يمثل الكتاب الصادر مؤخرا عن المركز الثقافي العربي والمعنون ب«السلطة والمعارضة، المجال السياسي العربي المعاصر، حالة المغرب» للباحث المغربي عبد الإله بلقزيز مادة غنية تتناول المجال السياسي العربي المعاصر، من حيث تكوينه ومسارات تطوره وأنماط التناقض والصراع فيه، والديناميات العميقة التي تؤسس علاقاته وثنائياته. يقودنا كتاب بلقزيز إلى معرفة طبيعة تشكل الحقل السياسي العربي، ومدى فاعليته الشعبية، وكيف ساهم رجل السياسة في صياغة منظور للفعل السياسي، توج على المستوى العربي بترسيخ تلك العلاقة الملتبسة بين مجال عمل الدولة ومجال عمل رجل السياسة، وكيف أن علاقات المصالح المتصارعة التي كانت سائدة بين الخطاب الرسمي والخطاب المعارض في الستينات والسبعينات قد انمحت اليوم في أغلبية المشاهد السياسية في ظل قدامة الخطاب المعارض أو بسبب هيمنة الدولة القمعية على النخب والأحزاب، ومسلسل الإفقار السياسي الذي رسخ المزيد من هيمنة الدولة، وتدني أداء الفكر المعارض، وتكرس عوامل النكوص التي قضت بالضربة القاضية على ما تبقى من الحلم في الديمقراطية. وبحكم الزمن الطويل الذي قضاه عبد الإله بلقزيز في تتبع آليات عمل الطروحات الفكرية والعروبية ومعرفته العميقة بالمشاهد السياسية العربية من موقع الصحبة والمشاركة، يكون هذا الكتاب بمثابة دليل في فهم انتكاسات اللحظة وأزمة المثقف العربي. لم يكتف بلقزيز بالحديث عن المشاهد الثقافية في العالم العربي، بل خصص جزءا مهما من الكتاب للمشهد السياسي المغربي، ومرد ذلك إلى كون الحالة المغربية تكتسي تمثيلية وازنة في النطاق العربي العام، كما يقول المؤلف، «وخاصة في باب تكوين المجال السياسي، ثم لأن المغرب شهد أشكالا من الحراك السياسي النشط، دفعت بعلاقات السياسة والسلطة فيه إلى حدود من التميز بعيدة»، هذا ليس وحده هو الباعث على إفراد مساحة وازنة للمشهد السياسي المغربي، ولكن لأن التجربة المغربية جديرة بالاعتبار على المستوى العربي، وبالمعرفة، فالكثير من العرب لا يعرفون ماذا يجري في المغرب على وجه الحقيقة في المستوى السياسي وفي مجال الصراع الاجتماعي، حتى وإن كانت العناوين الكبرى ملفتة للانتباه، وهذا يتبدى في حالة الخلط حتى بالنسبة إلى النخبة السياسية المثقفة في المشرق العربي، التي نعرف عنها نحن الشيء الكثير أكثر مما تعرف هي عنا، وربما يعود هذا بشكل أساسي إلى كون بلدان المشرق مصدرا قويا للإيدولوجيا بخلاف المغرب الذي ظل متلقيا أو«مستهلكا» بدءا بالأفكار السلفية والإسلامية ومرورا بالأفكار القومية والاشتراكية ونهاية بحالة التفتت التي أصابت المشارقة والآن تنتقل عدواها إلى المغاربة، على جميع المستويات، سياسيا وثقافيا، بينما يمضي النظام العربي إلى مزيد من التمزق. الكتاب غني بالتفاصيل، والوقائع التي لا يعرفها إلا رجل مجرب ومثقف من عيار بلقزيز، هو الذي خاض في مياه كثيرة، هو الذي يقول، وما أغنانا عن القول، «إن حراكا بغير رؤية محض تنفيس للضغط». لتتحول المعارضة في العالم العربي إلى شكل صوري لا «أساس له من الصحة». الحالة المغربية جديرة بالقراءة وبالمعرفة، لكنها حالة مرهونة بهذا الجيش الجرار من المناهضين للإصلاح وللانتقال نحو الديمقراطية، «جيش نمت مصالحه في حقبة العدوان على الأرزاق والأنفس والأبدان، ويخشى عليها من تحول سياسي يذهب بها إلى غير رجعة، لذلك تراه مستنفرا القوى لكبح جماح الانتقال».