لقد بلغت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تردِّيا كبيرا في شتى المجالات، إذ أصبح الإنسان فيها مجرد كائن شبه بدائي مقارنة بنظيره المتمتع بحقوقه الإنسانية في البلدان الديمقراطية. ونظرا لانتشار ظاهرة الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحالف بعض الجهات الخارجية والداخلية معها واستثمار هذه الأخيرة لهذا المناخ وتقويته، ودعمه للوقوف في وجه التحديث والبناء الديمقراطي، فقد أصبح البعض يرى أن الحل يكمن في ضرورة أن يظهر في منطقتنا «كمال أتاتورك» آخر. لكن هذا الرأي لا يبدو مقنعا، إذ ينبغي أن يبدأ الإصلاح من أسفل وبالشعب. بعد أن تم ترتيب الأوضاع لتمكين جماعات الإسلام السياسي من دخول الحكومات في هذه المنطقة، شرع البعض في الدعوة إلى استنساخ «النموذج التركي». لكن يبدو لي أن تاريخ هذه المنطقة وظروفها الحالية تجعلان من المستعصي تحقيق مثل هذه الدعوة، لأن القاسم المشترك بين أغلبية بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو وضع الاستبداد الذي يختلف جوهريا عن التعددية والديمقراطية النسبيتين في تركيا، ويرتدي في كل بلد لباسا مختلفا. وهذا ما لا يتيح نشأة حزب شبيه ب «حزب العدالة والتنمية» التركي واعتماد أسلوب شبيه بأسلوبه. كما أن سيرورة ارتباطات تركيا بالغرب ليست شبيهة بنظيرتها في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ناهيك عن اختلاف الظروف الاقتصادية والمعيشية والثقافية بين المنطقتين. إضافة إلى ذلك، هناك فروق شاسعة بين وضع تركيا و»حزب العدالة والتنمية» الحاكم فيها من جهة، وبين وضع العالم العربي وحالة جماعات الإسلام السياسي فيه، من جهة أخرى، إذ لا تجوز المقارنة بينهما لأن «النموذج التركي» للديمقراطية يختلف تماما عما يجري في منطقتنا، وذلك رغم أنه لم يقم بحل مشكلات الأقليات والمستضعفين ولا يحظى برضا أغلبية الشباب والطلاب والمثقفين... تجدر الإشارة إلى أن تأثير العلمانية في المجتمع التركي قد بقي منحصرا في الفئات الغنية والنخب المثقفة وفي المدن الكبرى، ما جعل تركيا العميقة بأريافها وجبالها خارج التأثير وسهل تغلغل الفكر المحافظ فيها وحال دون تحديثها... تبعا لذلك، لم يرقَ النظام التركي إلى أن يكون علمانيا بالمفهوم الكوني للاصطلاح، لكن هل يصح الاعتقاد باحتمال تكراره في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟ لقد تم في تركيا فصل السلطة الروحية عن السلطة الزمنية، وتبني قوانين أوروبية كثيرة، بما فيها القانون المدني السويسري. ولم يرم «كمال أتاتورك» إلى محو الدين، بل رغب في إصلاحه بمحاربة الظلامية والخرافات، فزوَّد البلاد بمؤسسة للشؤون الدينية التي أصبحت فيما بعد وزارة، كما بالمدارس والأئمة وكلية اللاهوت... وعندما عرض المثقفون والفقهاء الكماليون (نسبة إلى مصطفى كمال)، أسس الإصلاح الديني في سنة 1928، فإنهم كانوا يهدفون من وراء ذلك إلى بروز وعي ديني جديد في تركيا، يكون أيضا نموذجا للحرية والتقدم بالنسبة للشعوب الإسلامية التي لا تزال تعيش تحت وطأة العبودية والجهل . في سنة 2002، حقق حزب العدالة والتنمية التركي نجاحا في الانتخابات. وهو حزب محافظ لا يتكون من متطرفين، كما أنه يقبل ب «العلمانية» ولا يضع دستور البلاد محط نقد، حيث يعي بأنه لا يمكن للمشاعر الدينية أن تتدخل في شؤون الدولة ولا في السياسة، ويعرف أنه لا يمكن الانقلاب على التحولات السياسية الكبرى التي حدثت في بلاده قبل مجيئه إلى السلطة، وأن الجيش مؤسسة تحمي الدستور و»العلمانية»... كما أن أغلب أعضائه يحملون تصورات عن الإسلام يرفضها دعاة الإسلام السياسي في منطقتنا، إذ يقبلون بالمساواة بين الجنسين في جميع المجالات بما فيها الميراث، كما يدعون إلى حظر تعدد الزوجات... وفوق ذلك، فحزبهم لا يعارض العلم ونتائجه، ولا ينبذ الفنون من آداب وموسيقى ورسم وسينما... كما يعتبر أن الكثير من المسلمين يسيئون إلى دينهم وأن دول العالم الإسلامي تعاني الفساد والقبلية والفقر... لقد كان »أتاتورك« قائدا عسكريا مهيبا حاول إرساء العلمانية في تركيا، لكن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تفرز شخصية مثله، وليس هناك ما يدل على أنه سيكون فيها في المستقبل المنظور. كما أن السلطة والجيش في الشرق الأوسط ليسا علمانيين. وإذا كان المحافظون قد وصلوا إلى سدة الحكم في تركيا، فإنهم لم يجرؤوا على إحداث تغيير في هوية الدولة، وذلك خوفا من الجيش، أو تجنبا للاصطدام بالعلمانيين، أو لاحتمال تقلص فرص انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي جراء معاداتها للعلمانية... فالحكومة التركية متمثلة في «أردوغان» تحاول اتخاذ مواقف معتدلة لكي تنضم بلادها إلى الاتحاد الأوروبي. ولا يخفى على أحد ارتياح الغرب للنموذج التركي الذي يجمع بين الإسلام والديمقراطية واقتصاد السوق والعلاقة الحميمة لتركيا مع أمريكا وإسرائيل، وعضويتها في الحلف الأطلسي... لقد تمكنت حكومة «أردوغان» من الترخيص للمرأة بالحجاب، لكنها لم تدخل في جدال حول استثمارات أوروبا، أو سعر الفائدة، أو التعليم الديني، وما إلى ذلك. ثمَّ إنَّ منابع الإسلام السياسي التركي تختلف عن مثيلاتها في منطقتنا. لذا، ففي حالة دخول جماعات الإسلام السياسي إلى الحكومة هنا، سيكون من الصعب القول بإمكانية إعادة إنتاج التجربة التركية. لقد عرفت جماعات الإسلام السياسي في منطقتنا تحولا شكليا لا يمس عمقها. فهي تريد فقط منح صورتها شكلا حديثا ومؤسسيا ظاهريا أمام الداخل والخارج، وبالتالي يظل تفكيرها شموليا يخلط بوضوح بين ما هو ديني وما هو سياسي؛ إذ تتحدث هذه الجماعات عن دولة وطنية(!) تقوم على مبادئ الشريعة، ثم تعود فتتحدث عن دولة مدنية ذات مرجعية دينية... أضف إلى ذلك أنها لا تزال تُرَوِّج لفكرة الخلافة الإسلامية بالرغم من الواقع الموضوعي للعالم الإسلامي... لقد أكد تطور الأحداث أن هذه الجماعات دخلت إلى الحكومات، بناء على ترتيبات قامت بها قوى خارجية وداخلية. ولا يجانب الصواب المتتبعون الذين يقولون إن دخول جماعات الإسلام السياسي إلى الحكومة لن يكون في صالحها بالمعنى الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي. فقد بدأ يتأكد بالملموس في بعض البلدان أنها عاجزة عن إيجاد حلول لمشاكل اقتصادية ومالية واجتماعية أكبر منها، حيث تبدو خارج الموضوع والتاريخ معا، إذ بدا أن ما يهمها هو المقاعد فقط. وليس قبول السلطة والمؤسسة العسكرية بدخول هذه الجماعات إلى الحكومة إلا لتحميلها عواقب الأزمة الخانقة التي تعيشهاالمنطقة، وهو ما سيُكَبِّدُها هزيمة سريعة. وبما أن علاقتها ملتبسة بالقوى العظمى حيث تتسم هذه الأخيرة بالبراغماتية، فإنها قد ترمي من وراء مساندتها لهذه الجماعات إلى توظيفها للزج بالمنطقة في حروب طائفية قد تقضي على الوحدة الوطنية بشكل يفضي إلى تفتيت الأوطان.... كما أنها قد تروم الحيلولة دون انخراط منطقتنا في روح العصر وامتلاكها لقرارها... ومن المحتمل أيضا أنها تريد تعريتها أمام شعوب المنطقة عبر جعلها تكتشف بالملموس عجز تلك الجماعات عن حل مشاكل مجتمعاتها، حيث سيدرك الجميع التناقض الكبير بين دعوتها وادعاءاتها وبين فقرها المدقع على مستوى الرؤية والمشروع والتدبير... أضف إلى ذلك أن هذه الجماعات تبحث عن إرضاء القوى الخارجية حماية لها من السلطة والقوى الوطنية والديمقراطية... خلاصة القول إن لجماعات الإسلام السياسي في منطقتنا نظرية قديمة مبنية على فكرة «الضرورات تبيح المحظورات»، ويعني ذلك أنها مستعدة للتعامل مع «الطاغوت» إذا التقت مصالحهما. لقد قال زعيم «حزب العدالة والتنمية» في المغرب في استجواب مع صحيفة «الأهرام» خلال مشاركته في مؤتمر المعهد الديمقراطي للشؤون الخارجية تحت إشراف كاتبة الدولة في الخارجية السابقة «مادلين أولبرايت»: «لا مجال للفصل بين الدين والدولة وفق العلمانية التي تتبناها تركيا (...) إن مفهوم العلمانية الذي يقوم على الفصل بين الدين والسياسة، بحيث يسير كلاهما بعيدا عن الآخر، هو مخالف لطبيعة الإسلام». علاوة على ذلك، تشكل المرحلة الحالية بالنسبة لسائر جماعات الإسلام السياسي مرحلة إعداد للاستيلاء على السلطة. وهذا ما يفرض عليها التحالف بين سائر تياراتها، حيث تقوم كل واحدة منها بدور مرسوم: الجماعات العنيفة تقوم بالتفجيرات وتسديد الضربات لكي تبين أنه لا يمكن وضع حد للإرهاب إلا بالانصياع لمطالبها. وهذا ما يمكن الجناح السياسي الذي يمثله من يسمون ب «المعتدلين» من القيام بمهمة التفاوض وإنهاء العنف والإرهاب... وبذلك، لا يمكن المقارنة بين «حزب العدالة والتنمية» التركي وجماعات الإسلام السياسي في البلدان العربية والإسلامية. إن الإرهاب يبدأ فكرا. ولا يمكن مواجهة ظاهرته التي تمارسها هذه الجماعات بتكتيكات سياسوية، بل يتطلب الأمر اجتهادات فكرية وعملا متواصلا.... ففقه القرون الوسطى خطير جدا لأنه كان خاضعا لاعتبارات سياسية، ويجب ألا يسمح لأي كان بإصدار فتاوى التكفير والتحريم والقتل والذبح.. وهكذا، يجب أن يُعدَّ تفكيك هذا الفكر ضرورة ملحة وعاجلة بالنسبة لكل مجتمعات الشرق الأوسط. فلا يمكن لهذه المجتمعات أن تتقدم إلا إذا فككته لأنه يعرقل حركتها. كما أنه أصبح يجعلنا نحسّ بالعار والخجل أمام الآخرين. ولكن تفكيكه يفرض علينا الانخراط في معركة فكرية وسياسية كبيرة.