تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء    البحرين تشيد بالدور الرئيسي للمغرب في تعزيز حقوق الإنسان    السلطات الجزائرية توقف الكاتب بوعلام صنصال إثر تصريحات تمس بالوحدة الترابية لبلده    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية        بنما تعلق الاعتراف ب "الجمهورية الوهمية"    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    ضربة جديدة لنظام العسكر الجزائري.. بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    جنايات طنجة تدين المتهمين في ملف فتاة الكورنيش ب 12 سنة سجنا نافذا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



على مشارف الرجاء الصالح : الأممية الاشتراكية ومسألة تقرير المصير

يعتبر حق الشعوب في تقرير مصيرها أحد ركائز القانون الدولي المعاصر، فمنذ تبني ميثاق الأمم المتحدة سنة 1945 ، أصبح هذا الحق يشكل القاعدة القانونية والسياسية لعملية تصفية الاستعمار التي فسحت المجال لميلاد أكثر من ستين دولة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكان ذلك بمثابة اكتساح تاريخي غير وجه العالم بالرغم من أن الأمر كان يتقاطع أحيانا مع إرادة بعض القوى الدولية التي كانت تسعى الى تفجير المجالات المحفوظة للإمبراطوريات الاستعمارية آنذاك خاصة منها الأوروبية.
الأممية الاشتراكية كأكبر منظمة سياسية عالمية ظلت منذ نشأتها الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر إلى مؤتمرها الأخير في جنوب افريقيا خلال الصيف الماضي، تستحضرإشكالية تقرير المصير في صلب نقاشاتها الصاخبة التي بصمتها مواقف مشهودةلزعماء وقادة تاريخيين ابتداء من المسالة البولندية والحالة الايرلندية وانتهاء بالقضية الفلسطينية .
لأزيد من قرن ونصف واصلت الأممية الاشتراكية معالجتها لحق الشعوب في تقرير مصيرهاعبر مواقف مبدئية و مقررات سياسية تدونها في أديباتها وتتفاعل من خلالها مع الكثير من الأحداث والتطورات التاريخية في مختلف أرجاء العالم.فبأي معنى يكون استيعاب هذه المرجعية في ثوابتها ومتغيراتها مفيدا في فهمنا لتعاطي الأممية الاشتراكية معقضية الصحراء المغربية؟
في البداية لابد أن نستحضر هنا ما قالهالزعيم الفرنسي الراحل شارل دوغول عندما اعتبر أن " السياسة ابنة التاريخ والتاريخ ابن الجغرافية" ولعلنا لن نضيف جديدا الى مغزى حكمته اذا سلمنا أن التاريخ بطبعه ماكر والجغرافية بطبيعتها عنيدة. فكيف تكتسب السياسة معناها بين مكر الصيرورة وعناد السكون؟لنفحص ذلك مع أقدم وأكبر حركة سياسية عابرة للتاريخ والجغرافية في زمننا المعاصر.
الأممية الأولى تحو التضامن العالمي 
في احد الايام الباردة من خريف سنة1864 احتشدت برواق سان مارتن بلندن وفود عمالية جاءت من مختلف أقطار اوروبا مفعمة بالحماس ومندفعة نحو موعد حاسم، موعد سيصنع حدثا متميزا عن جميع الأحداث التي عاشتها التنظيمات النقابية منذ نشأتها بإنجلترا قبل اربعين عاما من هذا التاريخ.
في هذا العقد السادس من القرن التاسع عشر كانتالثورة الصناعية بدأت تفجر أولى تناقضاتها الاجتماعية وتفسح المجال لبروز أشكال جديدة من النضال والتضامن، لذلك غادرت طلائع العمال الثوريين في ذلك اليوم مواقعها في المطابع و أوراشالبناء ومصانع النسيج في عواصم أوروبية ، وحملت آلامها وبعضا منآمالها الى عاصمة الملكة فيكتوريا من أجل تأسيس اطار جديد للعمل المشترك عرف ب"جمعية الشغيلة العالمية"
هذه الجمعية التي وضعت كأهداف لها تنسيق الكفاح النقابي والشعبي على الصعيد العالمي وشكلت لهذا الغرض مجلسا عاما وفروع وطنية،لم تكن سوى الصيغة الأولى للأممية الاشتراكية ،أما المحرك الرئيسي لهذه المبادرة التاريخية والذي حرر مقتضيات النظام الأساسي للجمعية وبرنامجها السياسي، فلم يكن سوىمثقف ألمانيلاجئ في لندن، ينشر المقالات ويكتب المؤلفات تحت وطأة فقر مدقع يكاد يفترس كيانه دون أن يثنيه عن ادمان التفكير في تشكيل الطبقات العمالية الأوروبية و صراعاتها الحاسمة مع الرأسمالية الصناعية، هذا الرجل الذي لم يكن ينام إلا أربع ساعات في اليوم ولا يهدأ له بال الا بالانخراط في جمع شمل الحركة العمالية وتحريضها على الثورة العالمية، هو كارل هنريك ماركس الذي أطلق صرخته الشهيرة "ياعمال العالم اتحدوا " ليصير بذلك أبا روحيا للنضال الأممي والمؤسس الأول لحركة التضامن العالمي.
. هكذا أسس ماركس ورفيقه أنجلز ما سيعرف بالأممية الأولى على أساس تجميع كل منظمات وقوى الطبقة العاملة في أوروبا وصياغة تكتيك وحيد لنضالها في كل العالم في سبيل دحرنظام الرأسمالية وإقامة حكم الطبقة العاملة.
صحيح ان هذه الحركة الأممية لم تستطع أن تعمر طويلا في صيغتها التأسيسية اذ سرعان ما دبت في أوصالها خلافات حادة ما بين كارل ماركس من جهة والتيار الفوضوي بزعامة باكونين وبرودون من جهة ثانية، ولم يشفع للمنظمة طرد هذين الأخيرين من صفوفها ولا حتى نقل مقرها فيما بعد الى نيويورك حيث سيطويها النسيان بعيدا وراء المحيط الى أن أعلن عن حلها رسمياً اجتماع فيلادلفيا الموسع عام 1876.
الأممية الثانية واعادة البناء:
كان واضحا أنالأممية الأولى انهارت بفعل تناقضاتهاالذاتية حيث لم تستطع أن ترقى إلىإيجاد الحل الأمثللتلك المعادلة الراسخة في عمق مشروعها، والذي يفترض فيه الاحتكام باستمرار إلى البراد يغم الأمميدون إغفال المنطق الوطني.
غير أن فكرة الأممية ستظل حية في أذهان الاشتراكيين الأوروبيين الذين بادروا بعد مضي ست سنوات على وفاة ماركس الى ضرب موعد آخر هذه المرة في باريس ، حيث سيعقدون مؤتمرا بمبادرة من فريدريكانجلز فييوليوز من عام 1889لتأسيس أممية ثانية سيمتد اشعاعها في الساحة الدولية لزهاء ستة عقود قبل أن تنهار تحت ايقاع النقاش الصاخب الذي فجرته ذات المعادلة عندما بدأت الحرب العالمية الأولى تقرع طبولها،ولم يحسم الخلاف حول الموقف من المشاركة في هذه الحرب الا بالانشقاق بين الاشتراكيين المنخرطين في الحرب بوازع وطني ورفاقهم المقاطعين لها بهاجس أممي.
من جديد ستنبعث الاشتراكية الدولية على أنقاض الأممية الثانيةفي منتصف القرن العشرين حيث ستعقد الأحزاب العمالية والاشتراكيةسنة 1951مؤتمرا في فرانكفورت لإعادة بناء المنظمة وارساء مرجعيتها الجديدة التي حسمت توجهها السوسيوديموقراطي وأعلنت إدانتها الصريحةللرأسمالية والشيوعية على حد سواء.
أكيد أن المسار العام لنشأة وتطور الأممية الاشتراكية قد علقت به كثير من الأوهام، وأن بعضا من يقينياته المذهبية آل في نهاية المطاف إلىالإفلاس المخزي، غير أن المرء عندما يستحضر شريط هذا المسار التاريخي الحافل وهو يتجه في علياء السماء نحو آخر نقطة في اليابسة تطل على القطب الجنوبي من أجل موعد آخر مع هذا التجمع السياسي العابر للقارات والأزمان، لابد أن يتساءل ان كان هذا المسار مجرد حوادث وشخوص مضت واندثرت وسلسلة تغلبات لساسة بعضهم على بعض، أم أن وراء هذه الأحداث وفي ثنايا تلك التغلبات دلالات وعبر قد تسعفنا في إدراك الرهانات الأساسية لمؤتمر كيب تاون، آخر مؤتمر عقدته الأممية الاشتراكية مابين أواخر غشت وبداية أكتوبر من هذا العام، ولكنه كان كذلك أولمؤتمر لها تعقده على أرض القارة الإفريقية، وأول مؤتمر تستدعيه بعد الثورات العربية ، وأول مؤتمر منذسنوات الحرب الباردة يفتح جدول أعمالهعلى احتمالات مراجعة الذات وإعادة بناء التوازنات .
لاتدعي هذه الورقة الاحاطة الشاملة بكل القضايا التي طرحها هذا المؤتمر التاريخي المنعقد في هذا السياق و بهذه المواصفات، بل ما يهمنا أساسا هو التركيز على قضية مركزية واحدة ، في صلبها تقاطعت كثير من الرهانات وتبعثرت العديد منالحسابات، إنهاإشكالية تقرير المصير التي تجدد طرحها مرة أخرى في أشغال هذا المؤتمر بعد أن ظلت حاضرة بقوة في الانتاج النظري والتعبير السياسيللأممية الاشتراكية على امتداد تاريخها الطويل.
فكيف قارب مؤتمر جنوب افريقيا هذه الاشكالية في ضوء التحولات الجارية والرهانات الاقليمية ؟ وما هو الرأي الذي استقر عليه نظر الأممية الاشتراكية بخصوص سؤال تقرير المصير في علاقته بقضية الصحراء المغربية.
على مشارف الرجاء الصالح
من مطار كيب تاون الى قلب المدينة كانت المروج الخضراء ترتمي على جنبات الشوارع ملتفة حول عشرات المباني الحديثة والعمارات الشاهقة ، هذه المدينة التي تأسست في منتصف القرن السابع عشر كانت في الأصل مرفأ للسفن الهولندية المبحرة إلى شرق افريقيا والهند وقارة آسيا قبل أن تتحول الى حاضرة عصرية كبرى تعتز بتراثها المعماري الباذخ وتجعلك في نفس الآن تعتقد وأنت تخترق شوارعا الفسيحة، أنك تهيم في جادة مانهاتن الصاخبة بألوان البشر.
هذه اذن هي العاصمة التشريعية للبلاد ، في ملامحها الأخاذة يلتقي الماضي بالحاضر وعلى شواطئها الساحرة تلتقي ضفاف المحيطين، ونحن اذن على مرمى حجر من رأس الرجاء الصالح، ذلكالمعبر الفاصل الذي كان من أهم أسباب انهيار الامبراطورية العثمانية حين حول حركة التجارة العالمية عن مسالك مرورها بدول الخلافة، وكان ملك البرتغال جون الثاني وهو يطلق اسم رأس الرجاء الصالح على هذا الموقع انما يعبر عن ابتهاجه باكتشاف طريق بحري إلى الهند يغني أوروبا عن سلوك طريق القوافل البرية المعرض للخطر ، لذلك تنهد الرحالة ماجلان عميقا عندما اكتشف هذا الطريق و قال "اليوم لففنا الحبل حول عنق المسلمين ولم يبق إلا جذبه ليختنقوا "
لامناص إذن من أن تنبعث من هذا الموقع الجغرافي العابق بالتاريخ إيحاءات استبشار ألهمت بعض الزعماء الاشتراكيين الذينتناوبوا على منصة المؤتمر في جلسته الافتتاحية، و استهلوا خطبهم باستحضار رمزية المكان والابتهاجبالتواجد على مشارف رأس الرجاء الصالح راجين أن يكون هذا المؤتمر هنا والآن فاتحة خير للإنسانية جمعاء.
وإذا كان هؤلاء الخطباء قد استبشروا ولوعلى سبيل المجاز بالأمل في التوصل إلى أجوبة شافية عن الإشكالات المستعصية المطروحة على جدول أعمال المؤتمر، والتي تخص أساسا منظور الأممية الاشتراكية لاقتصاد ضامن للشغل والنمو والحماية الاجتماعية في ظل عولمة مالية منفلتة من كل ضابط أو رقيب، فضلا عن آليات تعزيز المسارات الديمقراطية وفض النزاعات بكيفية سلمية، إذا كان هؤلاء لم يروا بأسا في الاستعارة الرمزية لدلالة "الرجاء الصالح" من أجل انجاح رهان المؤتمر،فان قادة جبهة البوليساريو عندما وقفوا على مشارف رأس الرجاء الصالح لم يبتهجوا لاكتشاف طريق جديد يغنيهم عن مواصلة السير في مسالك السراب ، وإنما رقصوا طربا من شدة اليقين بأن شأنهم سيكون شأن الرحالة النصراني وأنهم سيصيحون على منواله "اليوم لففنا الحبل على عنق المغاربة ولم يبق إلا جذبه ليختنقوا".
كل المؤشرات كانت تجعل الانفصاليين يعتقدون بأنهم في هذا المؤتمر سيلعبون في قلب معسكرهم وأنهم بالتالي سيقطفون لا محالة صفة العضو الكامل في المنظمة قبل أن ينتزعوا منهاقرارا جديدا يزرع شحنة أقوى في أطروحتهم الانفصالية.
كل الاستعدادات كانت جارية لاكتمال الحفل ولم يبق سوى أن يدخل قادة الانفصال دخول الفاتحين ، لكن لحظات خاطفة كانت كافية ليتحول كل شيء الى مشهد بسيكو درامي مثيرطوح بوفد البوليساريو نحو حافة انهيار عصبي من افتتاح المؤتمر إلى ختامه، فلا هم أكملوا عضويتهم في الأممية الاشتراكية ولاهم تسللوا الى أجندة الكبار، ولاهم حتى فهموا لماذا تجري الرياح هنا بما لا يشتهون.
خطاطة الحرب الباردة:
كثيرا ما تجرع الانفصاليون خيبات الأمل التي كانت في كل مرة تزيد من شدة حيرتهم واحباطهم ازاء هذه المنظمة، فمنذ انضمامهم الى الأممية الاشتراكية كعضو ملاحظ في مؤتمر أثينا (يوليوز2008)،ظلوا يكثفون جهودهمالاستعطافية ومناوراتهم الابتزازية، محاولين في كل مناسبة تصوير أنفسهم كممثلين شرعيين لشعب أعزل تتم إبادتهفوق أرضه التي يحتلها المغرب بقوة الحديد والنار، وقد كشفت جبهة البوليساريو عن جهل فظيع بمنظومة الاشتراكية العالمية عندما اعتقدت أن الأممية الاشتراكية هي الفاعل الدولي الأكثر جاهزية لاحتضان أطروحتها الانفصالية وأن فعالية البروبغندا التحررية كفيلة باختراق هذه المنظمة وانتزاع المواقف الداعمة من أجهزتها.
غير أن المقررات التي كانت تصدرها اجتماعات مجالس الأممية ولجانها حول قضية الصحراء ظلت لاعتبارات عديدة في مقدمتها يقظة الاشتراكيين المغاربة وفعالية تحركاتهم، مستقرة في صيغة حذرة و ثابتة تكتفي بتأكيد مبدأ تقرير المصير معدعوة الطرفين الىاحترام حقوق الإنسان و مواصلة التعاون مع الأمم المتحدة من أجل الحل العادل والنهائي للنزاع.
لم تكن الخطاطة المستقرة في عقل البوليساريو تسمح له بأن يفهم لماذا تقف الأممية الاشتراكية عند هذا الحد المتحفظ ولا تذهب بعيدا في اسناد الانفصال الصحراوي وتفعيله على أرض الواقع. من المؤكد أن تلك الخطاطة قد تجمدت منذ وهلتها الأولى فيمحرار الحرب الباردة و لم تعد صالحة لقراءة ما يجري في العالم من حولها.
ومن الواضح والحالة هذه أن جبهة البوليساريولم تنتبه في أي لحظة الى أن الأممية الاشتراكية حركة سياسية عريقة راكمت على امتداد تاريخها لأكثر من قرن ونصف عصارة التفكير السياسي بشأن حق تقرير المصير ورسخت في هذا الصدد مبادئ ثابتة ومواقف خاصة حتى قبل نشأة الأمم المتحدة وارساء المفاهيم المعاصرة للقانون الدولي.
أبغض الحلال حق الانفصال:
لقدلجأ مؤسسو الاشتراكية إلى نهج مقاربة استراتيجية وبرغماتية تشخص مطلب تقرير المصير في مدى تأثيره السلبي أو الإيجابي على حركة التطور التاريخي للمجتمعات في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، مماجعل هؤلاء المؤسسين يصفون الحركات الانفصالية المطالبة بحق تقرير المصير بأنها تارة "رجعية" وتارة أخرى "تقدمية".
وهذا ما يفسر مواقف ماركس وأنجلز من أحداث عام 1848 في النمسا والمجر ، وكذلك موقفهما المعروف من المشكلة الايرلندية، و من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على المكسيك واستولت بنتيجتها على مناطق غنية وضمتها إلى أراضيها . كما يفسر أيضا لماذا كانت روزا لوكسمبورج الوجه البارز في الأممية الاشتراكيةتبدي تحفظا شديدا من مقولة تقرير المصير متسائلة في حوارها معكارل كاو تسكيبخصوص المسألة البولندية كيف يمكن التحقق من إرادة أمة من الأمم؟
ان الدراسة المتأنية للنصوص الماركسية التي وردت في هذا الشأن، تفرض علينا الاستنتاج بأن معلمي الاشتراكية الأوائل كانوا يرجحون مبدأ الدولة الواحدة الموحدة مع إقرارهم ضمن توصيفات واشتراطات معينة، بحق الأمم في تقرير مصيرها، على أساس أن يكون هذا الحقمنسجما مع حركة التطور التاريخية،أي أن يكون متوافقا مع مصالح الطبقاتالاجتماعية الطليعية، التي تتجسد كما عند جميع الأمم
في وحدتها وكفاحها المشترك وليس في تفككها وانضوائها تحت رايات قومية متنافرة.
يعني ذلكأنالانفصالفي تصور هؤلاء الروادالاشتراكيين يجب ألا يفضي إلى إقامة دولة قومية مستقلة ترتد فيها التشكيلةالاقتصادية والاجتماعية إلى الوراء مقارنة بالدولةالأم، أي أن لا تولد دول إقطاعية مثلا منرحم دولة تسود فيها علاقات الإنتاجالرأسمالية.
في نفس الاتجاه صار لينين عندما كانيحاول النظر في سؤال تقرير المصير من وجهة النظر الماركسية، حيث لم يكن يستقصيالجواب من التعاريف القانونية المستقاة من شتى أنواع "المفاهيم العامة" للقانون،بقدر ما كان يبحث عنه في دراسة الحركات القومية دراسة تاريخية اقتصادية .
وعلى الرغم من أن البلاشفة كانوا قد أدخلوا في برنامجهم الحزبي منذ عام 1903 اعترافا صريحابحق الأمم في تقرير مصيرها من منطلقات سياسية واقعية، إلا أنهم لم يبتعدوا كثيرا عن أفكار ماركس وإنجلز في هذا الشأن، ففيكتابه المعروف (عن حق الأمم في تقرير مصيرها) الصادر عام 1914، كتب لينين " إنإقرارنا بهذا الحق لا يعني التشجيع على الانفصال وإنما لتعزيز انتصارنا في مسار نضالي ضد التوجهات القومية عند هذه الأمم....وفي سبيل وحدتها الأممية المتراصة ضدا على محاولات البرجوازية لجرها إلى الانكفاء على قضاياها القومية".
وبعيدا عن تلك النظرة الحقوقانية الجامدة كما تتجلى اليوم عند بعض خصوم وحدتنا الترابية، نجد لينين يوضح في نفس الكتاب بأن "...الاعتراف بحق الأمم في الانفصال لا يعفي الماركسيين من دعوة الأمم المضطهدة إلى التخلي عن فكرة الانفصال، إنه كحق الطلاق الذي لا يمنع من الدعوة إلى نبذ الطلاق"
هكذا كان الاشتراكيونالديمقراطيون وبعدهم البلاشفة وعامة المركسيين، يدركون ما ينطوي عليه مبدأ حق تقرير المصير بالانفصال عن الدولة التاريخية وإنشاء دول قومية مستقلة ، من مخاطر قد تهدد مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي، وتؤدي الى تفشي روح العداء القومي وتمزيق النسيج الاجتماعي، وهو ما انتبه اليه لينين عندما أكد على أنالتنوع الثقافي والاجتماعي في الدول المتعددة القوميات يساهم بفعالية في تطورها ويجعلها أكثر قدرة على الإبداع مقارنة بدولة القومية الواحدة.
تلكم فقط بعض من الاعتبارات التيجعلت الاشتراكيين الديمقراطيين يلتزمونالحذر والتأني عند التعامل السياسي مع هذا المبدأ كخيار لحل مشاكل القوميات، فالمكونات السكانية المتنوعة لأغلب دول العالم، والتي تعايشت مع بعضها منذ زمن مديد على أرض تاريخية واحدة وتمازجت في نسيج اجتماعي وثقافي واحد، ستكون مهددة على الدوام لأن تكون عرضة لتأثير المغامرين والمتعصبين القوميين أو الدينيين أو الطائفيين، الذينتدفعهم رغبتهم الجامحة للسلطة إلى تمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي في أي من هذه البلدان متذرعين بحق تقرير المصير!
الديموقراطية أولا:
في نفس هذا التوجه الواقعي مضت حركة الأممية الاشتراكية تتفاعل مع التحولات الكبرى للقرن العشرين،حيث ظلت تحرص في اجتماعات أجهزتها على تنسيب مبدأ تقرير المصير والتعاطي معه ليس بكيفية آلية ودغمائية، وانما حسب الحالة والسياق مستحضرة في ذلك جملة من الاعتبارات السياسية والإيديولوجية المؤطرة لفعلها في الساحة الدولية.
وحتى إذا استحضرنا ما ورد في البيان الصادر عن المؤتمر الرابع للأممية الثانية المنعقد في لندن عام 1896 من إقرار صريح بالحق الكامل لجميع الأمم في تقرير مصيرها،فإننا لن نجد خارج النص المقتضب الذي تمت صياغته بعد نقاش صاخب، أي تفصيل أو تفسير لهذا الموقف.
أما اعلان المبادئ الذي تبناه المؤتمر الثامن للأممية الاشتراكية المنعقد بستوكهولم في يونيو 1989 ، والذي يشكل وثيقة مرجعية أساسية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، فقد نص على أن الحركة من أجل تقرير المصير الديموقراطي ينبغي ان تظل متشبعة بروح الاجتهاد مادام كل شعب وكل جيل يبقى ملزما بتحديد غاياته الخاصة .
وبمناسبة الذكرى الخمسينية لإعادة بناء الأممية الاشتراكية أعلن مجلس الأممية المنعقد بلشبونة في يونيو 2001 أن الأممية اذ تواصل دعمها لحق تقرير المصير ، فإنها تعتقد أن الحكامة الديموقراطية ، بما تتضمنه من حقوق الانسان وعدالة وتكافؤ للفرص الاقتصادية، يتعين ان تتحول عبر العالم إلى حجر الزاوية لدى جميع الأمم والقوميات.
نخلص إلى أن الأممية الاشتراكية عبر تاريخها المديد ومن خلال روادها الفكريين وقادتها السياسيين لم تتعامل أبدا مع حق تقرير المصير كحق ثابت غير قابل للتصرف، ولا بصفته رافعة أساسية لنضال الشعوب من أجل التقدم والارتقاء، ففي بداية مشوارها الماركسي ربطت الأممية هذا الحق بمدى مساهمته في /أو تعطيله للتطور التاريخي العام، وفي سياق تحولها نحو الاشتراكية الديمقراطية أدرجت تصريفه ضمن الاجتهاد السياسي للشعوب والأجيال، ومع بداية الألفية الثالثة جعلت هذا الحق يخضع كلية لمبدأ الحكامة الديمقراطية.
 :حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني
واذا عدنا الى مؤتمر كيب تاون الأخير، فإننا نجد هذه المنظمة الأممية التي تنتصر لقيم الحرية والتسامح والمساواة وغيرها من المبادئ المؤسسة للاشتراكية الديمقراطية، حتى وهي تستحضر التجربة الديمقراطية التي تحققت على مستوى اقليم كردستان العراق و اكتسابهاللشرعية الدستورية والقانونية في اطار نظام الحكم الذاتي، فقداعتبرت في بيانها الختامي أن المسألة الكردية بصفة عامة تتطلب جوابا متعدد الأطراف يشمل ممثلين عنالدول المقتسمةلوطن الأكراد(العراق وايران وتركيا وسوريا) والشعب الكردي بتعاون مع الأمم المتحدة، حيث أعلن المؤتمر في هذا السياق قراره بتجديد الدعوة الى فريق العمل الخاص حول القضية الكردية لاستئناف عمله من أجل انماء وحماية حقوق الشعب الكردي وأمنه وتحسين شروط حياته بما يتلاءم مع القانون الدولي
وعلى الرغم من المحولات المتكررة لجبهة البوليساريو والحزب الحاكم في جنوب افريقيا ، لإسقاط ملابسات القضية الفلسطينية على النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، فقد كانت الحالة الوحيدة التي جددت فيها الأممية خلال هذا المؤتمر ربطها بين تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة هي الحالة الفلسطينية، حيث أكدت المنظمة التزامها الثابت بالعمل على اعتراف الأسرة الدولية بدولة فلسطين في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية? وانضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة? تكريسا لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والحرية والعدالة والكرامة.
الانفصاليون وحلفاؤهم من خصوم الوحدة الترابية للمغرب استعدوا كثيرا لهذا المؤتمر الذي حسبوا أنه سيشكل منعطفا استراتيجيا في تعاطي الأممية الاشتراكية مع أطروحتهم الانفصالية، في البداية سعوا الى استغلال أحداث اكديم ازيكفي مجلس الأممية الاشتراكية المنعقد بباريس في نوفمبر 2010، وهو المسعى الذي تصدى له وفد الاتحاد الاشتراكي بقوة مما جعل المجلس ينتبه إلى الفخ ويتجنب الزج بالأممية في إصدار أحكام متحيزة بخصوص هذه الأحداث ليكلف رئيسة لجنة المتوسط (القيادية في الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني) بتسهيل التفاهم بين الاتحاد الاشتراكي وجبهة البوليساريو عبر تشكيل فريق عمل لهذا الغرض.
بعد ذلك لجأوا الى استثمار تداعيات ما سمي بالربيع العربي حيث حاول وفد الانفصاليين في مجلس أثينا (يوليوز 2011) اقحام نزعته الانفصالية في منطق الثورات العربية ضد الاستبداد، غير أن تدخلات الاشتراكيين المغاربة حول الطابع الجيواستراتيجي لهذا النزاع المفتعل وملابساته الحقيقية جعلت المجلس في ختام أشغالهيجدد تأكيده على دعمه لحل سلمي ودائم في إطار الأمم المتحدة وحث لجنة المتوسط على مواصلة عملها بهذا الشأن .
وعندما فشل ممثلو جبهة البوليساريو في استثمار أحداث العيون وسياق الربيع العربي لصالح أطروحتهم، اعتبروا أن آخر فرصة بقيت أمامهم هي انعقاد لجنة إفريقيا أواخر شهر يوليوز في برايا عاصمة الرأس الأخضر، و التي يمكن أن توفر لهم الساحة المثلى لإنجاز قفزتهم النوعية الأخيرة قبل مؤتمر جنوب إفريقيا ، الا أن هذا الاجتماع لم يكن سوى مناسبة استمع فيها أعضاء اللجنة الى عروض للوفد الاتحادي حول مخاطر النزعات الانفصالية والارهابيةعلى تماسك وحدة الدول واستقرار الأوضاع في الساحل وجنوب الصحراء،ليعلن الأمين العام للمنظمة بعد ذلك ضرورة مواصلة المسار الذي انطلق في مدريد ضدا على المطلب الملح للبوليساريو بتحويل الملف من لجنة المتوسط الى لجنة افريقيا ، وينتهي الاجتماع بإصدار مقرر بشأن الصحراء لم يخرج عن نطاق المقررات السابقة .
واضح أن الأممية الاشتراكية التي تعتبر بعد الأمم المتحدة ثاني أكبر منظمة عالمية، والتي تضم حاليا حوالي خمسين حزبا من أعضائها يتولى مسؤولية الحكم ،الى جانب أن الأحزاب العمالية والاشتراكية الأخرى التي تشكل اليوم قوة سياسية فاعلة في الأنظمة الديموقراطية عبر العالم وطليعة النضال من أجل الديموقراطية في مختلف القارات ،واضح أن هذه المنظمة عندما تلتزمالكثير من الحذر في التعامل مع الحق في تقرير المصير، فإنها تدرك بتجربتها الطويلة أن هذا الحق يمكن تسخيره من لدن بعض القوى النافذة (اقليمية أو دولية) وأن الانفصال المؤدي الى انشاء دولة جديدة لا يخضع دائما لمعايير موضوعية وقانونية،بل يشكل في الغالب مساسا بحق الدول في الحفاظ على سيادتها، ووحدتها الجغرافية، مما يُدخل حق تقرير المصير في إشكالية لا حصر لها في القانون الدولي المعاصر، ويجعل من الصعب ان لم نقل من المستحيل الحديث اليوم عن حق تقرير المصير بالمفهوم الكلاسيكي ، باستثناء الاحتلال الإسرائيلي طبعاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.