لم تكن لحظة عادية .. تلك التي اجتمع فيها الأحبة والأصفياء لتأبين امرأة استثنائية كان قلبها خزانا للحب في أعمق صوره، والنضال في أبهى تجلياته . خميس ليس ككل الخميسات في آسفي .. المناضلون والحقوقيون وسلالة الوديع الآسفي تقاطروا على المدينة منذ الصباح الباكر، لإحياء الذكرى التأبينية لماما آسية في مسقط رأسها .. هكذا «تواطأت» تلك اللحظة الإنسانية مع جمعية أصدقاء مراكز الإصلاح وحماية الطفولة لتركيب مسار مميز لتلك السيدة التي غافلتها المنون في غفلة من الجميع . الحفل التأبيني الذي احتضنه الفضاء الجميل لنادي كهرماء استطاع أن يجمع وجوها ونخبا وأطرا متعددة .. من مختلف مناطق المغرب .. سياسيون، حقوقيون، فنانون، إعلاميون ورجال دولة .. ديدن الجميع إحياء أربعينية وقول ما يجب قوله في حق راحلة لاقت من الاهتمام و الامتنان في مماتها .. أكثر من حياتها ..! منصة الكلام تحولت إلى مكان للبوح والدموع، ساهم الميكروفون في فضح مكنوناتها . والي الجهة وعامل الإقليم الأستاذ عبد الله بنذهيبة كان أول البادئين .. تخلص الرجل من جبة الرسميين و قيود المسؤولية .. وانطلق في كلمة بسيطة مرصوفة يعدد مناقب الراحلة، مفردا و مفرجا عن العديد من اللحظات التي جمعته بآسية الوديع و كيف كانت هاته المرأة أيقونة زمنها، بل تحدث عن تلك الثنائية التي تجمعت في إسمها، عن عمقها الإنساني الذي خبره بقربها، خاتما كلامه بالتذكير على أن آسفي كانت تاريخيا حاضرة في كل المحطات، وأنجبت رجالات أعطوا الشيء الكثير لبلدهم .. وما تزال البطن ولادة . جميلة السيوري التي تلت كلمة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، لم يسعفها لسانها واندلقت الكلمات متحشرجة .. قالت كل شيء ووجدت في غير ما مرة صعوبة في إكمال شهادتها، فآسية عندما يتذكرها المرء ويتحدث عنها وعما كانت تفعله .. تعترضه صعوبات جمة .. فالعاطفة تكون سيدة اللحظة، جميلة التفتت إلى الحضور ونبست إليه .. من الصعب إيجاد امرأة في حجم ومستوى آسية ، لقد رحلت في لحظة مازالت المؤسسة السجنية والحقل الحقوقي في حاجة إلى إنسانة مثلها . من أقوى الشهادات التي جعلت آل الوديع يكفكفون دموعهم ، أسماء، صلاح ، توفيق، يوسف .. شهادة جمال الجزولي موظف بإدارة السجون، والذي عاشر الراحلة لسنوات عن قرب، بأسلوب أنيق وصوت مجلجل وكلمات مختارة بعناية تمتح من صدق اللحظة، سافر بالحضور في تضاريس علاقة حميمية .. ولم يكد ينهي بوحه حتى وجد نفسه بين ذراعي صلاح الوديع و انخراط في بكاء وعناق طويل .. في الحقيقة .. التقدميون و أهل اليسار .. هم أفضل من يفهمون و يعبرون عن العمق الإنساني بلا مساحيق و بكل الأريحية النفسية الممكنة. مصطفى سجين سابق كان قدره هو آسية الوديع، حكى عن حياته التي كانت أجندة مفتوحة على الانحراف والاعتقال، تحدث عن لقائه الأول ب «ماما» ، وكيف تغيرت نظرته و أفكاره .. متخلصا من ماض أسود ومستعيدا لإنسانية واستقامة فقدها تحت قهر الوقت و قلة العقل .. كانت عفويته وتلقائيته في سرد مقتطفات لاقته مع أم روحية لم تلده بطنها ، لقد جعل القاعة تحبس أنفاسها تأثرا وتماهيا مع صدقية كلمات لشاب كان قاموسه مفتوحا على «ثقافة» الإجرام وحده فقط .... وهكذا .. توالت الشهادات.. رئيس المحكمة الابتدائية بآسفي الأستاذ عبد اللطيف عبيد، مديرة أكاديمية الرباط التيجانية فرتات، النائب السابق للتعليم بآسفي ومراكش حميد اعبيدة، صديقة الراحلة زهور رشاد، سلوى الحجام باسم جمعية أصدقاء مراكز الإصلاح فرع آسفي، ومسك الختام بوح جميل وطويل بصوت في بعض حباله قوة ومخارج من صوت الراحل الشاعر محمد الوديع الآسفي الأب .. لقد كانت أسماء الوديع وهي تتحدث عن أختها زمن النضال والاعتقال والسجون والاضطهاد وسيدة الطرب أم كلثوم ودواوين أبي الطيب المتنبي والنواسيات ودرويش وهلم شعرا عربيا قحا .. أسماء ببلاغة تحفظ لها لوحدها .. أبنت أختها ولقحت كلامها بحميميات وتفاصيل عاشتها مع آسية و الكلام طويل طويل ... الحفل التأبيني أدار فقراته الزميل منير الشرقي بقلب مفتوح .. والذي اختتم على إيقاع موسيقى ثراتية وأمداح تليق باللحظة .