توضيح: في أفق انعقاد مؤتمرنا الوطني التاسع، أتقدم بهذه المساهمة كمناضل اتحادي، وهي تتضمن مجموعة من الأفكار والمقترحات والآراء المتجهة نحو المستقبل، من أجل تعميق النقاش داخل صفوفنا، وذلك لقناعتي الراسخة وإيماني العميق بأن الحوار الهادئ البناء، والإنصات الناضج لبعضنا البعض هو الكفيل بتأسيس ثقافة سياسية جديدة داخل حزبنا. تقديم ينعقد المؤتمر التاسع لحزبنا، في سياق تاريخي وطني إقليمي ودولي مرتبط بأحداث كبرى، لها تأثير كبير على مسارات التحول الجارية في بلادنا، ونفترض أن يكون لها أيضاً دور هام في بناء التصورات والمواقف، التي سيدور حولها النقاش في مؤتمرنا. وإذا كنا نسلم بأن الشأن السياسي في الممارسة الحزبية، شأن يومي مرتبط بأسئلة المجتمع، وسياقات تحوله الدائمة، فإن ما سنحاول تعيينه في هذا المشروع، من تصورات وإجراءات، يندرج ضمن هذا الإطار، وذلك دون إغفال الإشارة إلى الجدليات التاريخية والسياسية، المترتبة عن علاقات الممكن بالمتوقع والمأمول، من أجل تحديد المواقف التي تتطلبها المرحلة. ينعقد مؤتمرنا التاسع في لحظة تراجع كبرى في مشهدنا السياسي، حتَّمت على حزبنا خيار المعارضة، بهدف حماية المكتسبات مع فتح آفاق جديدة، وهو ما يحملنا مسؤولية تاريخية نحو ترسيخ المشروع الديمقراطي الحداثي. وفي هذا السياق، إن محتوى هذا المشروع - سواء في المقدمات التي يستوعبها، أو في المنطلقات والأهداف التي يوضحها - لا يقدم بديلا للأرضية التوجيهية لمؤتمرنا، بقدر ما يشكل مساهمة في إغناء النقاش العام، وهو يستوعب في الوقت نفسه، مشروع برنامج في التصور والعمل، يشكل منطلقا لتعاقد جديد، يقضي أن تكون المحاسبة على أساس التصورات والبرامج المرتبطة بتقلد المسؤولية. لا نخوض في هذا المشروع الذي نضعه أمام المؤتمر في التفاصيل والجزئيات، قد لا تكون لها مردودية منتجة، على حزبنا ونمط أدائنا السياسي. وإنما ينصب اهتمامنا أساسا على أسئلة الراهن في مجتمعنا وفي مشهدنا السياسي، وذلك في ضوء التحولات التي تجري في بلادنا وفي محيطنا الإقليمي وفي العالم من حولنا. إننا نعتقد أن التفكير في حاضر ومستقبل حزبنا، لا يمكن أن يكون إيجابيا، إلا عندما نفكر في واقعنا السياسي وأداتنا الحزبية، في سياق الشروط التاريخية والسياسية المرتبطة بهما. لا نكتفي في هذا المشروع برسم ملامح الشروط العامة المؤطرة لأدائنا السياسي، بل نتجه إلى بناء تصورنا للمهام المنوطة بحزبنا، وذلك في ضوء عودته إلى المعارضة. وفي هذا السياق، نعلن أننا نقدم المعارضة البديلة لما هو قائم اليوم، وسنوضح في المحور المتعلق بهذه المسألة، أبرز منطلقات هذه المعارضة، كما سنقف أمام المهام المطروحة عليها. ويستوعب هذا المشروع أيضا، محورا ينصب فيه تفكيرنا على الأداة الحزبية، والأدوار المطلوبة منها في ضوء متغيرات المجتمع. فإذا كنا نطالب منذ عقود بمغرب المؤسسات ودولة المؤسسات، فلا يعقل ألا نُصوِّب النظر نحو أداتنا الحزبية، بهدف التفكير في كيفيات تجاوز مآزقها وأزماتها، لنتمكن من بناء الحزب المؤسسة، وذلك بتطوير الديمقراطية الداخلية، والتأسيس لحكامة جديدة. المحور الأول: الاتحاد الاشتراكي في عالم متغير نتجه في هذا المحور إلى معاينة أهم القضايا التي يطرحها إيقاع التحول الجاري في مجتمعنا وفي العالم. فلم يعد بإمكاننا أن نفكر اليوم، في معضلات حزبنا وأدائنا السياسي، دون محاولة فهم أنماط التغيير الصانعة لكثير من الأحداث والظواهر، في ثقافتنا ومجتمعنا. إن الثورات التي يعرفها العالم في العقود والسنوات الأخيرة، في مجالات المعرفة والقيم والتقنيات، والمآزق والأزمات الصانعة لكثير من مظاهر التوتر في العلاقات الدولية، تدعو مجتمعنا وفي قلبه حزبنا إلى نسج تفاعلات يقظة وإيجابية مع مختلف ما يجري من وقائع وأحداث. وذلك قصد بناء التصورات والمواقف التي تمكننا من التفاعل مع الظواهر الجديدة، والعمل في ضوء مقتضياتها، بالصورة التي تؤهلنا من الانخراط الإيجابي والفاعل في مجتمعنا وفي العالم. إننا نعتقد أن الأحزاب مثل كل الظواهر والمؤسسات داخل المجتمع، مشروطة في أشكال أدائها بسياقات وشروط عامة متعددة، تترك آثارها بصورة أو أخرى على المسار العام لهذه الظواهر والمؤسسات، ومن بينها الحزب الذي يجمعنا، والذي نحن مطالبون بالتفكير في كيفية إعادة بنائه. فلا يعقل، بمنطق العقل والتاريخ، أن نحول المبادئ والمقدمات التي توافقنا بشأنها إلى مطلقات، بحكم أن التحولات التي تجري في التاريخ، تضعنا باستمرار أمام خيارات جديدة. ومن حق حزبنا أن يرتب - في ضوء تفاعله معها - المبادئ والأهداف، وكذا الإجراءات التاريخية المناسبة لمشروعه في الإصلاح والتقدم. نريد أن نشخص هنا أهم المتغيرات الصانعة لما يجري في العالم، والتي نفترض أنها مرتبطة بجوانب هامة من حياتنا السياسية. ونقصد بذلك الثورات التي عرفها العالم في مجال الاتصال والتواصل، والتي نعتبر أنها موصولة بالتطور الحاصل في نمط الإنتاج الرأسمالي المعولم، والثورات التي عرفتها تقنيات المعلومات. ثم نشير إلى التطور الذي عرفته أشكال الاحتجاج في العالم، والصور التي اتخذت هذه الأشكال فيما أصبح يعرف ب " الربيع الديمقراطي " وقد شمل كثيراً من بلدان العالم. ومن المعلوم أن رياح الاحتجاج المشار إليها، شملت مجتمعنا أيضا، حيث برز فاعلون جدد في مشهدنا السياسي، كما استعملت أنماط احتجاج وآليات جديدة لم تكن مألوفة في محيطنا السياسي. لا ينبغي أن نغفل الإشارة هنا، إلى أن هذه الحركات تزداد اتساعا، وتساهم بطرق مختلفة في عولمة أنماط الاحتجاج، المتجه لمواجهة التحديات التي تفرزها عمليات التعولم الكاسحة. أما القضية الأخرى المحددة لسمات التغير في عالمنا، فتتعلق بما يمكن أن نطلق عليه أزمة المنظومات السياسية والفكرية، وعدم قدرة أنظمة الفكر والثقافة في عصرنا على ملاحقة إيقاع التغير الحاصل في عالم لم يعد يستقر على نظام محدد، لا في أنماط علائقه ومؤسساته وقوانينه، ولا في الأفكار والقيم التي يفترض أن تكون عنوانا للنظام والتوازن. ولهذه الأزمة، كما سنرى، علاقة بجوانب عديدة من القضايا الفكرية والسياسية في مجتمعنا وثقافتنا السياسية. تضعنا القضايا المذكورة، أمام أبرز المتغيرات المؤثرة في خياراتنا السياسية وبرامجنا في الإصلاح والتغيير. وسنحاول في هذا المشروع التوقف أمام جوانب من سماتها العامة، لترتيب المواقف المناسبة. وذلك من أجل أن يظل حزبنا يقظا وفعالا، وقادراً على بناء تصوراته ومقترحاته، في تفاعل إيجابي ونقدي مع مستجدات العالم وقضايا التاريخ في أبعادها المختلفة. { { أولا : الاتحاد ومقتضيات التعولم: ينعقد مؤتمرنا في ظرفية جديدة، تتسم أساسا بوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة، وعودة حزبنا إلى موقع المعارضة. ولا يمكن أن تفوتنا محطة المؤتمر، وهو المجال الطبيعي لبلورة خياراتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دون التفكير في ضوء الأرضية التوجيهية لمؤتمرنا، في بناء مشروع متكامل، قادر على التجاوب مع مقتضيات المرحلة، ومتطلباتها الهادفة إلى مزيد من الفرز السياسي. حيث نتصور أن نجاحنا في هذه المهمة، يؤهل مشهدنا السياسي لقطبية سياسية واضحة الملامح، الأمر الذي يتيح لحزبنا ممارسة المعارضة البديلة للسياسات القائمة اليوم. لم يعد بإمكاننا أن نفكر في مسارنا السياسي ومواقفنا دون عناية كبيرة بكل ما يجري في مجتمعنا وفي العالم، بل إننا نستطيع القول، وبدون مبالغة، إن كثيرا من مواقفنا وتصوراتنا، بدأت تضيق أمام نمط التحولات التي أصبحت اليوم من السمات البارزة في مجتمعنا، وعلى رأسها المكاسب التي ترتبت عن الحركات الاحتجاجية التي عرفها مجتمعنا منذ سنوات، وخاصة خلال سنة 2011. نتجه في هذا المحور، للتأكيد على مسألة ضرورة التفكير في أسئلة حزبنا، وذلك في ضوء مواصلة الاستماع اليقظ لأسئلة المجتمع، ولطموحاته الرامية إلى ترسيخ قيم الحداثة، ومواصلة المساعي التاريخية لبناء مجتمع العدالة والتقدم. وقبل تقديم تصورنا لأبرز التحديات التي تطرحها ظواهر العولمة في عالمنا، ونوع المواجهات التي نعتقد بأهميتها لتجنب مخاطر ما يمكن أن ينتج عنها من آثار سلبية في بنيات اقتصادنا، وفي أنماط البنيات الاجتماعية والثقافية السائدة في مجتمعنا، نشير إلى أننا نفهم أن ظاهرة العولمة تعد مسلسلا تاريخيا ما فتئ يتخذ إلى يومنا هذا، أشكالا متحولةً في سياق نمط التطور الذي بلغه النظام الرأسمالي. ولعل أول خطوة نخطوها في هذا الباب، تتطلب التخلص من لغة المواقف القبلية من العولمة؛ مواقف الرفض المطلق أو القبول التابع. إن التحديات التي تطرحها العولمة، تدعونا إلى وضع استراتيجية وطنية شاملة ومتكاملة، تأخذ بمعيار مقتضيات البعد المغاربي الإقليمي، الذي يشكل دائرة انخراطنا الأولى في العالم، بحكم الأواصر التاريخية والجغرافية والمصلحية. فالمبادرات التي قام بها المغرب، من قبيل اتفاقية التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي، ثم مع الولاياتالمتحدةالأمريكية ومع تركيا، والاتفاقية المنجزة مع كل من تونس ومصر والأردن، وباقي المبادرات مع كثير من البلدان الإفريقية، تتيح لنا بناء علاقات تعاون جديدة، تمكن اقتصادنا من تعزيز موقعه والرفع من مستوى تنافسيته، على أساس وضع آليات للتتبع والتقويم، بغية توفير الشروط لتبادل متكافئ. وستظل هذه المبادرات محدودة، بدون تفعيل دينامية اتحاد المغرب الكبير، كما تؤكد ذلك الأرضية التوجيهية للمؤتمر. إن تعطيل آليات عمل هذا الاتحاد بافتعال معارك تعود إلى أزمنة الحرب الباردة، يعني أننا لم نستوعب بعد أسئلة التحول، التي يفرضها مسلسل التعولم في العالم، ولم نستوعب مستلزمات التكيف مع مقتضيات حتميات الجغرافية، في تعزيز مشروع التنمية والتقدم بالمنطقة. وعندما نتوقف أمام بعض مظاهر الأزمة العالمية، التي انطلقت من الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 2008 كأزمة مالية، ثم تحولت إلى أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية، أي إلى أزمة عامة، نلاحظ أنها لم تعد عابرة، بل أصبحت تمس بنيات الاقتصاد العالمي. هذا الوضع الجديد يؤكد تجاوز النموذج الاقتصادي الذي ظل سائدا منذ الحرب العالمية الثانية، وكذلك تجاوز قواعد اللعب المصاحبة له. وقد ساهم سياق العولمة العشوائية والجارفة، في استبدال الاقتصاد المنتج باقتصاد المضاربة، حيث باتت البورصات مرآة لا تعكس حقيقة الأوضاع الاقتصادية والمالية، لعدد كبير من الدول. بحكم أن اقتصاد المضاربة يخضع لتحكم قوى خارج إرادة الدول التي أصبحت تخضع لمنطق السوق، وهو المنطق الذي لا يستجيب دائما للحاجيات الأساسية المرتبطة بتطور الاقتصاد والمجتمع. وفي هذا السياق، نريد الإشارة إلى أن المرجعية التي توجه نظرنا في موضوع التكيف مع إكراهات العولمة، تتمثل في الدعوة إلى المشاركة في تركيب تكتلات كبرى، مُعَزِّزة لدائرة التعدد القطبي في العالم، والمستند إلى خلفية مرجعية محددة، تتمثل في إيماننا بضرورة بناء عالم جديد يحترم إرادة الشعوب، وقيم حسن الجوار، عالم يعتمد، في الوقت نفسه، على مبدأ التضامن الذي يدعم توازن المصالح. وهناك أمر آخر، لا ينبغي إغفال التنبيه إليه والتفكير في كيفيات تجاوزه، يتعلق الأمر بضرورة إصلاح وتطوير المنظمات الدولية. فقد تغيرت ملامح كثير من الظواهر منذ نهاية القرن العشرين. وظلت كثير من المنظمات الدولية، التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية قائمة، ودون أن تعيد النظر في مواثيقها وآليات عملها. وعلى سبيل المثال، إن المؤسسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي أقيمت في الأساس للحفاظ على الاستقرار والحد من الفوارق بين الدول، لم تستطع حتى اليوم وقف ظاهرة تزايد بؤر الفقر في العالم والتوتر القائمة في كثير من مناطق العالم، مما بات يتطلب إعادة التفكير في هذه المؤسسات وأدوارها في عالم اليوم. { { ثانيا : الاتحاد في محيطه الإقليمي: يمكن أن يُقرأ ما حصل من مظاهر الاحتجاج في أغلب المجتمعات العربية خلال سنة 2011، باعتباره نتيجة تاريخية لدينامية متواصلة، من فشل مساعي الإصلاح السياسي، وعجز الأنظمة العربية على القيام بالإصلاحات الضرورية. فلا ينبغي أن ننسى أن تاريخ المنطقة قد أنتج مجموعة من الأساليب النضالية في مواجهة طغيان الأنظمة، ورغم ذلك استمرت هيمنة التقليد، كما ازدادت أشكال الممانعة التي كانت دائما تحول دون استنبات قيم الحداثة السياسية، على الرغم من الاتساع النسبي لعمليات التمدرس وبدرجات متفاوتة في أغلب البلدان العربية. إلا أن العلماء ممن حازوا على حق اختراع أول كاميرا للويب، مطلقين بذلك ثورة تقنية يمكن من خلالها إجراء محادثات مباشرة بالصوت والصورة ، لم يصلوا إلى تلك الفكرة إلا من خلال سعيهم وراء فكرة أكثر قدما، وهي فكرة القهوة الساخنة. فقد كان مهووسو الكمبيوتر في جامعة كيمبريدج الغارقين في مشاريعهم البحثية حول أحدث مظاهر التكنولوجيا، يستطيعون الاستغناء عن كثير من الأشياء، من طعام و شراب، و لكنهم لا يستغنون عن القهوة و عن حصتهم اليومية من الكافيين . إلا أن المشكلة التي كانت تواجههم هي بعد حاوية القهوة عن مكاتبهم الموزعة في طوابق مختلفة ، و حين يتجشم هؤلاء مشقة التنقل غالبا ما يجدون القهوة قد نفدت من الحاوية . ولإيجاد حل لتلك المشكلة،و تفادي عناء التنقل، قام «ستافورد- فريزر» مع أحد الباحثين الآخرين واسمه «بول جارديتزكي» بتثبيت كاميرا لمراقبة تلك الحاوية انطلاقا من مكاتبهم. وتقوم الكاميرا بالتقاط ثلاث صور للحاوية كل دقيقة، وقام الباحثون أيضا بكتابة برنامج من شأنه أن يتيح للباحثين في القسم الحصول على تلك الصور من خلال شبكة الكمبيوتر الداخلية لديهم. وساهمت تلك الفكرة على التخلص من المجهود البدني والنفسي الذي يقوم به الباحثون كل مرة عند توجههم إلى حاوية القهوة ليجدوها فارغة. إلا أن فكرة الكاميرا ظلت حبيسة داخل ذلك المعمل حتى الثاني والعشرين من نوفمبر من عام 1993، لتظهر في الشبكة العنكبوتية أو ما يعرف بالإنترنت. حيث تنبه «مارتن جونسون»، وهو عالم كمبيوتر آخر، إلى إمكانية عمل ذلك الاختراع في لحظة من اللحظات التي خرج من نطاق بحثه للتفكير في ذلك الأمر. ولم يكن جونسون متصلا بشبكة الحاسب الداخلية في معمل كيمبريدج، لذا لم يكن يستطيع استخدام برنامج الكاميرا التي تراقب حاوية القهوة. وعلى الرغم من أن تشغيلها كان يبدو سهلا بشكل نسبي، إلا أن جونسون كان يعمل على دراسة مواطن قدرة الشبكة والتحقق من شفرة خادمها الإلكتروني. وقال جونسون: «قمت فقط بكتابة برنامج حول تلك الصور التي التقطت ولم تتعد النسخة الأولى من تلك الكتابة اثني عشر سطرا من الرموز، يقوم فيها البرنامج بإظهار أحدث صورة للحاوية أمام من يقوم بطلبها». وكانت صور حاوية القهوة تلك داخل معمل الجامعة بمثابة البداية لفكرة كاميرا الويب. ثم بدأت الفكرة في الانتشار بين الملايين من عاشقي التكنولوجيا على مستوى العالم. و بعد عشر سنوات، ومع كم كبير من الزخم، قرر العلماء أن يمضوا قدما في هذه الفكرة. ويعلق «سترافورد فريزر» على هذه الفكرة «مرت تلك الفكرة بأطوار مختلفة خلال 10 سنوات، ما بين فكرة جديدة حمقاء، لتصبح حدثا جديدا يتابعه عدد لا بأس به من الناس، ثم يصبح بعد ذلك علامة مميزة للشبكة العنكبوتية كما يراه الكثيرون. ويؤكد «سترافورد فريزر» على أن هذه التطورات لا تحدث خلال عدد قليل من الأعوام إلا عن طريق الإنترنت. بتصرف شديد عن «بي بي سي» ففي عام 1954 أجرى ماري اول جراحة زراعة أعضاء في العالم عندما قام بزراعة كلى نقلت من أخ الى اخيه التوأم. واتقن ماري عمله في الجراحة في الحرب العالمية الثانية حيث كان يعالج المصابين بحروق بالغة. وعند قيامه بترقيع الجلد للجنود المصابين أدرك ماري أن العقبة الرئيسية في الجراحة هي رفض الجهاز المناعي للأنسجة الغريبة. وخلال الفترة التي عمل فيها في مستشفى بريجام في بوسطن نجح ماري وزملاؤه في نقل كلى في الحيوان. وباستخدام الاسلوب الجراحي الجديد قام ماري بنقل كلى سليمة من رونالد هيريك البالغ آنذاك 23 عاما الى شقيقه التوأم ريتشارد الذي كان مصابا بالفشل الكلوي. وعاش ريتشارد بعد ذلك مدة ثمانية اعوام. وفي عام 1962، ومع ظهور العقاقير التي تحد من رفض الجهاز المناعي للانسجة الغريبة، أجرى ماري أول جراحة زرع أعضاء من متبرع غير قريب للمريض. وفتح عمل ماري المجال أمام زراعات الأعضاء في العالم وقال توم لانغفورد المتحدث باسم مستشفى بريجام إن ماري أُصيب بجلطة دماغية مساء الخميس قبل الماضي في منزله في بوسطن نقل اثرها الى المستشفى حيث توفي. ونظرية «الارتطام الكبير» ترتكز على أن القمر قد وُلد منذ أربعة ملايير و نصف مليار سنة حينما تلقى كوكب الأرض حينذاك صدمة عنيفة من طرف جسم سماوي يُدعة «ثيا»، قريب في حجمه و كثافته من المريخ. هكذا إذن وُلد القمر نتيجة لهذا الاصطدام الكبير، الذي أكدته دراسة أُنجزت مؤخرا ونُشرت في منتصف أكتوبر المنصرم ، بناء على وجود «زنك ثقيل» في بعض الصخور القمرية. و قد كان الفرنسي «فريدريك موينييه» من جامعة واشنطن وفريقه هم أول من اكتشفوا ذلك. وكان العلماء يسعون، منذ البعثات الأمريكية الأولى إلى القمر غداة عودة مركبات أبولو بنماذج صخرية قمرية في السبعينات إلى تحليل هذه الصخور و استنطاقها لفهم تاريخ هذا القمر المنير الذي يدور حول كوكبنا. وحسب نظرية «الاصطدام العملاق» (بيغ سبلات)، فإن القمر قد رأى النور منذ حوالي 4,5 مليار سنة حينما تلقت الأرض صدمة عنيفة من طرف جسم سماوي أُطلق عليه إسم «ثيا» وهو في حجم المريخ تقريبا. و لكي نتصور مدى قوة هذا الاصطدام علينا أن نعلم، للمقارنة، بأن النيزك الذي صدم الأرض بعد ذلك بملايين السنين وتسبب في انقراض الدينصورات، لم يكن يتجاوز حجمه حجم «مانهاتن» الحالية. وطبقا لهذه النظرية، فإن هذا الاصطدام حرر طاقة هائلة إلى حد أنها ذوبت الجسم السماوي «ثيا» تماما وتبخر في الفضاء على شكل سحاب سابح ،على غرار جزء كبير من القشرة الأرضية الذي نال بدوره حظه من الانصهار. وقد عاد جزء من هذا السحاب المكون من الصخور المتبخرة والناتج عن الاصطدام، إلى التجمع مجددا والالتصاق بالأرض بينما تجمع جزء آخر و تصلب غير بعيد من الأرض مُكونا القمر الذي طفق يدور بحكم الجاذبية حول كوكبنا. وقد لاحظ «مونييه» وفريقه، خاصة بعد محاكاة الظاهرة إلكترونيا، ونتيجة لدراسة عينات الصخور القمرية الفقيرة إلى العناصر الطيارة (أي التي تتبخر بسرعة) مثل الصوديوم والبوطاسيوم والرصاص والزنك، بأن هذه الصخور لا تتضمن هذا النوع من المعادن و إذا ما تضمنتها ففي حالتها الثقيلة التي لا وجود لها بالأرض. ويفسر العالم الفرنسي «فريدريك موينييه» الأمر بقوله: «هذه الصخور افتقرت تماما للعناصر الطيارة التي تبخرت نتيجة الاصطدام العملاق، كما عثرنا على عينات مختلفة من نفس العنصر مما يفسر تحول الصخور من وضعية ما قبل الاصطدام إلى وضعية مختلفة بعده». فقد قام «موينييه» و فريقه بدراسة و بحث عشرين عينة من الصخور المُلتقطة من مختلف مناطق القمر ومقارنتها مع صخور أرضية و مع نيازك مريخية، فتبين بأن كوكب المريخ ? حسب الدراسة التي نشرتها مجلة «نيتشر» البريطانية - مثله مثل كوكب الأرض، غني بالعناصر الطيارة، خاصة منها الزنك، على عكس القمر الذي يفتقر إليها بشكل كبير. بيد أن الزنك المكتشف في العينات القمرية يتكون من ذرات أثقل بكثير من الذرات المتواجدة في الأرض أو في المريخ. فهذا الوضع يؤكد بأن الشروط التي كانت سائدة لحظة تكون القمر قد تسببت في كثافة في صخوره أكبر بكثير من الكثافة الموجودة في صخور الأرض أو المريخ. و التفسير الأكثر بساطة هو أن هذه الكثافة الشديدة نتجت عن الانصهار الكبير الذي تسبب فيه اصطدام الأرض بجسم سماوي هائل. ويقول «فريدريك موينييه» بأن هذه النتائج ستكون لها دون شك تأثيرات على أصل الأرض،المرتبطة بوثوق مع أصل القمر. فلولا التأثير الذي للقمر في دورانه على جاذبية الأرض، لكان كوكبنا مختلفا عما هو عليه اليوم و لما كان ملائما لحياة البشرية، فلولاه لظلت الأرض تدور بسرعة أكبر ولكان نهارنا لا يتجاوز ست ساعات ونصف عوض أربع وعشرين ساعة الحالية وأخيرا لولا القمر لكان مناخنا أكثر تغيرا و اضطرابا. حسب التقديرات التي تضعها وزارة الصحة عددهم يتجاوز 660 طفلا عدا غير المصرح بهم، منهم 200 طفل فقط يعالجون بمستشفى ابن رشد للأطفال بالبيضاء دون احتساب الرضع الذي يخضعون لمراقبة بعد الولادة مباشرة بسبب إصابة أحد والديهم أو والديهما معا. عن معاناة هؤلاء الأطفال وآبائهم، تقول رانيا سعدان، مساعدة اجتماعية ونفسية بقسم الأطفال ابن رشد وبالجناح 23 للأمراض التعفنية بابن رشد: «في البداية يتم العمل على تهيئ الآباء والأمهات من خلال الدعم، وشرح طريقة العلاج والاستماع إلى معاناتهم ومحاولة تبسيط الأمور. حيث أن أغلب الآباء يرفضون تقبل فكرة إصابة أبنائهم وتناول العلاج الثلاثي، فبعض الأمهات أحيانا، ونظرا لمضاعفات الدواء في البداية، يمتنعن عن إعطاء الدواء لأبنائهن، وبعد اقتناعهن يتراجعن ولو أن الأمر يتطلب جهدا ووقتا منا. من المشاكل التي تصادفنا نجد رفض الآباء إجراء تحليل الإصابة بعد تسجيل إصابة الأبناء، عكس الأمهات اللواتي يقبلن على إجراء التحليل، وهذا لا يرتبط بالمستوى الثقافي أو المعيشي، وهو ما نعمل على تجاوزه مع المدة، حيث بعد حضور حصص علاج الأبناء يقتنعون بالتحليل«. الاشتغال على الجانب النفسي للطفل يبدأ بعد سن الرابعة وذلك عن طريق الحصص التي يحضرها بالضرورة الطبيب المعالج، حيث يتم استعمال رسوم ووسائل بسيطة لشرح نوع المرض وكيفية انتقاله وأهمية أخذ الدواء في موعده. وأشدد هنا على الأطفال المتمدرسين حيث يجب توعيتهم بالمرض. ونحن في كل هذا لا نخبر الأطفال بحقيقة مرضهم سوى أنه مرض يمر عبر الدم، وهو معد. كما نشتغل مع الأطفال على التربية الجنسية بشكل مبسط كالنظافة وبعض الممارسات الخاطئة والمفاهيم المؤطرة بالعيب والحشومة، وبعد 18 سنة يمرون إلى قسم الكبار حيث يتم إخبارهم بحقيقة المرض. وهنا نلاحظ أن أغلب الأطفال يتقبلون الأمر بحكم التهييء النفسي الذي اشتغلنا عليه منذ سنوات قد تصل الى 13 أو 14 سنة. فالدعم ضروري للأطفال وللوالدين، والإنصات عندما يكون جيدا، يخفف العبء عنهم». شهادات طردوها من المدرسة والخطأ: السيدا كانت لمياء تأتي كعادتها للمستشفى للعلاج وتتبع حالتها، كانت تدرك أنها تعاني مرضا بالدم وأن عليها مراقبته بصفة دورية ذكية، نشيطة كانت تتابع دراستها بإحدى مدارس التعليم العمومي بالبيضاء. استرقت السمع إلى أحد الأشخاص يتحدث عن مرضها فسمعت كلمة السيدا. وببراءة الأطفال أخبرت مدرستها. فكانت أن قامت إدارة المدرسة ولم تقعد. ومن اليوم الموالي رفضت الإدارة استقبالها. بعد محاولات من العائلة ومن الطبيبة المعالجة، رفضت الإدارة إرجاعها فما كان من الطبيبة إلا اللجوء إلى الوزارة لطرح قضيتها لتعود لمياء إلى مدرستها بعد أن عانت فترة ليست باليسيرة من الشرود والعزلة والصمت. معاذ الذي كشف المستور كان معاذ ذو 5 أشهر دون علامات إصابة إلى أن أصابه اصفرار وشحوب مع إسهال حاد، ليعرض على المستشفى الذي أجرى له تحليل VIH لتتأكد بالفعل إصابته. طلب الطبيب المعالج من والديه إجراء فحص الإصابة ليرفضا الأمر في البداية قبل أن يقررا العلاج. معاذ الآن يخضع للعلاج بعد علاجه من مرض السل الذي اكتشفت إصابته به كذلك. شقيقتان تصارعان المرض بعد وفاة والديهما. صفاء 12 سنة ودنيا 10 سنوات، شقيقتان تعيشان مع جدتهما بعد وفاة الديهما. بداية الألم كانت مع وفاة الأب، لتليه بعد سنين معدودة الأم، والتي عرفت إصابتها قبل الوفاة. خبر كان كافيا لتوضيح أسباب وفاة الأب والاسراع بفحص الشقيقتين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. جدتهما لوالدتهما تكفلت بهما وهي من تصحبهما بانتظام للعلاج منذ 2006. هما لا تعلمان سبب مرضهما إلا أن الرعاية التي تتلقانها من محيط أسرتهما، بالنظر إلى إمكانياتهم المادية الميسورة، تجعلهما لا تحسان بأي إقصاء أو حرمان. إننا مطالبون، في ضوء هذا الذي حدث ويحدث في بلادنا، وفي الأقطار العربية المجاورة، بتشخيص نوعية المخاضات الجديدة الحاصلة، وذلك في علاقتها بالتراجع القائم في صفوف القوى الديمقراطية التقدمية في العالم العربي، والانهيار الحاصل في المشروع القومي، مع ضرورة التأكيد على بؤس المشروع الليبرالي، فكرا وممارسة. إن حزبنا مطالب بإعادة تركيب مشروعه السياسي، وهو يواكب بيقظة مجمل التحولات القائمة، بناء على تشخيص نقدي لكل هذه التفاعلات، وما ترتب ويترتب عن وقائع صانعة لمظاهر جديدة في حاضرنا. ونخص بالذكر عمليات السطو المكشوفة، التي ظهرت نتيجة الحركات الاحتجاجية، حيث اتجهت تيارات الإسلام السياسي المحافظة، إلى قطف ثمار هذا الحراك الشعبي، دون أن تكون - في كثير من البلدان - مشاركة في مخاضاته. فهل نقبل أن يسرق منا التاريخ؟ وبناء عليه، وفي سياق خيارنا السياسي القاضي بعودتنا إلى المعارضة، نشير إلى أن حزبنا الذي ارتبط تاريخه في ذاكرة شعبنا، وبرصيده النضالي المتجه نحو التغيير، لا يمكنه في ظل المتغيرات الجديدة، أن يظل خارج دائرة التفاعل مع ما جرى ويجري في الآونة الأخيرة في بلادنا. بل إن الشروط الراهنة تدعونا إلى انطلاقة جديدة، تعيد لحزبنا دوره المركزي في مشهدنا السياسي. نريد أن تكون محطة المؤتمر التاسع في تاريخ حزبنا، لحظة محورية، صانعة لانطلاقة مُؤَسِّسَةٍ لخياراتٍ تستجيب لمتطلبات المرحلة، حتى يسترجع حزبنا مكانته ليقوم بدور القاطرة الكبرى في مسلسل التغيير. ولابد من التوضيح هنا، أن الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت أغلب البلدان العربية، جاءت نتيجة تعميم مطالب الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي تعد في بعض أوجهها، مُحَصلة لمسلسل التعولم الجاري. وهكذا اتخذت نتائج هذه الاحتجاجات مجموعة من السمات الخاصة بكل بلد على حدة. ففي حالتي تونس ومصر، يتعلق الأمر بتحول من نوع خاص، لأنه جاء نتيجة لانتفاضتين شعبيتين ضد المؤسسات القائمة، وضد النظام السياسي السائد. أما في حالة المغرب، فإن الأمر يتعلق بانتقال داخل المؤسسات وفي إطار النظام السياسي القائم، والهدف هو تعميق الدمقرطة في أفق تقاسم فعلي للسلط، حيث تصبح أدوار الفاعلين السياسيين واضحة ومتوافق بشأنها. إن استمرار حزبنا في أداء رسالته التاريخية مرهون بقدرته على مواصلة تفاعله الإيجابي واليقظ، مع ما يجري اليوم في مجتمعنا ومحيطنا الإقليمي والدولي من تحولات. وما يعزز هذا الاختيار، كون أغلب الشعارات التي رافقت الحراك الذي شهدته بلادنا خلال السنة الماضية، وخاصة مع شباب 20 فبراير، ليست غريبة ولا بعيدة عن الشعارات التي رفعها حزبنا خلال مساره النضالي، الأمر الذي ساهم، كما يعرف الجميع، في تشكل جوانب هامة من الوعي السياسي في بلادنا. { { ثالثا : أزمة منظومات الفكر والسياسة والقيم: من أبرز المتغيرات التي شهدها العالم في مجال الفكر والقيم، هناك الأزمة الكبرى التي شملت منظومات الفكر والحياة في العالم المعاصر. ذلك أننا نقف اليوم أمام عمليات تراجع وتفكك في منظومات القيم، مقابل إيقاع سريع في التطور المعرفي والتقني، يشيران إلى إمكانية حصول طفرات في أنظمة العيش، لا تواكبها قيم تناسب التحولات التي انفجرت، مُشكِّلةً ملامحَ جديدة لعالم في طور الاستواء. لم تعد منظومات الفكر والقيم تتمتع في عالمنا بالوضوح والثبات الذي كانت تمتلكه حتى منتصف القرن العشرين. فقد ساهمت الثورات العلمية المتواترة في العقود الأخيرة، في خلخلة كثير من الأسس والمبادئ المعرفية، كما ساهمت الطفرة التكنولوجية في بناء خزانات من المعارف، يفترض أن تكون لها نتائج في آليات عملنا وأنماط تفكيرنا. نحن هنا نشير إلى الثورة المتواصلة في مجال تقنيات المعلوميات، وقد أصبحت اليوم قاطرة الاقتصادات الجديدة المتعولمة. أمام التحولات المعرفية المذكورة، فقد حصل اضطراب في منظومات القيم داخل المجتمعات، وتبلورت ظواهر جديدة موصولة بصور التحول الحاصلة في المعرفة وفي تقنيات التواصل. الأمر الذي يقتضي لزوم إعادة بناء المعايير ومنظومات القيم، لتصبح متكافئة مع أنماط التغير الحاصلة. يضاف إلى ذلك أن آليات التعولم التي تكتسح العالم وتنمطه، تتجه بدورها لترسيخ ثقافة التدبير بدل ثقافة التغيير، التي شكلت في العقود الماضية أفقا في الفكر والتاريخ، مفتوحا على مجموع تطلعات الإنسان المقرونة بالحرية والعدالة والمساواة. لقد قَلَّص طغيان ثقافة التدبير، التي تبلورها تقارير المؤسسات الدولية المنخرطة بدرجات في متطلبات إنجاح عمليات التعولم القسري، قَلَّص من جذوة الفكر والإبداع، لمصلحة أشكال من التدبير تختزلها جملة من الإجراءات، الهادفة إلى إقامة توازنات شكلية ومظهرية، على حساب سجلِّ القيم النبيلة، التي يجري الآن البحث عن بدائل لها، تلائم التحولات الجارية، وتمنحها المبررات التي تجعلها أكثر مصداقية. وهناك مظهر آخر من مظاهر أزمة الفكر في عالمنا، ويتجلى في انقطاع وتراجع التطلعات والأحلام، التي شكلت في التاريخ منجماً من الآمال، الصانعة لجوانب هامة من طموحات الإنسان في التاريخ. وقد ترتب عن مجمل ما سبق، اختفاء فكر الأنساق وبروز ثقافة الصورة، فانعكس ذلك على الفكر والتربية والقيم، بل ووصلت آثاره إلى المجال السياسي في مختلف أبعاده. فتحولت التعددية في المجتمعات التي اختارت التوجه الديمقراطي إلى مظهر عددي، حيث أصبحت أغلب المجتمعات تتوفر على أحزاب متشابهة، ببرامج وآفاق في العمل متناسخة، ولم يفلت حزبنا من مثل هذه الظواهر، الأمر الذي قلَّص جذوة الإبداع والتنافس السياسيين، القائمين على اختيارات إصلاحية محددة. أما واقع اليسار في العالم وفي بلادنا اليوم، فقد تأثر بدوره بعمليات التراجع والتفكك، الحاصلة في عالم تزداد تناقضاته. وأصبح مفتقرا إلى منظومات جديدة من الفكر المستوعب لمكاسب ثورات المعرفة والعلم في عالمنا. وقد يعود السبب في ذلك، إلى أنه لم يعد أمرا سهلا ولا ممكنا، بناء المنظومات العامة والمتسقة، في زمن أصبح العالم مرهونا بتداعيات ثورات معرفية لا تتوقف، مخلفة هزات قوية في منطق المبادئ والمفاهيم. لا نشخص في هذا المتغير، أزمات عالمنا من زاوية تتوخى البحث عن مبررات لجوانب من التراجع الحاصل في الفكر التاريخي، بل إن المراد من هذا التشخيص، هو محاولة فهم بعض الخلفيات المؤسسة له، قصد التفكير في أساليب مواجهتها بروح تاريخية متفائلة. إننا نعي جيدا أن الأزمات الكبرى في التاريخ تجد حلولها أيضا في التاريخ. تندرج متابعة المتغيرات التي قدمنا في هذا المحور من مشروعنا، في باب فهم الشروط الوطنية، الإقليمية والدولية المؤطرة لعملنا السياسي، بل إن بعضها يقع في قلب منظومات الأفكار والقيم، التي توجه السلوكات والمواقف في مجتمعنا. ونتصور أن الوعي المطلوب بالتحولات المذكورة ومرجعياتها النظرية والتاريخية، يتيح لنا بناء خياراتنا ومشاريعنا في العمل، بالصورة المكافئة لأسئلة مجتمعنا، وأسئلة التحول في محيطنا العام. فنحن لا نقع في جزيرة معزولة، وثورات الاتصال والتواصل عززت التقارب بين المجتمعات، كما ساهمت في تقريب الطموحات وتوحيد المطالب. الأمر الذي يدعونا إلى أن نأخذ بعين الاعتبار، مختلف ما أشرنا إليه من متغيرات في هذا المحور، عندما نقترب من بناء معطيات ومقترحات محورنا الثاني في موضوع عودة حزبنا إلى المعارضة. المحور الثاني : عودة الاتحاد إلى المعارضة، المنطلقات الكبرى والمهام المستعجلة وضحنا في المحور الأول من هذا المشروع، بعض الجوانب الفكرية والتاريخية، المرتبطة بأوضاع حزبنا اليوم، وذلك لاقتناعنا بأهميتها في بلورة وتطوير رؤيتنا، وعلاقة ذلك بموضوع ترسيخ قيم التحديث والديمقراطية. ونريد أن نشير هنا، إلى أن خيار العودة إلى المعارضة، كان بغاية المساهمة في إنجاز الفرز المطلوب اليوم في مشهدنا السياسي. ونعتقد أن هذه العملية سوف لن تتم ما لم نقم باستخلاص الدروس من تجربتنا في حكومة التناوب التوافقي. فإذا كنا نؤكد دائما أن قبولنا المشاركة في هذه التجربة الحكومية يندرج في سياق الدفاع عن الوطن وعن المصلحة العليا للبلاد، وهو ما نعتبره من صميم اختيارات حزبنا، فإن السياقات والشروط التي واكبت تلك المشاركة، ساهمت بدورها في ترجيح الموقف الذي انخرطنا فيه بكل مسؤولية، ووفقا للشروط والسياقات التاريخية والسياسية التي رتبت له الملامح والآفاق. إننا مطالبون اليوم، ونحن على أبواب المؤتمر التاسع، أن نقوم بعملية التقييم والنقد، حيث لا يمكن أن نفكر مجددا في المشروع السياسي لحزبنا دون القيام بهذه الخطوة، وبالشجاعة الضرورية. بل إننا نتصور أن خيار المعارضة الذي نتبناه اليوم، لن تتضح ملامحه، دون تقييم نقدي لمشاركتنا في تدبير الشأن العام، من سنة 1998 إلى سنة 2011 مرورا ب 2002. فعلى امتداد هذه التجارب، ساهمنا في بناء منعطف تاريخي، جَسَّمته بقوة لحظة الانتقال السياسي، الهادف إلى مزيد من ترسيخ قواعد المشروع الديمقراطي الحداثي في مجتمعنا. لكن تراجع حزبنا في المحطات الانتخابية، خلال السنوات الأخيرة، يطرح علينا أكثر من سؤال. بدون شك، إن الجواب متعدد الأبعاد، لكن يجب التأكيد هنا أن منهجية تدبيرنا للمشاركة لم تكن في مستوى متطلباتنا، حيث إننا لم نتمكن من وضع استراتيجية شاملة توضح طبيعة العلاقة بين العمل الحزبي والعمل الحكومي. فقد كان هذا الأخير على حساب الأول. لم نستطع تقوية حزبنا من خلال كل ما انجزناه وتحت تساهم في تدبير الشأن العام. إن معارضتنا اليوم تضع نفسها في إطار المعارضة البديلة، إنها معارضة تروم المساهمة في مزيد من بلورة المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي. ذلك أننا نعيش في مجتمع نعي جيدا أن عمقه الثقافي محافظ، ونعي في الوقت نفسه، بُطْأَهُ في تمثل قيم التحديث. إلا أننا نعرف أيضا، وانطلاقا من جملة من المؤشرات والمعطيات، أنه مؤهل، رغم كل ذلك، للإصلاح والتغيير. إن مجتمعنا يملك بنيات ديمغرافية تؤهله لولوج عتبة التحديث والتقدم، وذلك بالنظر إلى المكانة الوازنة التي تحتلها فئة الشباب، وكذلك تفوق نسبة النساء مقارنة مع نسبة الرجال، كل ذلك يجعلنا ندرك أن مجتمعنا قابل للتحول المطلوب. ونتصور أن حركية الإصلاح والتغيير المطلوبة اليوم، ترتبط بقدرتنا على مزيد من تلبية مطالب الشباب والنساء، في أفق تحقيق التوازنات المطلوبة داخل مجتمع يتغير. { { أولا : المنطلقات الكبرى للمعارضة: تستند معارضتنا إلى جملة من المنطلقات، وتروم القيام بمهام محددة، وقبل عرض هذه المنطلقات، نقف في البداية أمام المعارك الآنية المطلوب من حزبنا الانخراط فيها، وهي معارك تندرج ضمن الظرفية الراهنة، بكل ما تحمله من إرهاصات وتحولات، تنبئ بتغير الشروط المجتمعية والسياسية المؤطرة للعمل السياسي في بلادنا. إننا نعتقد أن ما يمنح الحياة والقوة لحزبنا اليوم وغدا، هو قدرة أطره ومناضلاته ومناضليه على مواكبة التحولات التي يعرفها مجتمعنا، والتجاوب الإيجابي مع متطلباتها. ولن تنجز هذه المهمة دون انخراط فعلي في استيعاب التناقضات والتوترات المستجدة ببلادنا. إن مسؤولية حزبنا، بحكم رصيده في العمل السياسي، وفي تحديث مجتمعنا وتنميته، تدعونا إلى ضرورة عدم التردد في فتح نقاش واسع حول مختلف القضايا التي أفرزتها الحركات الاحتجاجية في السنوات الأخيرة، وذلك من أجل الدفع بمشروع الإصلاح الشامل إلى الأمام. وعلى هذا الأساس، سنوجه الاهتمام هنا نحو منطلقين كبيرين، نعتبر أن دورهما مركزي في أفق تطوير مشروعنا السياسي ودورنا الراهن في المعارضة. يتعلق أولا: بضرورة إعادة الاعتبار للفكر. وثانيا: بتحولات القيم. وفي سياق هذين المنطلقين، نعود للتفكير مجدداً في جوانب من مرجعيات حزبنا في العمل السياسي. 1 - إعادة الاعتبار للفكر إذا كنا نؤمن بأن العمل السياسي يقتضي باستمرار بناء الرؤى الواضحة، كما يتطلب قراءة واعية لمختلف الشروط والتحولات المواكبة والمتفاعلة، أدركنا أهمية مطلب إعادة الاعتبار للفكر والعقل والتاريخ والقيم، في الممارسة السياسية. تزداد أهمية هذا المطلب أمام ضغوط آليات التنميط المتعولم، التي تمنح اليوم للصور والمظاهر سطوة تفوق قوة الأفكار والمبادئ. صحيح أن التراجع الحاصل في موضوع إهمال قوة الفكر، يعد مرتبطاً بالأزمة التي عرفتها منظومات الأفكار والقيم في عالمنا، إلا أننا نرى أن الموقف الأكثر عقلانية والأكثر تاريخية من هذه الأزمة وتوابعها، يتمثل في مجابهتها بالدفاع أولا، على ضرورة إعادة الاعتبار للفكر والقيم، ثم بمواجهتها ثانيا، بالمساعي الرامية إلى تعزيز الآليات المناهضة لكل الممارسات الرامية إلى تقليص من مساحة النقد والوعي النقدي في الفكر وفي العمل. ولا ينبغي أن يفهم من هذا، أننا بصدد تمجيد الأفكار المثالية أو تمجيد الفكر بإطلاق، فلهذا القول بالذات مجاله المرتبط بمؤسسات المعرفة والبحث. إن المقصود هنا مواجهة بعض الظواهر التي تَستسهلُ في العمل السياسي مطلب بناء أي مشروع سياسي، دون مفاهيم وآليات في البرهنة والتركيب، مستمدة من دروس الفكر كما تطورت وتتطور في الفكر المعاصر. نُلح على هذا المطلب، بحكم أن كثيرا من الإشكالات التي يطرحها مشهدنا السياسي اليوم، تشكل حافزا قويا لتركيب جهود فكرية، مُناسبةٍ للأسئلة المطروحة أمامنا في مشهدنا السياسي. استند حزبنا في مسارات تشكله وتطوره داخل مجتمعنا، إلى نماذج في الفكر وفي التاريخ، نعتقد أنه آن أوان لمراجعتها وإعادة التفكير فيها. ولن يحصل ذلك إلا بمبدأ أساس، يتعلق بإعادة الاعتبار للفكر والنقد والمراجعة. وإذا كان هذا المبدأ يعد مطلبا ضروريا في كل الأحوال، فإنه، في أزمنة التحول والأزمات والانسدادات، يصبح مطلبا مستعجلا. صحيح أن حزبنا كما أشرنا آنفاً، كان دائما حزبا منفتحا على تيارات الفكر الحية، وعلى روح النقد ومتطلبات السياسة في التاريخ. وأننا نجحنا في حقب معينة، في الحرص على تكييف عمليات انخراطنا في الفكر، بالصورة التي عبدت الطريق أمامنا، وجعلتنا نبني التصورات والبرامج والاقتراحات والإجراءات، التي تضمنت كثيرا من التفاعل المنتج مع ما يجري في بلادنا وفي العالم. إننا نستشعر اليوم أهمية هذه العودة، بعد أن لمسنا خلال العقدين الماضيين على الأقل، نوعا من الاستهانة بقوة المبادئ والأفكار والقيم في العمل السياسي. لقد حصل نوع من استسهال عملية إسناد الأفكار للعمل السياسي. فأصبحنا في الحزب نُعوِّل على مجموع ما تراكم من معطيات في سياقات مختلفة، لنفكر انطلاقا منه في سياقات جديدة. وهذا الأمر بالذات قلَّص من نوعية الحضور الفكري لمؤسساتنا الحزبية، فأصبحنا أمام تصورات وإجراءات بدون سند فكري. ولهذا نتجه في مؤتمرنا التاسع لنرفع راية الفكر، وندعو إلى فتح أوراش للاجتهاد في القضايا الكبرى، التي أصبحت تطرح اليوم في مشهدنا السياسي. والهدف المتوخى من هذه العملية هو تقليص هيمنة النمطية والتكرار والاكتفاء بالجاهز، لجعل مشروعنا السياسي أكثر دينامية، وأكثر تفاعلا مع مقتضيات المرحلة الراهنة وطنيا وإقليميا وعالميا. فالعمل السياسي بدون أسس فكرية لا يمكن أن يُعَبد أو يُنير الطريق، كما لا يمكنه أن يخاطب الأجيال الجديدة من الشباب والنساء بل ومختلف فئات مجتمعنا. لقد هجرنا الفكر، لأننا أصبحنا سجناء التدبير اليومي وثقافته في جميع المستويات. كان حزبنا يتميز دائما بقوة أبحاثه وتقاريره، وكان إعلامنا يواكب باستمرار فعاليات الفكر والثقافة في مجتمعنا، بل وصل الأمر في بعض اللحظات من تاريخنا، أصبح فيه غنى مشهدنا الثقافي والفني، رافداً مركزياً داعماً ومعززاً لنوعية حضورنا السياسي. ونعاين اليوم تراجعاً ملحوظاً في هذا المجال بالذات. لذلك علينا أن نعيد الاعتبار للثقافي، ولن يتم ذلك في تصورنا دون تجديد العمل السياسي. وعندما نواصل اليوم طموحنا، في أن يظل الاتحاد حاملا لمشروع مجتمعي حداثي وديمقراطي، فإن هذا الأمر يقتضي منا أن نعيد للثقافة مكانتها السامية، كما نعيد الجاذبية لحزبنا بالنسبة للشباب والنساء، ومختلف فئات المجتمع المغربي، بل وكل القوى المستقبلية في مجتمع المواطنة والمساواة، مجتمع التضامن والعدالة الاجتماعية. إننا نتصور أن إعادة الاعتبار لقيم العمل الجماعي، وأخلاق الحوار، وفضائل التداول الديمقراطي، تتيح لنا في هذا الطور الانتقالي الذي يمر منه مجتمعنا، أن نعيد الثقة لسُلم القيم، التي شكلت المرجعية الأخلاقية الناظمة لمسارنا السياسي. نلح على هذه المسألة، بحكم أننا نعاين كثيرا من الهشاشة والضبابية في مشهدنا السياسي، بل إننا نعاين أن الظاهرة المذكورة، لم تعد تشمل الأحزاب الجديدة والأحزاب التي لم تبلور تصورات ومواقف نظرية منذ انطلاقها، بل نلاحظ أن عدم العناية بالبعد الفكري والبعد القِيَّمِي، يرتبطان بصورة عامة بمظهر البؤس البارز المعالم اليوم في ثقافتنا السياسية. كان الاتحاد دائما سباقا إلى تحليل تحولات المجتمع المغربي، كما كان جريئا في منهجية مقاربته للشأن السياسي، حيث كان طيلة تاريخه يعتبر أن التغيير لا يمكن أن يتم إلا من خلال تَملُّك معرفي عميق، بطبيعة المجتمع المغربي، ومن هذا الأفق بالذات، تبلور العمق السياسي والاجتماعي الذي كانت تتمتع به مبادرات الاتحاد طيلة العقود السابقة. إن موقع المعارضة الذي نتخذه اليوم، والذي نتوخى منه كما سنوضح في المحور الثالث من هذا المشروع، المساهمة في تصحيح ما يجري في مجتمعنا، يحتم علينا الاستعانة بكثير من المعطيات التي لا يمكن الوصول إليها دون جهد في البحث وفي الفكر، وجهود عملية متواصلة في الانفتاح على مجتمعنا وتنظيماته المدنية. فلا تغيير دون رؤية واضحة ومسنودة بفهم التحولات التي تجري في مجتمعنا، والمؤسسات السياسية التي لا تنسى دور الأفكار في التاريخ، تكون مؤهلة أكثر من غيرها، لبلورة المقترحات والبرامج القريبة من تطلعات شعوبها. 2 - إعادة بناء هويتنا السياسية ومرجعيتنا في العمل. إن تخلي حزبنا في السنوات الأخيرة عن العناية بالمنطلقات الفكرية لأدائنا السياسي، قلص من قدرته على استيعاب التحولات التي عرفها المجتمع، وخاصة منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وفي الرجوع إلى الفكر كما نتصور، ما يساعد على فهم مكونات المجتمع، ويجعل حزبنا قادراً على بناء المواقف المناسبة. وأفترض أنه ينبغي علينا جميعا أن نجعل من الواجهة الفكرية فضاء لترسيخ قيمنا، وكذلك لتعزيز موقعنا داخل المجتمع المغربي. ولجعل النخب المغربية إحدى الوسائل لمعارضة كل ما من شأنه أن يجعل المغرب يتطور خارج زمنه التاريخي والسياسي، زمن الحداثة والديمقراطية والتقدم. وهذا الأمر بالذات يجعلنا نؤكد، أن مجتمع الغد يجب أن يكون مجتمعا بدون وصاية، لا من طرف الدولة أو الإدارة، ولا من طرف القبيلة، ولا من طرف القوى التي تمارس الشعوذة الدينية بجميع أشكالها. فليس في مجتمعنا أزمة دينية، والديمقراطية في أصولها الفكرية، تستند إلى المشروع الحداثي ومقدماته الكبرى. تتمثل الخطوة الأولى في باب رد الاعتبار للفكر في حزبنا وفي ممارستنا السياسية، في مبدأ الارتباط بالتحولات الجارية في مجتمعنا. ولن نتمكن من ذلك إلا بمزيد من الاستماع إلى المخاضات الحاصلة اليوم في مجتمعنا. وينبغي أن نحرص في مجال المساهمة في إعادة بناء قناعاتنا الإيديولوجية والسياسية، على مبدآ الارتباط بالواقع المغربي، وواقع التحولات الجارية فيه. ليظل مرتكزنا في العمل السياسي، هو متطلبات الراهن المغربي وأسئلته الكبرى. فإذا كنا نسلم بأن عملنا السياسي، يستهدف اليوم وغدا تحصين مكاسبنا في السياسة والثقافة والمجتمع، واستكمال أوراشنا في الإصلاح والتنمية، بل والنهوض بمجتمعنا في مختلف جوانب الحياة، فإن مساعينا الرامية إلى تطوير خياراتنا وتطوير أدائنا السياسي، مرهونان بمدى مزيد من انغراسنا وتجذرنا في تربة المجتمع المغربي. ولن تتحقق هذه المسألة في تصورنا، دون إنجاز كل ما يساعد على استيعاب نبض المجتمع بكل فئاته، وبكل الديناميات التي تحصل في داخله. ولابد من التوضيح هنا بأن التفكير في نمط عملنا الحزبي، وفي آلياته منذ تأسيس حزبنا سنة 1959، إلى لحظة المؤتمر الاستثنائي 1975، إلى المؤتمرات الأخيرة التي عقدنا خلال العشرية الحالية، يجعلنا نكتشف فعلا في مختلف مراحل التشكل وإعادة التشكل المشار إليها على سبيل المثال، إننا أمام جهد سياسي مؤسسي يروم تجاوز آليات العمل السياسي التقليدية، التي تشكل جزءا من تراث مجتمعنا في التدبير، وذلك في اتجاه ترسيخ قيم الحداثة. ذلك أننا ننظر إلى المؤسسة الحزبية كفضاء للتعبئة المولِّدة للقيم المدنية، والصانعة للوسائط القادرة على تدبير الاختلافات والتناقضات داخل المجتمع، للتمكن بواسطتها من بناء البدائل، التي تسمح بتدبير العلاقات بين المجتمع والدولة. وليظل الفكر خياراً مركزياً في فعلنا السياسي، ويواصل حزبنا اليوم حضوره في مشهدنا السياسي، كقوة سياسية معارضة، ينبغي أن يبقى قوة اقتراحية من أجل التغيير متفاعلة مع بنيات التحول القائمة في مجتمعنا. ولن يتمكن من ذلك، دون إطلاق منتديات للفكر والحوار في أسئلة الراهن وطموحات المستقبل. ويمكن أن نساهم اليوم، ونحن نعلن خيار المعارضة البديلة، في بلورة المسألة الاجتماعية وذلك في ضوء المتغيرات التي عرفها مجتمعنا، فنبني التصورات البديلة للسياسات المتبعة، ونعمل على إبراز وتوضيح البعد الاجتماعي في خياراتنا السياسية، المنحازة لتطلعات شعبنا إلى التنمية المرتبطة بالعدالة الاجتماعية وأخلاقها في التضامن. 3 - تحولات القيم في مجتمع يتغير لن نتحدث هنا عن القيم والمبادئ الأخلاقية المجردة، بل أن حديثنا سينصب بالأساس على القيم المرتبطة بالعمل السياسي. وإذا كنا نقر أن منظومة القيم قد عرفت في عالمنا كثيرا من التحول، بفضل الثورات التي تحدثنا عن جوانب منها في المحور الأول، فإن سؤال القيم قد عاد إلى مجتمعنا بقوة في الآونة الأخيرة. وفي هذا السياق، سنحاول تقديم تصورنا للموضوع، وذلك في إطار توضيحنا للمنطلقات الكبرى لأدوارنا في المعارضة. تدعونا المتغيرات الجديدة التي اتخذت ملامح مُحددة في التداعيات المترتبة عن الحركات الاحتجاجية التي عرفتها بلادنا، وشملت أغلب المجتمعات العربية، إلى مقاربة الدين والسياسة في مجتمعنا وثقافتنا. ونبدأ هذه المقاربة المختزلة بالتفكير في بعض القضايا المرتبطة بالمعارك المحتملة في مشهدنا السياسي. كانت الحركة الوطنية المغربية بأجنحتها المختلفة، قد اجتهدت في بناء جملة من القواعد المؤطرة للفكر والعمل السياسي، لا علاقة لها بالنصوص والعقائد الإيمانية، الراسخة بدرجات متفاوتة في ضمائر وقلوب المغاربة، وهو الأمر الذي يعني استبعاد العقائد الدينية من الجدل السياسي، حيث تبارت الأحزاب السياسية المغربية في إطار تعددي، من أجل بلورة رؤى إصلاحية متقاطعة ومتناقضة، بهدف إنجاز مشروع في التحول السياسي يروم تعزيز مكانة الدولة، ويحرص، في الآن نفسه، على إشراك مؤسسات المجتمع المدني، في عملية بناء الإصلاحات المطلوبة، وبناء على مقومات المشروع الديمقراطي الفكرية والمؤسسية. ثلاث إشكالات تعد اليوم ضرورية في مجال العناية بالقيم والمبادئ، للتمكن من مجابهة تحديات الراهن، نقصد بذلك الموقف من الدين في مجتمع مسلم وعالم متغير. ونتجه هنا، في إطار مزيد من توضيح مرجعيات حزبنا، وتحديد مواقفه من الاجتهاد والإصلاح، للتذكير بأن حزبنا مطالب بالتفكير مجددا في مشروعه السياسي، قصد تحيينه وتطويره، وخاصة بعد عودته إلى المعارضة. ولن يتمكن في ضوء التحولات الراهنة، من إنجاز هذه المهمة، إلا بمجابهة الإشكالات التي ذكرنا آنفا، بحكم أنها تعد اليوم مُحَصلة للمتغيرات الجديدة في مجتمعنا. وكل استمرار في الصمت عنها، ستترتب عنه نتائج، نعتقد أنها لن تساعدنا في عمليات تطوير أدائنا السياسي المعارض، ولا تمنح اليسار الذي ننتمي إليه، السمات التي تساعده في عمليات بناء القطب المُؤهَّل لتجاوز التراجعات الحاصلة اليوم في مشهدنا السياسي. لم تستوعب الحركات الإسلامية قيم الحداثة، واكتفت بقراءة نصية للظاهرة الدينية، الأمر الذي ترتب عنه كثير من الفقر الفكري والتاريخي. نحن نشير هنا إلى القراءات الجهادية والسلفية التي انتشرت في العقود الأخيرة. كما نشير إلى صور التوظيف الخطير للحساسيات الدينية في مجتمعاتنا، التي تعاني من تفاقم أزمات تاريخية كبرى. وفي هذا السياق، نفترض أن من حق حزبنا اليوم وليس غدا، أن يعلن بوضوح أن الإسلام دين الجماعة، دين المغاربة، وليس من حق أحد احتكار مخزونه الرمزي واستخدامه في المجال العمومي. وإذا كنا نسلم بأن البعد الروحي يشكل جزءاً من حياتنا الحميمية ومشاعرنا الخاصة، فإن التلاعب به وبقيمه يُفجِّر معارك كنا نعتقد أن مجتمعنا تجاوزها، وها نحن نتبين اليوم أننا لم نفكر فيها بعد بالصورة التي تمكننا من بناء نقط ارتكاز وقناعات فكرية واضحة في موضوعها. لقد كانت القوى الحية في مجتمعنا، وبحكم المعارك العديدة التي تخوضها، تترك موضوع المقدس ولغته وصور قراءاته وتوظيفه، معتقدة أن تجاوز الإشكالات بتركها يحل المشكلة. إن المشاكل لا تحل بالإهمال، بل بالتداول والجدل والحجة. لقد آن الأوان للانطلاق في بناء قراءات جديدة للظواهر التراثية، ولفتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها، ذلك أن أدبيات الإسلام السياسي المتداولة بئيسة، والزاد الروحي في حياة مجتمعنا كما نتصور، أغنى وأرقى من أدبيات السلفيين والجهاديين الجدد. يستدعي ما سبق في تصورنا، ضرورة إعلان موقف سياسي محدد من هذه الممارسات. وينبغي أن نوضح هنا، أنه لا علاقة لهذا الموقف بالبعد الميتافيزيقي ولا بالبعد التعبدي في الدين، فالروحانية في حياة الإنسان تعد من الأمور الحميمية والذاتية والخاصة، إنها شأن يخص كل فرد منا بامتياز. تندرج ملاحظاتنا هنا، في باب تشجيع المراجعات الحزبية، لبناء فكر جديد يكون أكثر توافقاً مع الأسئلة الجديدة، التي يطرحها مشروع الإصلاح في بلادنا، في صيرورات تطوره. ومن هنا أهمية فتح أوراش نقاش تمهيدية، في أبرز القضايا التي نفترض وجود علاقة بينها وبين ترسيخ القيم، لارتباطها بمشروعنا السياسي ومقاربتنا للشأن العام. إن الصور الجديدة لتوظيف الإسلام ومبادئه السامية في حياتنا السياسية، وصور الخلط التي نعاين اليوم في مشهدنا السياسي، بين لغة التعاقد والتاريخ والنصوص الدينية، تضعنا أمام إشكالات يمكن التصدي لها، برفع راية الاجتهاد والعقل. { { ثانيا : المهام المستعجلة للمعارضة إذا كانت المنطلقات التي حددنا في الفقرات السابقة، توضح تصورنا لمرجعية المعارضة البديلة، فإننا نتجه الآن لبلورة المهام الجديدة المطروحة أمام المعارضة اليوم. وضمن هذا السياق، نتصور أنه يمكن بلورة المهام الضرورية التي نحن مطالبون بخوضها. وقد سبق لي، في مناسبات عديدة طيلة السنة الحالية، أن أكدت على ضرورة وضع استراتيجية شاملة تؤطر مواقفنا كمعارضة، مشددا على ما يلي: 1 - مجابهة القوى المحافظة إيديولوجيا: إن معركتنا في هذه الواجهة تعد معركة صعبة لكنها أساسية، في ظروف أصبحت الشعبوية منهجا في تدبير الشأن العام، والخطاب السياسي دعويا يدغدغ عواطف المواطنين، والسلوك انتهازيا يوظف المشاكل المواطنين اليومية لبسط أشكال جديدة من الهيمنة. علمتنا التجربة أن هذه العوامل مجتمعة قد تؤدي إلى عسكرة المجتمع إيديولوجيا، تسهيلا لاستنبات الفكر الاستبدادي. إن طبيعة المعركة الإيديولوجية التي يجب خوضها مرتبطة بمشروعنا المجتمعي، حيث ناضلنا ولا زلنا نناضل من أجل مجتمع متحرر من جميع أشكال الوصاية، مجتمع يكون فيه المواطن سيد نفسه، حر في اختياراته، وفي قناعاته، وفي حياته. معركتنا مرتبطة أيضا بالدفاع عن القيم الكونية، التي أصبحت رصيدا للإنسانية جمعاء، وذلك قصد ترسيخ حقوق الإنسان بمفهومها الشمولي، مع التأكيد على مركزية حقوق المرأة أفق المساواة، خاصة في المرحلة التي نعيشها اليوم. إن معركتنا أخيرا، في هذه الواجهة، هي معركة من أجل الديمقراطية كاختيار، كثقافة، كسلوك وكممارسة يومية، لا كتأثيث شكلي. 2- تحصين المكتسبات: إن المكتسبات السياسية والحقوقية، بشكل خاص، والتي ساهمنا في إنجازها - منذ حكومة التناوب التوافقي - أصبحت ملكا للجميع. فهي تشكل خطوة هامة نحو المواطنة الكاملة. علينا اليوم أن نتعبأ من أجل تحصينها، وعدم التخلي عنها، ذلك أن الدفاع عن هذه المكتسبات يمنح مجتمعنا إمكانية تعميمها وتوسيعها، خاصة أن الدستور الجديد والآفاق التي يفتحها تشكل أرضية متجهة نحو تعميق حركية الإصلاح. 3 - تفعيل الدستور الجديد: إذا كنا قد ناضلنا طويلا من أجل الإصلاح الدستوري، فإن من بين مهامنا اليوم في المعارضة، أن نناضل مجددا من أجل تطبيق ديمقراطي سليم لمضامين الدستور الجديد. هذا يتطلب معركة سياسية، لأن هذا الرهان سيوضح طبيعة مواقف الفاعلين السياسيين مع تناقضاتهم والتباس مواقفهم. ويتضح من الآن أن هناك منظوران يرتكزان على ثقافتين ومشروعين مجتمعيين: المنظور الذي يستعين بالإصلاح كأفق متجه نحو التقدم والتطور من جهة، ومنظور يسعى إلى إفراغ روح ونص الدستور الجديد من محتواه في الجهة المقابلة. إننا حين نضع هذه المعركة ضمن أسبقياتنا، أي معركة مواجهة قوى محافظة وخيارات سياسية تستند إلى مرجعيات لا تستجيب لتطلعات شعبنا، فإننا نعتبر أن المواجهة بين قراءتين لمضامين الدستور قد أصبحت أمرا واقعا، وهذا ما سيساعدنا على مزيد من إبراز المعارضة البديلة التي نعمل على تأسيسها. 4 - وحدة اليسار تندرج هذه المهمة ضمن خطتنا الاستراتيجية، وهي تقتضي جملة من المبادرات المرتبطة ببلورة ميثاق يحدد المبادئ والقيم المشتركة، كما يصوغ الأهداف والوسائل. وقد يمكننا ذلك من تعبيد الطريق نحو التأسيس لقطب اليسار. إن اليسار واقع تاريخي مرتبط بكل مكاسب المغرب المعاصر، إنه الأمس والأمس وغدا ضرورية تاريخية، فلا ديمقراطية حقة بدون يسار، كما أن عمليات الفرز داخل مشهدنا السياسي مرتبط بوزن اليسار، وهذا ما يحثنا على القيام بخطوات أخرى نحو هذا الأفق. ففي هذا السياق، سيظل الاتحاد الاشتراكي منفتحا على هذا المشروع الكبير. لذا، ندعو كل الذين غادروا حزبنا إلى العودة إلى بيتهم، ففيه متسع للجميع، وفي حاضرنا كل المعطيات التي تستعجل هذا الطلب. 5 - تعزيز العلاقات مع الحركة النقابية إذا كان تاريخ الاتحاد يرتبط بتاريخ الحركة النقابية والنضال العمالي، فإن مهامنا المستعجلة اليوم، تتطلب دعم كل المبادرات التي تضع المسألة الاجتماعية في قلب الصراع السياسي في مجتمعنا، مجتمع الفوارق والهشاشة الاجتماعية. وبحكم أن المسألة الاجتماعية تعد أهم ركائز هويتنا الاشتراكية الديمقراطية، فإن المسألة تستدعي دعم كل المبادرات الهادفة إلى تقوية التنسيق في أفق وحدوي، وخاصة بين الفيدرالية الديمقراطية للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، حيث نتصور أن وحدة هاتين المركزيتين النقابيتين، تشكل اليوم رافعةً مُعززةً للنضال الاجتماعي والديمقراطي. 6 - الانفتاح على المجتمع المدني ينخرط مناضلو حزبنا منذ تأسيسه في تنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني، الأمر الذي منح ويمنحنا الانغراس المطلوب في التنظيمات المدنية، الهادفة إلى النهوض تكريس قيم المواطنة، وتطوير الوعي الذاتي بإشكالات المجتمع والتاريخ والتقدم. وقد ظل حزبنا خلال تاريخه، فاعلا ومبادراً ومؤسساً لكثير من المؤسسات، سواء منها التي تعنى بقضايا الطفولة والشباب، أو التي يدور اهتمامها حول القضايا الحقوقية والاجتماعية والثقافية. وإذا كان الدستور الجديد قد منح منظمات المجتمع المدني مكانة متميزة، تروم تفعيل أدوارها وتطويرها داخل المجتمع، فإن عملنا النضالي في هذا السياق يسمح لنا بالانفتاح على هذه الواجهة، قصد المساهمة في ترسيخ الديمقراطية التشاركية. إن المهام المستعجلة والمهام التي نضعها في المدى المتوسط، وقد سطرنا بعض معطياتها في الفقرات السابقة، تدفعنا إلى الانتباه إلى أهمية وضع استراتيجية شاملة، تربط بين مضمون الواجهات النضالية التي ذكرنا وبين آفاق عملنا السياسي، ليصبح الاتحاد قوة معارضة فاعلة داخل المجتمع. المحور الثالث : الأداة الحزبية، تحولات المجتمع والأزمة التنظيمية نريد في هذا المحور أن نشخص وضعنا الحزبي، في علاقته بالتحولات الجارية داخل مجتمعنا وفي العالم، وذلك بعد أن توقفنا في المحورين السابقين، أمام الشروط الجديدة التي تؤطر واقعنا المجتمعي ومشهدنا السياسي، ثم حددنا منطلقات معارضتنا البديلة، لنتوقف بعد ذلك أمام المهام المستعجلة التي نواجه الآن، والمهام المرتبطة بإستراتيجيتنا السياسية في المدى المتوسط. نتوخى من وراء إبراز مفهومي التحول والأزمة في هذا المحور استيعاب ما يجري داخل المجتمع، في علاقته المعقدة بالأزمة التنظيمية لحزبنا. وهكذا سنتناول في هذا الإطار مجموعة من القضايا من أهمها: الإشكالية التنظيمية وما تطرحه من أسئلة من جهة، والبحث عن الطريق الذي يساعدنا على إعادة بناء حزبنا من جهة أخرى. { { أولا : الإشكالية التنظيمية نسجل في البداية، أن الأزمة التي عرفها حزبنا، في السنوات الأخيرة، اكتست، بالأساس، بعدا تنظيميا، رغم أهمية البعد الفكري والقيمي والسياسي، الذي تحدثنا عنه آنفا. فعندما نتأمل أوضاعنا الداخلية نقف على مجموعة من المفارقات، من بينها: أولا: أن حزبنا ساهم في التأسيس للانتقال الديمقراطي ببلادنا، وهي مهمة سياسية ليس بالسهلة، لكن يجد في الوقت نفسه صعوبة في ترتيب بيته الداخلي، مستمرا في استعمال أدوات تقليدية أصبحت متجاوزة. ثانيا: لقد ظل حزبنا في اختياراته السياسية متقدما، حيث أكد بمناسبة انعقاد مؤتمره الثامن سنة 2008، على مطلب الملكية البرلمانية، وكان له السبق بتقديم مذكرة للمطالبة بتعديل الدستور سنة 2009، كما انخرط مناضلوه في الحراك الشعبي مع شباب 20 فبراير. وفي غمرة الاحتجاجات الاجتماعية، أعلن أن استمراره في تدبير الشأن العام رهين بإقرار إصلاح سياسي ودستوري، وقد بلور هذا الموقف في بيان للمجلس الوطني في مارس 2011. فكيف يكون الحزب صاحب كل هذه المبادرات، هو نفسه الحزب الذي تراجع خلال السنوات الأخيرة في الاستحقاقات الانتخابية؟ نكتفي بتسجيل هذه المفارقات، بحكم أننا نعي جيدا أشكال الخلل التنظيمي، كما نعي في الوقت نفسه، قدرة حزبنا على الانتفاض على ذاته. إننا مطالبون في محطة مؤتمرنا التاسع بالاستجابة إلى مطلب إعادة البناء، آخذين بعين الاعتبار مقتضيات التغيير التي عرفها المجتمع، في محيط متحول. وينبغي أن نعترف هنا بشجاعة، مستندين في ذلك إلى قيم النقد الذاتي، بأن مشاكل عديدة في تنظيمنا وفي واقع الصراع السياسي، وسعت المساحة القائمة بيننا وبين الفئات الحية في مجتمعنا. إن إعادة بناء حزبنا يشكل ورشا كبيرا، ويقتضي استيعاب متطلباته اليوم التي تختلف عن متطلبات الأمس. إن الشباب والنساء في مجتمعنا ونوعية معارك البناء الديمقراطي التي تنتظرنا... كلها عوامل تستدعي بلورة أساليب نضالية جديدة في التعبئة والانفتاح لضخ دماء جديدة في هياكل حزبنا. { { ثانيا : الحزب المؤسسة: إجراءات التفعيل والتطوير إن تحويل الحزب إلى مؤسسة يعد مطلبا ملحا، وعلينا أن نتعبأ جميعا لإنجاز هذه المهمة. وهذا يحتاج إلى وضع خطة تنظيمية واضحة المعالم. ونذكر هنا، أن الندوة الوطنية التي عقدناها حول مسألة التنظيم سنة 2010، كانت مناسبة لتقديم مجموعة من الاقتراحات ومن الحلول لمعالجة أوضاعنا الداخلية. لقد حان الوقت لنوفر كل الشروط ليستعيد حزبنا قوته وجاذبيته لدى المواطن المغربي. ولن يتم ذلك إلا عبر المقترحات التالية. 1- وضع ميثاق أخلاقي داخلي إن القوانين والقواعد، كيفما كانت أهميتها، تبقى ناقصة بدون احترام ما يجمعنا في الأصل، أي الأخلاق. لقد حان الوقت لإعادة بناء علاقتنا داخل البيت الاتحادي، وكذلك العلاقات مع المجتمع، على أساس الأخلاق التي تولد الثقة وتعزز المصداقية وتقاوم كل الأمراض التي تتجسد في الشك والتشكيك والدسائس والفوضى... لقد كان عبد الرحيم بوعبيد يردد دائما مقولته المأثورة " السياسة أخلاق ". لذلك، ما أحوجنا اليوم إلى تمثل عمق وفلسفة هذه الحكمة. إن مشروع إعادة البناء يتطلب العمل بهذا التوجه، الذي ميز الاتحاد طيلة مساره النضالي. 2 - تعميق الديمقراطية الداخلية: إن تعميق الديمقراطية الداخلية يشكل مسلسلا يحتاج دوما إلى وضع الآليات والصيغ المناسبة، لضمان الاستمرارية والتماسك، على أساس الإشراك الواسع لمكونات الحزب. وفي هذا الاتجاه، لا بد من وضع القواعد الضرورية لتدبير الاختلاف في إطار الوحدة، بناء على أهداف واضحة ومحددة. وهذا لا يتحقق إلا بوضع مساطر شفافة، على جميع مستويات العمل الحزبي أفقيا وعموديا، الشيء الذي يضمن اتخاذ القرارات الملزمة للجميع، ويمنح ممارساتنا التنظيمية القوة والمصداقية. ومن جهة أخرى، وعلى ضوء التجربة، أصبح ملحا تقنين تعدد المسؤوليات لأسباب ملحة. أولا: إن تراكم المسؤوليات يتنافى والمبادئ الديمقراطية، حيث لا يساعد على تجديد النخب. وبذلك، يصبح الحزب عاجزا على الفعل والمبادرة، وعلى التفاعل بقوة مع محيطه العام. ثانيا: ينتج عن تعدد المسؤوليات تآكل للمردودية، خاصة أن المسؤولية اليوم تتطلب الحضور المستمر والقرب والإنصات. لقد أصبحت المسؤولية اليوم لا تتحمل الانتداب حيث أصبحت مرتبطة بالمحاسبة. فعلين أن نؤسس لثقافة جديدة؛ ثقافة المسؤولية. 3 - إعادة الاعتبار للتنظيم القطاعي من أسباب تراجع تنظيماتنا، إهمال التنظيم القطاعي في السنوات الأخيرة. ومن هنا، فإن التحولات التي عرفها المجتمع والاقتصاد باتت تفرض علينا تقوية مكانة القطاعات. ذلك أن التواجد الميداني لحزبنا في المعمل، كما في الجامعة والأسواق والشارع... وقدرتنا على التعبئة في محطات متعددة تمر - بالضرورة - عبر التنظيم القطاعي، وهذا ما سيساعدنا على جعل حزبنا في قلب المجتمع، ويساهم في محو المسافة، التي برزت في السنوات الأخيرة، مع مختلف مكوناته. 4 - إعطاء نفس جديد للتنظيم الحزبي الجهوي تتمثل هذه المهمة أولا: في توضيح الوظائف المنوطة بالفرع والإقليم والجهة، وذلك بتسطير القوانين التي تحدد طبيعة هذه الوظائف. ثانياً: إعطاء الجهات الوسائل الضرورية للقيام بمهامها. إن حزبنا قد تبنى مغرب الجهات ودافع عنه لإيماننا بضرورة اللاتمركز، كمدخل للإصلاح ولسياسة القرب. فعلينا أن نجدد مفاهيمنا وثقافتنا التنظيمية، انطلاقا من استيعاب متطلبات الجهوية كمشروع وكمنهجية وكممارسة في العمل. 5 - إعادة الاعتبار للتكوين لقد أوضحنا، من ذي قبل، أهمية العلاقة التي ترتبط الأداء السياسي بالجانب الفكري، وكذلك نوعية الخطاب وممارستنا اليومية. خاصة أن مسار حزبنا تميز بحضور مكثف للثقافة والمثقفين ولأدوارهم القوية في مواجهة إشكالات حزبنا ومجتمعنا، من خلال إضاءاتهم الفكرية والتحليلية، في توضيح المواقف والأهداف. إن حزبنا يتوفر على مؤسسات ثَمَّ إنشاؤها بهدف الإسناد الفكري لخياراته ومواقفه، من قبيل المؤسسة الاشتراكية للأبحاث والدراسات، والجمعية الاشتراكية للمستشارين والمستشارات، مما يلزمنا اليوم، أن نبادر بتفعيل هذه المؤسسات لتمارس أدوارها كاملة في موضوع إعادة الاعتبار للتكوين والبحث، في ضوء المتغيرات الجديدة التي يعرفها مجتمعنا. إن الاهتمام بالتكوين، على المستوى النظري وعلى المستوى العملي، أصبح ضرورة ملحة. وفي هذا السياق، نقترح إحداث جامعة حزبية دائمة، منفتحة على مناضلي وأطر الحزب، وذلك من أجل، أولا: التعريف بتاريخ الحزب وبذاكرته. ثانيا: استيعاب الرهانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية الكبرى، في سياق العولمة والتحولات الإقليمية. ثالثا: التمكن من تقنيات التواصل مع المواطنين بوضوح وإقناع. رابعا: القدرة على تأطير الاجتماعات والحملات الانتخابية. إن نموذج المناضل والإطار الحزبي اليوم له متطلبات جديدة تحثنا على توفير الإطار والوسائل ليصبح الاتحاد من خلال قوة مناضلين الفكرية والتنظيمية. لذلك، ينبغي تكون للجامعة الحزبية امتداداتها الجهوية على مستوى التكوين. إن إنجاز هذا المشروع التكويني العام يتطلب الاستعانة بوسائل التواصل العصرية، من خلال اتخاذ كل المبادرات في المجال ( إحداث مواقع الكترونية مخصصة لهذا الموضوع ). 6 - إشكالية الإعلام الحزبي نعيش اليوم عصر الثورة الإعلامية والأسئلة التي تطرحها والأوضاع الجديدة في مجال التواصل التي نتجت عنها. فكيف ينبغي الاستعانة بهذه المكاسب التقنية الجديدة على مستوى الإعلام الورقي وعلى مستوى الإعلام الالكتروني؟ وكيف ينبغي تدبير أشكال تواصلنا في الداخل وفي الخارج؟ لا بد أن نسجل أن إعلامنا الحزبي قد شهد مجهودات نوعية، على مستوى التوجيه والتدبير، رغم سلبيات حجم الإرث، وذلك في ظروف صعبة. لكن السؤال يبقى مطروحا حول ما يجب القيام به مستقبلا لتقوية حضورنا ودعم مواقفنا وتعميمها من أجل المساهمة في إسماع صوتنا، وتحويل اختياراتنا في المعارضة إلى اختيارات قابلة لمزيد من التعبئة داخل مجتمعنا؟ وفي هذا السياق، تبرز أهمية الإعلام الرقمي، الذي لم نستطع إلى اليوم وضع خطة في شأنه، تكون قادرة على خلق بيئة إعلامية مصاحبة ومدعمة لتوجهاتنا. انطلاقا من كل ذلك، وعلى ضوء التجربة، يتوجب وضع استراتيجية متكاملة تهدف إلى جعل إعلامنا في قلب الصراع المتعدد الأبعاد داخل المجتمع. 7 - تقوية وتعزيز دور الحزب في المجتمع نتجه هنا نحو مطلبين ضرورين ومستعجلين، أولهما: يتمثل في توسيع تمثيلية النساء داخل التنظيمات الحزبية، وذلك في أفق المساواة على أساس المناصفة، بحكم التحولات التي يعرفها مجتمعنا، وانطلاقا من ضرورة تحصين المكاسب راكمها المغرب خلال العقدين الماضيين، الأمر الذي يتطلب خطة واضحة في هذا المجال، حتى لا يظل مطلب المناصفة مجرد مطلب عام، بل يتحول إلى جملة من الإجراءات التي تكفل تحقيقه داخل حزبنا. لذلك، نقترح أن نحقق المناصفة في أفق المؤتمر العاشر. ثانيهما: يتعلق بتقوية حضور الشباب في حزبنا وفق قواعد واضحة للتعبئة والمشاركة الفعلية في مسلسل اتخاذ القرارات الحزبية. ونقترح في هذا المجال أن يتمثل الشباب في أجهزتنا بنسبة الثلث، في أفق المؤتمر الوطني العاشر. 8 - تحصين الذاكرة: إن الوفاء لشهدائنا وقادتنا ومناضلينا واجب أخلاقي. ولأننا نعتبر أن حزبنا حزب الوفاء، لا بد لنا من صون ذاكرتنا في اتجاه المستقبل، حتى لا تنسى أجيال اليوم وأجيال الغد كل ما قدمه الاتحاد من أجل الدفاع عن كرامة المواطن المغربي. إن العمل السياسي الهادف يبقى دائما مرتبطا بالذاكرة، من أجل استخلاص الدروس والعبر، وحتى يعلم الجميع أن المكتسبات التي حققناها والمغرب الذي نعيش في اليوم ليس هبة من السماء. لذلك، وجب التفكير في الوسائل الضرورية الضامنة لاستمرار الذاكرة حية. ونقترح، في هذا السياق، إحداث مؤسستين تكريما لكل من عمر بنجلون والحاج عمر الساحلي، باعتبارهما يجسدان نماذج قيادية، من خلال عطاءاتهما واجتهادهما في مجالات مختلفة. 9 - الإدارة الحزبية إن إنجاز مشروع الحزب المؤسسة يحتاج إلى إدارة تتسم بالاحترافية، من خلال طبيعة مهامها ووسائل عملها. لذلك، تتطلب مهننة الإدارة التحديث والعقلنة على جميع المستويات، لتصبح أداة فاعلة في كل المحطات التي تنتظر حزبنا. إن تجربتنا في هذا المجال تدعونا إلى اتخاذ المبادرات الضرورية، في إطار برنامج واضح، حتى تصبح الإدارة في خدمة إعادة بناء الحزب. خاتمة إن رصيد حزبنا في العمل، وخبرة أطره ومناضليه، نساء ورجالا وشبابا، وتطلعهم الهادف إلى توطين المشروع الديمقراطي الحداثي في مجتمعنا، يمنحنا الأمل والعزيمة والإرادة المتجهة صوب إعادة بناء حزبنا، ليواصل ارتباطه العميق بمجتمعنا وبتطلعاته الكبرى، الهادفة إلى تنمية وتقدم بلادنا. وفي موقعنا اليوم، في المعارضة، ما يمنحنا فرصا مواتية للاستمرار في القيام بالمهام التي شكلت منطلق حزبنا في العمل السياسي، منذ ما يزيد عن نصف قرن. إن المشروع الذي تقدمنا به يهدف، في العمق، إلى إغناء الأرضية التوجيهية، التي أعدها حزبنا للمؤتمر التاسع، بمجموعة من المقترحات والإجراءات التي نعتبرها ملحة. فهي بمثابة خطة طريق، بل تعاقد مع مناضلاتنا ومناضلينا بتعاقد جديد، على أساس ربط المسؤولية بالمحاسبة، خلال المدة الفاصلة بين المؤتمر الوطني التاسع والمؤتمر الوطني العاشر. إننا نعتبر ما تقدمنا به قابل للتطبيق، مستجيبا لمتطلبات المرحلة الحالية. وفي النهاية، إن نجاح ما تقدمنا به مرتبط بجهود وتعبئة قواعد حزبنا، وخاصة إعادة الثقة والأمل، حتى نعتز من جديد بانتمائنا إلى الاتحاد الاشتراكي لقوات الشعبية.