لم تكن وفاة الفقيد محمد بردوزي يوم 11 غشت الماضي، خسارة بالنسبة للفقه القانوني المغربي خصوصا، والحقل المعرفي والثقافي عموما لكن القدر المحتوم لهذا الإنسان الفذ شكل، أيضا، خسارة كبيرة بالنسبة للرصيد المغربي من الشخصيات التي وقع إجماع حول كونها مثالا يحتذى في الإيمان بالقيم الإنسانية النبيلة، والتشبث بها، فكرا وممارسة، سواء في مواقف الشدة، أو في أوقات اليسر والطمأنينة. ذلك هو الانطباع الذي أجمعت عليه شهادات أفراد أسرة الراحل وأصدقائه وزملائه، وكل من عاشره في دروب الحياة، خلال اللقاء التأبيني الذي نظم، يوم السبت المنصرم، في مدينة بومالن دادس (إقليم تنغير)، التي رأى فيها الراحل النور في أحد الأيام قبل 63 سنة. كان البوح بصعوبة، بل استحالة، اختزال شخصية الراحل، أو حتى جزء منها، يتردد باستمرار على ألسنة مختلف الشهادات التي ألقيت في حق الفقيد. لكن هذه الشهادات أجمعت، في الوقت ذاته، على أنه كان طوال حياته يجمع بين العلم الغزير والتواضع الجم، ليستحق بذلك التصنيف ضمن خانة الشخصيات المغربية، التي تركت موروثا ينتفع به أمثال العلامة الراحل محمد المنوني وآخرين. موسوعية الفقيد الراحل وذكاؤه الثاقب أهلاه، عن جدارة واستحقاق، ليحتل موقعا مؤثرا في أبرز المحطات التي ميزت العقود الأخيرة من تاريخ المغرب الحديث. ساهم الراحل محمد بردوزي في صياغة الميثاق الوطني للتربية والتكوين بالمغرب، وفي إنجاز تقرير "50 سنة من التنمية البشرية في المغرب وآفاق 2025". كما ساهم في بلورة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، فضلا عن مشاركته في بلورة مشروع الجهوية المتقدمة، وعضويته في اللجنة الاستشارية، التي أنيطت بها مهمة مراجعة الدستور. ظل حب الوطن، والحلم بمستقبل أفضل لكل أبنائه، حاضرا بقوة في عقل ووجدان الراحل بردوزي حتى آخر لحظات حياته. ذلك ما أكدته الشهادة التي ألقاها في هذا اللقاء التأبيني إدريس اليزمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، حين قال إن الزيارة، التي قام بها للفقيد أياما معدودة قبل وفاته وهو طريح الفراش في المستشفى قصد الاطمئنان على حالته، جعلت الراحل يغتنمها فرصة للتحدث معه حول خطة عمل المجلس بالنسبة للسنوات الأربع المقبلة، رغم إلحاح اليزمي عليه بأن وضعه الصحي يحتم عليه الخلود التام إلى الراحة، إلا أن الراحل بقي متشبثا بطبعه الدائم، وهو التفكير والعطاء ما دام على قيد الحياة. أما أرملة الراحل، بديعة ملوك، فأبرزت، في كلمة مؤثرة، الخصال الإنسانية العظيمة، التي كان يتمتع بها الراحل، والتي كانت تلازمه في حياته الزوجية، كما في تعامله مع الأصدقاء والطلبة والباحثين وعموم من كانوا على معرفة به. كان الراحل بالنسبة لعقيلته، على حد قولها، "زوجا وصديقا" و"معلما لها في طريقة مقاربة المشاكل، والإقبال على الحياة". الجانب السياسي في سيرة محمد بردوزي تحدثت عنه الشهادة التي أدلى بها أحمد حرزني، الرئيس السابق للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي عايش مسارات مختلفة من حياة الراحل، حيث قال عنه حرزني إنه "لم يكن قط يكره السياسة التي كان يمارسها بصدق". وأوضح حرزني أن الفقيد بردوزي "وعى مبكرا بأنه عندما نتوفق في المصالحة بين المعرفة والسياسة، فتلك هي الطريق الصحيح نحو تحقيق حلم النهضة"، معتبرا أنه "حينما تستطيع الأحزاب السياسية أن تستقطب أمثال الراحل محمد بردوزي، فسيكون ذلك بمثابة نهاية للمعضلات التي يعانيها المغرب". الحس الإنساني العميق في شخصية الراحل محمد بردوزي، كانت خديجة مزيان بلفقيه خير مترجم له من خلال الشهادة التي أدلت بها في هذا اللقاء التأبيني، وهي تقاوم دموع وألم فراق "إنسان عرفت بفضله المعنى الحقيقي للحب والصداقة خلال فترة زمنية دامت 20 سنة". خديجة بلفقيه، التي كانت ترتدي زي "تاشطارت"، وهو اللحاف الذي تضعه النسوة في منطقة دادس، لم تتوقف شهادتها عند إبراز تجليات التعامل الإنساني الراقي للفقيد، وإنما عددت، أيضا، بعض القناعات والقيم الوطنية الصادقة التي كان يتقاسمها مع شقيقها الراحل عبد العزيز مزيان بلفقيه، الذي جمعته بالراحل محمد بردوزي علاقة حميمية ومهنية، ومن هذه القناعات "حب الوطن وخدمته". خصال الفقيد محمد بردوزي ومكانته في قلوب الحاضرين في هذا اللقاء التأبيني، المنظم بمسقط رأسه في بومالن دادس، لم يتسع الحيز الزمني المبرمج فيه للإحاطة بها ولو بشكل مختزل. لكن الشهادات المقدمة لامست، على الأقل، بعض الجوانب المضيئة في شخصية الفقيد في أبعادها العلمية والوطنية والإنسانية، كما جاءت على لسان ياسمينة زروق، وعبد الجليل ناظم، وأحساين، وفطوم قدامة، والمهدي بن شقرون، وصلاح الوديع، وطامو الشنا، والطاهر البحبوحي، ومحمد سؤال، ولطفي الغندوري، وفوزية الدكالي وآخرين. هذه المكانة الاستثنائية التي كان ومايزال الراحل محمد بردوزي يحظى بها في قلوب من عاشروه، ومن تعرفوا عليه من خلال ما أسداه من أياد بيضاء خدمة للوطن، جعلت هؤلاء الأصدقاء، وفي مقدمتهم الناشر المغربي عبد القادر الرتناني، يسارعون الزمن من أجل لملمة بعض ملامح الشخصية الموسوعة للفقيد، وإصدارها في مؤلف سيقدم خلال لقاء تأبيني آخر سيحتضنه فضاء المكتبة الوطنية بالرباط، يوم الجمعة 30 شتنبر الجاري، كعربون اعتراف وتقدير بفضائل هذه الشخصية الفذة، التي نذرت حياتها من أجل "صدقة جارية" ينتفع بها الوطن والمواطنون.(و م ع)