تتناول مادة هذا الكتاب المجال السياسي العربي المعاصر: تكوينه ومسارات تطوره، وأنماط التناقض والصراع فيه، والديناميات العميقة التي تؤسس علاقاته وثنائياته، من خلال التوقف عند واقع المعارضات السياسية في المنطقة العربية، والتي يصنفها المؤلف، ضمن نمط المعارضة التي تعيش حالة من الأزمة والتراجع، ولا يتعلق الأمر هنا بالمعارضة اليسارية والوطنية والديمقراطية التي هيمنت في عقود سابقة، فقط، بل هو يتعلق أيضا بالمعارضة الإسلامية (الحركية). نحن في ضيافة كتاب "السلطة والمعارضة: المجال السياسي العربي المعاصر"، وألفه الأكاديمي المغربي عبد الإله بلقزيز، وصدر عن المركز الثقافي العربي(بيروت/الدارالبيضاء، وجاء العمل موزعا على 171 صفحة من الحجم المتوسط)، مفضلا في الفصل الأخير الاشتغال على نموذج المعارضة في المغرب، ولا تختلف معالم مآزق المعارضة في المغرب مع تلك المُميّزة للمعارضة في باقي الدول العربية، فنحن جميعا، أبناء "عقل عربي" واحد، وإن كان ثمة اختلاف، فيكمن في "تلك الخصوصيات الثقافية" لهذا العقل العربي القطري على ذلك.. ولأن شعارات الإصلاح والديمقراطية على رأس الشعارات التي ترفعها أغلب المعارضات العربية، فقد توقف الكاتب مليا عند هذه الشعارات، من خلال نقد "الشماعة" الديمقراطية، دون سواها، وذلك تأسيسا على نقاط ثلاث: الأولى أن هناك فرق شاسع بين الشعار السياسي وهو حال المعارضة العربية وبين المشروع السياسي، إذ ما كل صاحب شعار صاحب مشروع. وثانيها، أننا لا نعثر في أدبيات أحزاب المعارضة على رؤية نظرية متماسكة للنظام الديمقراطي كما هو الحال مع الأحزاب الديمقراطية في الغرب مثلا بل على عموميات حول كيفية الوصول إلى السلطة أو كيفية إدارتها. وثالثها أن الابتذال السياسي لمفهوم الديمقراطية بلغ حدا أصبح معه سائر الأحزاب يدعي الديمقراطية، وحتى الأحزاب التي تستعمل المال لإفساد الحياة السياسية، وتشتري أصوات المواطنين، باتت تدعي جهرا أنها ديمقراطية وصاحبة مشروع سياسي ديمقراطي! لم تسلم المعارضة المُجسّدة في الحركات الإسلامية من انتقادات صريحة للمؤلف، معتبرة أن مقولة "الإسلام هو الحل" كانت، منذ حسن البنا، ومازالت شعارا للتعبئة والتجييش، وليست مشروعا سياسيا بالمعنى الحقيقي للملكة؛ أو التأكيد على أن سائر المحاولات التي بذلت حتى الآن لصناعة فكرة "الاقتصاد الإسلامي"، من قبل مُنَظِّري الحركة الإسلامية، لم تصل بعد إلى تمييز نفسها من المثالين الاقتصاديين المهيمنين في العالم: الرأسمالي والاشتراكي، والشيء نفسه يصدق على الحديث عن "الدولة الإسلامية" التي ما فتئ الوعي بها يتأرجح حتى اليوم بين الفكرة الشمولية والفكرة الليبرالية عن الدولة! من ميزات بعض أنماط المعارضة العربية خلال السنين الأخيرة، تلك الخاصة بالتعاون مع الأجنبي، حيث اعتبر بلقزيز أن الاستتباع لنظام أجنبي معاد بات يشكل ظاهرة جديدة خطيرة تَسِمُ بعضا من المعارضات العربية، بل أصبح يشكل وصمة عار على جبين السياسة والمعارضة في الوطن العربي. والمثل الصارخ لتعاون بعض الأحزاب المعارضة مع الأجنبي هو مثال قسم من المعارضة العراقية قبيل الحرب القائمة في العراق (سواء تعلق الأمر بالمعارضة الموالية للإدارة الأمريكية، أو تلك الموالية لإيران)، ومرد ذلك أن التحالف مع الأجنبي تحت أي عنوان دون هدف وطني، ودون خلفية سياسية وطنية، خيانة للشعب والأمة والوطن، وإقرار صريح بأن الولاء للعدو وليس للأمة أو الوطن. وثانيا، لأن هذه الفصيلة من "المعارضة" تُجافي في الطبيعة سائر أصناف المعارضات والأحزاب في التاريخ، لأنها لا تأخذ شرعيتها من شعبها، وإنما من العلاقة مع العدو الخارجي، وعليه، فهي في مقياس السياسة ليست معارضة. فيما يتعلق بطلب الديمقراطيات الغربية على دور المعارضة، فيأتي حسب المؤلف في سياق قيمة الدور الذي تقوم به المعارضة، تلك القيمة التي تتحدد حصريا في مد الحياة السياسية بالاستقرار وحمايتها من الاضطرابات، وهي القيمة التي تجعل من المعارضة عنصر توازن في المجتمع وليس عبئا أو مصدر إزعاج للسلطة السياسية في البلاد، أما الشرط الأساسي لحصول المعارضة على هذه القيمة وقيامها بهذا الدور فهو يتحدد في شرعيتها المستمدة من تمثيلها لكل القوى والفئات الاجتماعية وتعبيرها عن مصالحهم بشكل عام، بجانب شرعيتها المستمدة من الضمانات القانونية. إذا كانت المعارضة السياسية في الوطن العربي، من دول الخليج العربي إلى دول المغرب العربي، بهذه الصورة القاتمة، فما السبب وراء ذلك؟ يجيب الكاتب على التساؤل من خلال التوقف عند أربع مسببات رئيسية: الإخفاق السياسي، والدوغما الفكرية (أو "التصحر الفكري"، كما يشير في موقع آخر)، والغُربة عن تحولات المجتمع، وأخيرا، الانسداد التنظيمي، ويعبر عنه بجلاء انعدام حياة ديمقراطية داخل التنظيم السياسي، وترهُّل بناه وهياكله وهيمنة المنزع البيروقراطي فيه، وثمة ظواهر ثلاث تُعْرب عن درجة الاختناق التنظيمي العالية، وتفسِّر التآكل في القدرة التمثيلية هي: الانسداد في الحياة التنظيمية، والبيروقراطية، والانشقاقات. الأدهى، أن أزمة المعارضة السياسية في الوطن العربي ليست قابلة للاستدراك أو التجاوز، بمجرد إجراء تعديلات في الخيارات السياسية والهياكل التنظيمية لقوى هذه المعارضة تحت عنوان التأقلم مع متغيرات المجتمع والسياسة. ذلك أن الأزمة، برأي المؤلف، أعمق بكثير من هذا النوع من التشخيص الذي يقترح عليها معالجات سياسوية، مضيفا أن ما تفرضه هذه الأزمة، هو أقرب ما يكون إلى إعادة البناء، ويفرق هنا بين إعادة بناء ما دمرته هذه المعارضة نفسها من عمران سياسي واجتماعي وتنظيمي شيدته جماهيريا ورصفه مناضلوها في الماضي، وبين إعادة بناء ما دمرته صراعات السلطة مع المعارضة (البعد الخارجي في الأزمة)، ويشير المؤلف في هذه الجزئية، إلى أن أكبر مشكلات المعارضة السياسية في الوطن العربي أنها تعمل في مجال سياسي نابذ، أي في مجال سياسي لا يقدم لها إمكانية حقيقية للاشتغال الطبيعي، بَلْه لأداء دور! فالغالب على البُنَى السياسية العربية غياب هذا المجال الوسيط بين الدولة والمجتمع بالمعنى الحقيقي لمفهوم المجال أو الحقل السياسي. وعن السبيل إلى الخروج من هذا النفق الذي حُشِر فيه الخطاب السياسي لقسم كبير من المعارضة العربية، فيكمن في إعادة تأسيس هذا الخطاب على قواعد جديدة، هي عينها قواعد السياسة والعمل السياسي في المجتمعات الحديثة، وفي قائمة قواعد ثلاث: العقلانية، والواقعية الإيجابية، والتاريخية، ولو توقفنا فقط مع ثقل المنظومة العقلانية، يؤكد بلقزيز، أن العقلانية في السياسة، وفي الخطاب السياسي، تفترض أولا أن تقوم السياسة على مقتضى العقل لا على مقتضى الهوى والمزاج، وتفترض أن تكون السياسة برنامجية، وتفترض ثالثا، أن يخاطب الخطاب السياسي عقل الناس (أو الجماهير) لا وجدانها ومشاعرها.