة السياسة والحكامة الجيدة القائمة على الوطنية والمواطنة والديمقراطية... تقتضي دراسة أوضاعنا الانتباه إلى وجود عناصر أساسية متداخلة ومتكاملة لا يمكن الفصل بينها حتى ينجح التغيير ويحقق أهدافه، وهي: تحديد الرؤية السياسية للمرحلة الجديدة، والإنجاز الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية... لأن الشعب يرغب في الديمقراطية، والحصول على حقوقه، وتحقيق هذا يتطلب تحركا متناسقا بين هذه المكونات الثلاثة في إطار خطة شاملة للتغيير ترمي إلى إنجاز مشروع وطني ديمقراطي. وإذا كانت تلك قاعدة عامة، فهي بالنسبة لبلادنا تظل أساس أي خطة للتقدم والنهوض؛ فالاقتصاد غارق في المتاعب وانتشار البطالة وارتفاع في معدلات الفقر... لذلك يطالب المواطنون بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ما جعل مطلب العدالة الاجتماعية صرخة لا تكل ولا تهدأ، وأملا مراوغا لا تطوله عين، ولا تلمسه يد. لا يتحقق كل من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، أو النمو الاقتصادي، والاستقرار السياسي والاجتماعي، وأمن المواطن... بالتعامل معها باعتبارها عناصر منفردة، وهو ما أثبتته تجارب الدول التي مرت بالظروف نفسها التي تجتازها بلادنا. فهذه الأهداف جميعها كل لا يتجزأ ولا يتحقق إلا بناء على وضع استراتيجية للتنمية بمعناها الشامل. لم تتوقف المطالبة بمشروع وطني ديمقراطي ينهض بالبلاد، بالمواصفات المشار إليها أعلاه. وللأسف ظلت البلاد تتقلب بين فترة وأخرى، في مرحلة انتقالية طويلة، غلب على سياساتها التشوش، وغياب الرؤية والهدف، بتأثير عوامل داخلية وخارجية غابت عنها المعايير السياسية للحكامة الجيدة. إنَّ مواقع الخلل في المشهد المغربي التي تشهد على غياب العدالة الاجتماعية لا تعد ولا تحصى، حيث ازداد تعمقها مع الحكومة الحالية. والعدالة الاجتماعية هي مفهوم واسع يشمل إنهاء الظلم والحرمان من مقومات العيش الكريم، والعمل على تنفيذ سياسات تنهي انتشار الفقر والجهل، والمرض وضعف الرعاية الصحية، والتمييز في المعاملة بين مختلف الفئات الاجتماعية والمناطق داخل البلد... كتب الناقد الأمريكي «إيفور ونترز Y. Winters» كتابا أصدره قبيل منتصف القرن الماضي عنونه ب «تشريح اللغو»، وهو في الواقع تشريح الكلام الفراغ أو الخالي من أي معنىNonsense . ولا أعرف زمنا انتشر فيه اللغو على نحو ما انتشر لدينا في زمننا المغربي الكئيب هذا الذي ضاق المغاربة فيه ذرعا بهراء الحكومة الحالية. ولو عاش هذا الناقد بيننا اليوم، لتخلى عن التنقيب في نتاج أدباء عصره بحثا عن اللغو ليتفرغ لدراسة نماذج لغو خطاب الحكومة الذي تبثه أجهزة الإعلام حينا أو »يتحفنا« به مشايخ الإسلام السياسي حينا آخر، حيث أصبحوا يدعون إلى ارتكاب الجرائم في حق الفتيات الصغيرات بتحليل تزويجهن في سن مبكرة، مع أنه اغتصاب وإجرام... كما أنهم يسعون إلى استبلاد الشعب المغربي بإيهامه بأنَّ مآسيه كلها راجعة إلى عدم انضمامه إلى طائفتهم... هكذا، فقد ابتلي مجتمعنا بطوفان اللغو الذى ينهمر كالسيل، لأنه ينحدر إليه من أعلى إلى أسفل، ممن اختارتهم الأقدار العمياء التي رتبتها بعض القوى العظمى ليسطوا على الحكومة في بلادنا ويطبقوا عقيدة الليبرالية المتوحشة المغلفة بخطاب شعبوي وضيع، ويمارسون العنف الوحشي على كل من تسول له نفسه أن يعلن رأيه أو يتظاهر ولو بشكل سلمي... ينبغي أن تكف «الحكومة» عن إنتاج الكلام الفارغ، وأن تتحسَّس مواطئ قدميها وتعي منتهى الطريق. فهي لا تستبصر مغزى خطابها الملتبس الذي من شأنه أن يقود إلى حالة انعدام الاستقرار. لقد كانت العدالة الاجتماعية في مقدمة مطالب المواطنين المغاربة، لكن السياسات التي تتخذها الحكومة الحالية لا تتبين منها أية رؤية أو إجراء واضحين لتحقيق هذا المطلب، والقرارات التي تصدر عنها لا تعبر عن ذلك، بل إن الضغوط تزداد على الطبقتين الدنيا والوسطى عبر رفع الأسعار من دون رقيب...، ما جعل قيمة الأجور في تراجع مستمر، وأحوال المغاربة تستفحل في شتى المجالات، وعجز المواطنين عن تغطية نفقات التعليم والتطبيب والعلاج يتعمَّق...، بينما كان من المفروض أن تفي الحكومة بوعودها وتلبي مطلب الشعب عبر التصدي للظروف المأساوية للمواطنين دون تأخير باتخاذ إجراءات تحشد لها قواها، وفق خطة واضحة وجريئة، وفي إطار مشروع شامل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية .لكنها عوض ذلك، لجأت إلى الاعتداء على الحريات العامة ولجمها باستعمال العنف. وللتغطية على كل ذلك، فهي تحاول أن تلعب دور الحكومة والمعارضة في هذا المجال، حيث تدعي الدفاع عن الحريات، لكنها تعتدي عليها بوحشية. كما أن عدم إقدامها على أي إجراء هيكلي في أي مجال من المجالات، وإغراقها البلاد في مستنقع المديونية، وضربها الحريات العامة... أبعدها عن مفهوم الدولة الحديثة، في عصر تداخلت فيه العلاقات المتبادلة بين دول العالم وبعضها، ولم تعد أي دولة تستطيع أن تنعزل بنفسها عن هذا العالم الذي تحكمه مواثيق دولية، ويتصرف حسب قاعدة التغيير التي صارت فلسفة عصر ثورة المعلومات، وهو عصر يقوى فيه عزم الدولة بامتلاكها أدواته، من إعمال العقل، والقدرة على ابتداع الأفكار والسياسات غير التقليدية، من أجل حل المشكلات، وتحقيق التقدم...