أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة    الجيش المغربي يشارك في تمرين بحري متعدد الجنسيات بالساحل التونسي        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في كتاب عبد اللطيف جبرو عن الفقيد عبد الرحيم بوعبيد:

عن دار « أبي رقراق» بالرباط، صدر كتاب للأستاذ عبد اللطيف جبرو بعنوان «مذكرات عبد الرحيم بوعبيد، بوعبيد، محمد الخامس والأمير مولاي الحسن»، وهو كتاب في غاية الأهمية، ليس فقط بفضل الجانب التوثيقي الهام، نصوصا وصورا، بل كذلك من حيث عمليات الربط والتنسيق بين الأحداث والوقائع وتحليلها في ضوء التاريخ المغربي المعاصر التي لعب فيها المرحوم بوعبيد دورا كبيرا، سواء من موقعه كرجل وطني كبير تهمّه مصلحة البلاد أوّلا وأخيرا، أو من موقعه كقائد وزعيم حزبي طبع حزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» بطابعه النضالي الذي لا هوادة فيه.
الكتاب يضمّ فصولا من مذكرات تركها الفقيد بوعبيد، وقامت المؤسسة التي تحمل اسمه بتعميمها. ويبيّن الأستاذ عبد اللطيف جبرو أن ما كتبه السي عبد الرحيم بوعبيد عن حدث المطالبة بالاستقلال، أو مؤتمر طنجة لأحزاب المغرب العربي، وعن ظروف إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وعن مغرب ما قبل وفاة محمد الخامس الخ، لم يسبق لغيره من القادة أن تناوله بما يكفي من الوضوح والصراحة مما يساعد الأجيال المتوالية من المغاربة على أن يكونوا في الصورة الحقيقية لما جرى في بلادنا طوال فترات سياسية جمعت بوعبيد بالملك ووليّ عهده. وفيما يلي عرض لأبرز المواقف التي عبّر عنها الفقيد في مذكراته.
أوّل لقاء بين عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة
في السنة الدراسية 1939-1940، أصبح بوعبيد معلما بمدرسة اللمطيين بفاس، يحضر شهادة الكفاءة المهنية للتدريس وشهادة البكالوريا في الفلسفة. وفي العطلة الربيعية من السنة الموالية جاء إلى مدينة فاس طالب يتابع دراسته الجامعية بالجزائر هو المهدي بن بركة، وسيكون اللقاء بمناسبة محاضرة حول الوضع الدولي قي السنة الثانية للحرب العالمية الثانية. كان الشباب المغربي يتطلّع إلى مستجدات الحرب وآثارها على مختلف بلدان العالم، ولهذا حرص بوعبيد على حضور العرض السياسي للمهدي بن بركة، وستكون تلك المناسبة أوّل لقاء جمعهما. وبعد نهاية المحاضرة، جرى نقاش بين السي المهدي والسي بوعبيد. وفي هذا الصدد يقول: »كنا في فاس نجتمع بصورة دورية مرة في الأسبوع وفي العاصمة العلمية التقيت للمرة الأولى مع المهدي، كان وقتئذ طالبا في كلية العلوم بجامعة الجزائر، يأتي بالقطار إلى فاس خصيصا للمشاركة في اجتماعات الخلايا الوطنية، كان له نشاط سياسي مكثف، وأقول للتاريخ إنّ المهدي بن بركة كان خارق الذكاء، متفوق على الدوام.
لقد باشر نشاطه في العمل الوطني وهو في الخامسة عشر من العمر، وكان عمل المهدي بن بركة في الرباط بصورة رئيسية، وإن كان يمتد إلى المغرب كاملا بصورة عامة، وسيضطر فيما بعد إلى التفرّغ لإدارة الحزب، أي للقيام بمهام سياسية، وسيتولى الحزب تعويضه براتب متواضع عن بطالته المهنية بعدما غادر التعليم العمومي كأستاذ للرياضيات.
قبل تحديد مشروع عريضة المطالبة بالاستقلال على الورق، تمت تسمية التجمع السياسي الجديد لتلك المرحلة »حزب الاستقلال«. وقد أبدى المهدي بن بركة وأنا شخصيا بعض التحفظات على تلك التسمية:
استقلال، نعم ولكن لماذا كلمة »حزب«؟
قلنا بأن »جبهة وطنية« أو صيغة أخرى، ستكون أكثر ملاءمة للبنية والمكونات المختلفة للحركة الجديدة، لأننا لا يمكن أن نهدهد أنفسنا بأوهام مبالغ فيها والمعركة بالتأكيد ستكون طويلة وليس هناك أي تفاهم أو تسوية لا تكشف عن تناقضات وإذا وقعت انشقاقات في أي مرحلة من مراحل هذه المسيرة الطويلة، فسيكون من الأفضل أن لا تكون لها انعكاسات على وحدة منظمة كالحزب.
وبعد الاتفاق على أن تحمل الحركة الجديدة اسم حزب الاستقلال، كان ينبغي تحديد الإجراءات والمبادرات الواجب اتخاذها لتلتحق شخصيات أخرى وهيئات أخرى بالحزب الجديد، وبدأ اهتمام كبير بالشبان المتخرجين من الثانويات أو المؤسسات البربرية ومن بينهم جمعية قدماء تلاميذ ثانوية آزرو.
كان الحماس الوطني للشباب البربري المنحدر من الأطلس المتوسط، الدليل الأكثر استعصاء على الاحتمال بالنسبة لإدارة الحماية الفرنسية، بعد إدراك فشل سياسة التفرقة التي كانت الادارة الاستعمارية تنهجها..
وكان المهدي بن بركة المناضل المدهش، قد قام سنتي 1940 / 1941 بتشكيل الخلايا الأولى لهؤلاء الشباب بتنظيم اتصالات مستمرة، وجولات لإلقاء محاضرات أو للإخبار وكانت مشاركة عبد الحميد الزموري والسي عمرو أوناصر في عريضة الاستقلال، باسم كل الشباب البربري، مساهمة تاريخية فعالة في القضية الوطنية وتكذيبا ساطعا للسياسة البربرية للحماية الفرنسية.
وبعد أحداث المطالبة بالاستقلال، كان المهدي بن بركة وأنا مع المناضلين الذين شملتهم حملة الاعتقالات، وفي سجن لعلو كان المهدي وأنا نتحاور بلغة خاصة لا يعرف مفاتيحها سوى الذين يتداولونها.
كان المهدي بن بركة سجينا مثلنا، ولكن كانت له بعض الحرية للتحرك داخل السجن، مما كان يتيح له معرفة الاخبار، كان مدير السجن (الفرنسي) يحتاج الى معلم يساعد ابنته لتهييء شهادة البكالوريا بإعطاء دروس التقوية في الرياضيات، وكان المدير يأخذ المهدي إلى بيته لهذا الغرض، وكان المهدي من جهته يستفيد من هذه الوضعية لإجراء اتصالات ببعض الإخوان والحصول على الأخبار«.
حكومة عبد الله إبراهيم وإعفاؤها غير المبرّر
يشير الكاتب إلى أن تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم تمّ يوم الأربعاء 24 دجنبر 1958، وذلك في ظل أجواء سياسية مشحونة حيث عاشت البلاد أحداثا وتحولات سياسية بعد أزمة وزارية طويلة إثر استقالة الفقيد بوعبيد من حكومة الحاج أحمد بلافريج. استدعى محمد الخامس، الذي أراد التعجيل بحل الأزمة الوزارية، علال الفاسي وكلفه بمهمة داخل حزب الاستقلال، وفي الحقيقة كان مكلفا بتشكيل الحكومة حيث أعد لائحة وزراء كانت حقيبة وزارة التربية الوطنية ستسند إلى المهدي بن بركة. لكن أمام رفض بعض الاستقلاليين، غضب علال الفاسي وذهب للاستقرار بطنجة، وهكذا عمد الملك إلى تنصيب حكومة أخرى برئاسة عبد الله إبراهيم التي عارض فيها الأمير مولاي الحسن إسناد حقيبة التعليم إلى أستاذه في الرياضيات المهدي بن بركة.
والمهم أن حكومة عبد الله إبراهيم حلت محل حكومة الحاج أحمد بلا فريج رحمهما الله ، والقاسم المشترك بين الحكومتين هو أن بوعبيد ظل نائبا لرئيس الحكومة ووزير الاقتصاد الوطني والمالية.
كانت البداية هي الإعلان عن فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي وسيتحول البنك المخزني إلى بنك المغرب وسيتم إنشاء صندوق الإيداع والتدبير، البنك المغربي للتجارة الخارجية، البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، والمكتب الوطني للري، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومكتب الأبحاث والمساهمات الصناعية والاتفاق مع الإيطاليين لبناء مصنع تكرير البيترول »لاسمير« وغير ذلك من القرارات التي مهدت للإعلان عن إجراءات هدفها التحرير الاقتصادي لبلادنا، إجراءات تُعرف بقرارات 22 اكتوبر1959، وهي قرارات تزامنت مع صدور ظهير شريف أعلن عن تأسيس الدرهم كعملة وطنية غير قابلة للتحويل، أي ممنوع تداولها خارج أرض الوطن. قال السي عبد الرحيم ، رحمه الله، عن قرارات 22 اكتوبر1959 : »إن عهد الاستقلال يتطلب منا أن نتحرر من التبعية وأن لاننساق وراء عجلة نظام كانت قراراته المهتمة باقتصادنا يتم اتخاذها خارج المغرب ودونما مراعاة لظروف المغرب النوعية، ولا يمكن لأي تعاون دولي صحيح أن يزدهر ويكتسي مدلوله الحقيقي إلا إذا كان كل من يساهم فيه ، يبذل جهوده بوسائله الخاصة قبل كل شيء، وهذا شرط أساسي لقيام علاقات الاحترام المتبادل بين الدول المستقلة. لهذا نحن الآن في سياق سياسة اقتصادية ونقدية مستقلة«. وسوف يكتب اكديرة فيما بعد في كتاب »مغرب الحسن الثاني« بأن الأمير مولاي الحسن اعتبر تأسيس حكومة يسار برئاسة عبد الله إبراهيم تولى فيها بوعبيد منصب نائب رئيس الوزراء.... خطرا.
في العشرين (20) من ماي، تم إعفاء الحكومة التي يرأسها عبد الله ابراهيم. وفي هذا الخصوص يقول عبد الرحيم بوعبيد في مذكرته: «لقد تمّ إعفاء الحكومة بدون مبرر مقبول. وكان التفسير الوحيد المقدم لذلك الإعفاء هو أن هذه الحكومة طال بقاؤها أكثر مما كان قد قدَّره خصومها سلفاً. وكان الفريق الحكومي (الملغم من الداخل بوزراء متواطئين مع المعارضة، من قبيل يوسف بلعباس) قد استطاع البقاء بالرغم من العديد من التقلبات والحيثيات والظروف ودام بقاؤه أزيد من 15 شهراً، وهو ما يعد رقماً قياسياً بالمقارنة مع الفرق السابقة له منذ 1956.
فقد هاجمت البورجوازية المنتسبة إلى الاستقلال وثارت ثائرتها ضد الاجراءات المطبقة على مستوى الصناعة والتجارة الخارجية والعملة والقرض. كما هاجمت بورجوازية أخرى، بورجوازية الفلاحين الكبار، على غرار الاتحاد المغربي للفلاحة، الحليفة بدورها للاستقلال أو لتيارات أخرى غيره، ذلك لأن أهدافها كانت تتمثل في امتلاكها، بأي وسيلة من الوسائل، لأفضل الضيعات التي بحوزة المعمرين الأجانب. فتم تقديم الاصلاح الزراعي، الذي تبناه المخطط الخماسي 1965-1960، بالرغم من اعتداله ودقته، كما لو أنه عمل يحول الفلاحة المغربية الى نموذج سوفياتي (أو سفيتتها) بما يعني ذلك من كولخوزات وسوفخوزات. وكانت هذه البورجوازية أو تلك، مسخرة ومستخدمة من طرف الشركات الرأسمالية الفرنسية بطريقة واضحة للعيان. فكانت صحافة الاستقلال، صحافة البورجوازية الحضرية أو القروية لا تني، أحياناً بدون تمييز تردد على طول أعمدتها نفس الحجج ونفس الانتقادات التي تبلورها الصحافة الفرنسية خدمة للمصالح الرأسمالية الأجنبية. وخلاصة القول في ذلك، أن البلاد متجهة نحو الكارثة والمغرب يسير نحو إقرار نظام قريب من الشيوعية بهذا القدر أو ذاك، متنكراً بذلك لتقاليده الدينية والثقافية.
وحزب الاستقلال، الذي لم يكن قد بلور لنفسه مذهباً بعدُ (إذ كان عليه انتظار 11 يناير 1962 لفعل ذلك) كان هو رأس الحربة في عملية النسف هاته، أما الحركة المسماة بالشعبية، فلن تكن أكثر من خليط من الأعيان، بلا انسجام ولا إيديولوجية، تدعي أنها تتحدث باسم العالم القروي. حتى المسكين البكاي نفسه، الذي كنت شخصياً أحترم فيه نوعاً من النزاهة، انجر إلى الدخول في جمهرة الصارخين. وأخيراً، قامت صحيفة« لي فار«، الذي كان مديرها الظاهر هو رضى اكديرة، بتنظيم كل هذا وتنسيقه، ذلك لأنها في الواقع كانت تدار من طرف مساعدين تقنيين فرنسيين متخصصين في السجال والتدليس والتشهير.
لم يكن ولي العهد، مولاي الحسن بدوره يتردد في استعمال السلطة المرتبطة باسمه وبمكانته للعمل بشكل مباشر ضد الحكومة الشرعية التي نصبها والده نفسه. فقد صرح أزيد من مرة أنه أول معارض. وكان تصرفه تصرفاً سياسوياً، بدون تحفظ, ولا أعتقد أنني أبالغ إذا ما ذكرت بأنني كنت ومساعدي هدفاً لكل هذه المعارضات، والعدو اللذوذ الذي يجب القضاء عليه. وتكفي قراءة صحافة تلك الفترة، ابتداء من 1956 وإلى حدود ماي 1960 للتأكد من ذلك.
ويحق علي أن أشير إلى الموقف الموضوعي والرصين لمحمد الخامس طوال هذه الفترة. فغالبا ما كانت الفرصة تسنح لي لكي أطلب تحكيمه، بل كانت هناك مجالس للوزراء يرأسها هو تطرح فيها القضايا الخلافية. وبعد توضيح من هذا الطرف وذاك، يحسم الملك لصالح وجهة النظر التي كنت أدافع عنها، بل ويكون ولي العهد نفسه حاضراً.
لاشك أن حصيلة العمل الحكومي، طوال الفترة ما بين 1956-1959 مازال مطروحاً إنجازها، والانكباب عليها، لمصلحة ولفائدة التاريخ المعاصر لبلادنا. بيد أن معالم الاستقلال الاقتصادي للمغرب كان قد تم وضعها في ماي 1960 أو كان يتعين استكمالها وتطويرها على ضوء العبر المستخلصة من التجربة.
ففي القطاع الصناعي، تم إنشاء قطاع عمومي يلعب دور المحرك وقوة الدفع: المركب الكيماوي بآسفي، معمل الصلب والحديد بالناظور، إنشاء وحدات صناعية من أجل تركيب وصناعة الشاحنات (اتفاقية المغرب بيرلي) وتركيب الجرارات وصناعتها (اتفاق لابوريي)، إنشاء وحدة صناعة العجلات (اتفاقية جنرال طاير) صناعة مركب للوحدات النسيجية (منها وحدة كوفيطس بفاس) إنشاء محطة لتكرير النفط بالمحمدية (سامير)، والتي كانت ربما أول محطة للتكرير في بلد من العالم الثالث (اتفاقية ماطيي) اتفاقية في طور الإعداد لتركيب وصناعة السيارات (سوماكا)، إصدار ظهير منظم للبحث واستغلال باطن الأرض، تأميم مناجم جرادة، تأميم الشركة الشريفة للبترول إلخ. وكان مكتب الدراسات والمساهمات الصناعية هو الذي تكلف بالدراسات والسهر على التنفيذ المادي، ولاسيما ما يخص التمويل وتكوين الأطر المغربية.
في القطاع التجاري: تنويع الصادرات والتراجع الواضح لتبعيتنا إزاء سوق منطقة الفرنك (انتقلنا من 80% إلى 40%)، تأميم استيراد الشاي والسكر (المكتب الوطني للشاي والسكر) بدء العمل بتعريفة جمركية جديدة مع التوجه نحو حماية منتوجاتنا الوطنية.
في قطاع القروض والعملة: تأميم بدون تعويض لمؤسسة الإصدار (بنك المغرب) إنشاء بنك وطني للتنمية الاقتصادية مخصص لتمويل المشاريع الصناعية الواردة في المخطط الخماسي، إنشاء بنك للتجارة الخارجية من أجل تشجيع صادراتنا والسهر على تنفيذ تنويع صادراتنا نحو أسواق جديدة، خروج المغرب من منطقة الفرنك وإنشاء العملة الوطنية الجديدة (الدرهم)، حيث أن احتياطتنا الخاصة من العملة الأجنبية كانت تسمح لنا، في سنة 1960 بالصمود لمدة ستة أشهر. إنشاء الصندوق الوطني للإيداع والتدبير المخصص لجلب جزء كبير من الادخار وتوجيه ما تراكم نحو القطاعات المنتجة المنصوص عليها في المخطط الخماسي.
في قطاع الإنتاج الفلاحي: الاصلاح الزراعي عبر استعادة أراضي المعمرين (مليون هكتار) وأراضي الملك العقاري والحبوس (حوالي مليون هكتار) وخلق وحدات التعاون والإنتاج، انطلاقاً من الأراضي الجماعية بمساعدة مالية وتقنية من الدولة، تطوير القطاعات المسقية بهدف الوصول الى مليون هكتار مسقية (المكتب الوطني للسقي). ولأول مرة، ثبت أن الشمندر مادة ذات مردودية، ومن هنا جاء مشروع إنشاء وحدات للتكرير والتصفية. ومن أجل وضع حد للمضاربات المحمومة حول أراضي المعمرين، تم إصدار ظهير يمنع، في غياب ترخيص مسبق من الحكومة أي عملية عقارية بين شخص مغربي وشريك متعاقد أجنبي.
إعداد المخطط الخماسي لسنة 1965/1960، بعد سنتين من الدراسات في مختلف اللجن التي تضم ممثلين عن الأجراء (الاتحاد المغربي للشغل) والفلاحين وغرف الصناعة والتجارة. وقد اتخذت التوجهات الكبرى بأهداف محددة لكل قطاع من القطاعات. أما على مستوى التربية، فقد حددت نسبة مائوية دنيا للتمدرس سنوياً، تفضي بعد 5 سنوات إلى تمدرس 60% من الأطفال.. إلخ.
إن الأمر هنا يتعلق ببعض الأمثلة فقط، لابد أن إثارتها أمر مشروع عشية إعفاء حكومتنا. فبالنسبة للطبقة العاملة ومختلف الطبقات الشعبية، كما في أعين جزء كبير من البورجوازية المتوسطة، كانت مثل هذه الأعمال الملموسة تبشر فعلا بمستقبل أفضل، مما نجم عنه في الحياة الاجتماعية اليومية نوع من الانقسام: الذين يجعلون من أنفسهم ورثة الحماية، مقابل الأغلبية الكبيرة التي حصل لها الوعي بأن إرث الفترة الاستعمارية لابد من أن يوضع في خدمة مجموع الشعب المغربي. وهكذا اندلع صراع طبقي حقيقي. وقد كان حزب الاستقلال يجد ويجتهد في صحافته وتصريحاته من أجل نفي هذا الصراع الطبقي مع الدفع بأن الأمر لا يعدو أن يكون شعاراً مستورداً من الخارج ومناهضاً لمبادىء الاسلام. كما لو أن مبادىء الاسلام تمنح الحرية للأقلية من البورجوازية الكبرى لكي تستولي بدون عمل ولا جهد على الثروات المادية للبلاد عبر نفوذها في الادارة والحكومة وعبر سبل وطرق المضاربة. ولهذا بدا أن العقبة التي لابد من القضاء عليها، هي هذه الحكومة التي ظلت قائمة مدة تقارب 15 شهراً.»
الأمير الحسن الثاني على رأس الحكومة
في سياق الحديث عن إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، يقول الراحل بوعبيد في مذكراته:»
«تلقيت يوم 17 أو 18 ماي، مكالمة هاتفية من لدن الأمير مولاي الحسن ، دعاني فيها إلى عشاء ثنائي، رأساً لرأس. وكان قد مضى ردح من الزمن لم ألتق به. وصلت إذن في الموعد، بفيلاه بالسويسي. بدا منشرحاً للغاية، لبقاً وودوداً. دام اللقاء أزيد من ثلاث ساعات، وسوف لن أقدم منه هنا سوى النقط الأساسية:
قال الأمير:
لقد قرر جلالة الملك وضع حد لمهام الحكومة الحالية. وهناك فريق آخر قيد التشكيل. لقد وصلنا مرحلة المشاورات النهائية وقد أمرني جلالة الملك بإخبارك رسمياً.
أشكر سموك على دعوتك هاته، وعلى الأخبار الذي قدمته لي، لكن أستسمحك في التعبير عن مفاجأتي: ذلك أن جلالة الملك، باعتباره رئيس الدولة، هو الذي يعود إليه أمر هذا الإخبار، بصفة رسمية وحسب الأعراف، للفريق الحكومي كله.
لنقل إنه إجراء شبه رسمي، لكنه في ظرف أيام قليلة، سيُرسم (يصبح رسميا) كما تقتضيه الأعراف. لكن المهم في هذا المسعى، الذي أمر به جلالة الملك، هو أن أعرض عليك تولي مهام وزارة الخارجية داخل الفريق الجديد. ولابد من أن أوضح لك بأن جلالة الملك يلح على هذا الأمر بشكل خاص.
قبل الإجابة على العرض الذي تشرفت به، اسمح لي سموك بإبداء ملاحظة أولية، مادام الأمر يتعلق بحوار شبه رسمي. خلال تنصيب الفريق الحالي، يوم 24 دجنبر 1958 قيل وقتها، في الخطاب الرسمي للتنصيب بأن الحكومة الجديدة ستتولى مهامها الى ما بعد الانتخابات الجماعية، وأن تشكيلة جديدة ستتشكل على ضوء نتائج هذه الانتخابات الجماعية، بمعنى حكومة أكثر تمثيلية لمختلف توجهات الرأي العام. والحال، أنه بالرغم من تباطؤ وزارة الداخلية وبعد مشاورة الأحزاب السياسية حول نمط الاقتراع، في يونيو 1959، قرر ظهير صادق عليه جلالة الملك تنظيم الانتخابات الجماعية بالاقتراع الأحادي. ويحمل هذا النص القانوني تاريخ شتنبر 1959. وفي دجنبر، سجل الناخبون أنفسهم في اللوائح الانتخابية، ولم يبق سوى تحديد تاريخ الانتخابات، فلماذا إعفاء الحكومة قبل الانتخابات؟
لقد قرر الملك ذلك، غير أن ما تبين من اللقاء هو أن معارضة الأحزاب السياسية الأخرى بلغت من القوة حدا جعل الحفاظ على الحكومة قائمة، خلال الانتخابات، يبدو كما لو أنه يدعم حظوظها. فتقرر، إذن، دعم حظوظ فريق آخر. والحال، أن اعتماد الاقتراع الأحادي بدل الاقتراع باللائحة الذي دعا إليه كل من حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية يهدف، في العمق، إلى إقرار سلطة ما اصطلح على تسميته بالنخب المحلية، وذلك بالإبقاء على البنيات والهياكل القروية التقليدية التي كانت تستند إليها سياسة الحماية. كما أن من شأن النتائج الانتخابية عبر تقوية حظوظ العالم القروي، أن يبرز اتجاهات محافظة، إن لم تكن رجعية بحثة.
- سألته:
من هو رئيس المجلس (الحكومي)؟
ولي العهد، أنا شخصياً.
الكشف عن هذا الأمر فاجأني مفاجأة عميقة، وحتى إن سبق لي أن سمعت به، فأنا لم أصدقه.
قلت له:
لكن، يا سمو الأمير، يصعب علي التصديق بهكذا أمر. فأنا لا أرى ولياً للعهد، ومستشاراً لجلالة الملك يضع نفسه على رأس الحكومة، اللهم في ظروف استثنائية حقاً. ذلك لأن الحكم كما يقال هو الاختيار. وعليه، سيكون عليك أن تختار، بإلزام مسؤوليتك السياسية بين هذا التوجه وذاك على المستويات, الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وفي مجال السياسة الخارجية.. فالرجل السياسي العادي ينخرط بكل مسؤوليته السياسية عندما يقدم على اختيار معين. فإذا نجح في عمله، لن يكون قد قام سوى بما أملاه عليه ضميره وتحليله للوضعية، وإذا أخفق، لن يكون أمامه سوى أن يستقيل أو ينحى من طرف الحكم الأعلى، جلالة الملك. هذا هو النظام وهي ذي قواعد اللعبة حتى في ديمقراطية غير كاملة، كما هي ديمقراطيتنا.... ثم واصلت الحديث بالقول:
مبدئياً، فإن أميراً ولياً للعهد يمثل استمرارية نظام الملكية, حيث لا يمكن أن يتعهد بمسؤوليته السياسية، حيث لا تمكن مجازاتك أو محاسبتك، فماذا ستفعل المعارضة في هذه الحالة؟ فإن هي عبرت عن عدم موافقتها على أي إجراء كان، ستكون أولا وقبل كل شيء تعارض ولي العهد، لأن هذه الصفة ستظل، بالرغم من كل شيء هي المهيمنة والغالبة. لست بصدد شكلانية قانونية، بل أحاول أن أتصور أوضاعاً ووضعيات ملموسة, لا، بكل صراحة لا أتفهم الأسباب التي تدفعك إلى تولي رئاسة الحكومة..
أجابني:
لقد قدرت الأمور من جانبها السلبي والإيجابي معاً، وقد تنبأت بالاعتراضات التي ستقوم بها.. لكن القرار اتخذ. وإذا كان جلالة الملك وأنا فكرنا في مشاركتك, فذلك حتى يكون الفريق الجديد ممثلا لكل الاتجاهات.. لا تظن على وجه الخصوص أنني أعارض كل الاجراءات التي اتخذتها.. ففي العمق أنا أيضاً اشتراكي.
يمكنك أن تكون اشتراكياً كإنسان أو كمواطن، لكن لا يمكنك أن تكون اشتراكياً كولي للعهد.. أما في ما يخص مشاركتي الشخصية، فإن أمرها هين للغاية. وعلى كل، كيف يمكنني أن أجمع بين تصوراتي الشخصية وتصورات مناقضة يعبر عنها الآخرون. أنا كمناضل في خدمة قضية أومن بها. فأنا لست سياسياً يبحث عن مناصب..
طيب، سأقدم تقريراً لجلالة الملك عن هذا اللقاء، وعلى كل، سيتم استدعاؤك للمشاورة، كما تقتضي الأعراف ذلك.
كان اللقاء قد انتهى عملياً، كنا نتمشى في الحديقة. وعندما استأذنته في توديعه، خاطبني بقوله:
أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم, لكن، باعتبارك صديقاً سأقول لك (ما في الأمر): أنت لا ترى فيَّ سوى ولي العهد فقط، والحال أنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك. يحذوني الطموح في لعب دور في حياة بلادي. أنت تعرف أن أبي مازال شاباً. وأنا سوف لن أنتظر حتى أضع طاقم أسنان لكي أخلفه.. هو ذا عمق تفكيري...
ثم أضاف مبتسماً
لربما ستركب القطار وهو يسير، في يوم من الأيام. فمن يدري؟
هل كانت تلك هي الإرهاصات الأولى لتحول سيطرأ في الوضع، والعودة إلى تصور يؤمن بالملكية المطلقة، تستند تبريراتها الى انقسام الأحزاب السياسية وإرادة العالم القروي، وهي الإرادة المعبر عنها من طرف الأعيان الجدد، أبناء وأقارب القواد والباشوات، الخدام السابقين لإدارة الحماية, سيبين توالي الأحداث أن التوجه كان هو ذاك فعلا.
ابتداء من 26 ماي، شرع محمد الخامس في المشاورات من أجل تشكيل الفريق الحكومي الجديد، وإن كان إجراء شكليا فقط، لأن المسألة كلها سويت قبل أيام من هذا التاريخ، بيد أنه حصل مع ذلك تغيير بمقارنة مع الخطة الأصلية،
إذن أن بعض الشخصيات من بين المؤهلين للوزارات، من أمثال عبد الكريم بنجلون، ألحوا على الملك كي يتولى هو نفسه رئاسة المجلس (الحكومي)، على أن يكون ولي العهد نائب الرئيس فقط.
كان ممثلو الاستقلال، والحركة الشعبية وغيرهم من المستقلين حاضرين، وكنت أول من استدعي إلى لقاء الملك، بدا لي جلالته محرجا أو مكدر البال نوعا ما، يكاد يكون مستسلما. أخبرني جلالته بأنه على علم بمجريات اللقاء مع الأمير مولاي الحسن، وباقتضاب شديد عبرت له عن عميق أسفي لعدم قبول العرض الذي عرض علي نظرا للأسباب التي عرضتها على نجله، هذا دون الإشارة إلى العبارة الأخيرة التي تفوه بها هذا الأخير في نهاية اللقاء.
وقد تفضل جلالته بأن أعرب لي عن رضاه عن العمل الذي قمت به، سوآء إبان المفاوضات من أجل استقلال البلاد، أو في إدارة الاقتصاد والمالية، طوال قرابة ست سنوات بلا انقطاع».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.