نعيش اليوم أجواء فلسطينية صادمة. تظهر غزة على الشاشات مكانا مجروحا يملؤه الغبار والنار. هذا ما يفعله الصهاينة بها. والهدف البعيد لهذا التدمير هو وضعها «خارج المكان». وقول إن الصهاينة يشككون في انتماء غزة إلى مكانها، وجعلها فقط فضاء للموت الجمعي، أمر أصبح معروفا من قبل كل الناس. لكن لنتأمل ما فعلوه مع ابن فلسطين الناقد والمفكر إدوارد سعيد. لقد شككوا في فلسطينيته. ففي شهر شتنبر من سنة 1999 شن محام أمريكي-إسرائيلي مغمور حملة تشكيكية في هوية إدوارد سعيد، على صفحات مجلة «كومنتري» الشهرية الأمريكية اليهودية اليمينية المتطرفة. والغريب في الأمر أن حملة التشكيك هذه كانت قبل شهر واحد من صدور السيرة الذاتية لإدوارد سعيد باللغة الإنجليزية «خارج المكان». هذا آمر مذهل حقا. فالمحامي كان على علم بصدور السيرة الذاتية لأبرز مفكر فلسطيني في القرن العشرين. فقام باستباق الأمر وشن حملة على هوية سعيد. مدعيا أنه أمضى ثلاث سنوات ينقب عن حياة إدوارد الأولى، و انه أجرى مقابلات كثيرة مع العديد من الأشخاص من أجل إثبات أن إدوارد سعيد ليس فلسطينيا. لقد هوجمت حياة إدوارد في العالم الناطق بالإنجليزية. ورأيه أن المحامي المغمور عمد إلى تشويه شهادات الناس الذين قابلهم أو أغفلها كليا. أما تمويل ذلك فقد كانت من طرف نصاب عالمي أمريكي-يهودي معروف أمضى زمنا في السجن لتعاطيه الإجرامي بما سمي» سندات خزينة مزورة». ويضيف «إ.سعيد» أنه بالإضافة إلى الطعن في مصداقيته كمفكر ومناضل نزيه مدافع عن قضيته، فإن للحملة هدفا سياسيا لا يخفى:»إظهار أنه لا يمكن الوثوق بالفلسطينيين عندما يتحدثون عن حق العودة. فإذا كان مثقف بارز يكذب، فما بالك بما قد يقدم عليه الناس العاديون من أجل «استعادة» أرضهم، تلك التي لم تكن لهم أصلا؟»( خارج المكان،ص.10). إن ما حدث لإدوارد سعيد له دلالات كبرى، أهمها أن الانتصار لا يتم فقط عندما تضع دبابتك أمام العدو لتدمر منزله و منشآته وتستولي على أرضه بعد ذلك، بل المعركة هي ثقافية أيضا. هي تنقيب مستمر في الكتب والمستندات. المعركة فكر أيضا. المعركة لغة أيضا. المعركة كل شيء يثبت، أو يلغي، الهوية. المعركة جامعات ومعاهد علمية. لذلك نجد إدوارد سعيد يرد ثقافيا على الحملات التي شنت ضده. فكتاب»خارج المكان» هو الدبابة التي صوبها نحو المتشككين في أصوله. لنقرأ تلك الصفحات الرائعة عن والده، وهم في أميركا، الذي كان يريد «أمركة» الأسرة، و الذي كان «يكره القدس» لأنها تذكره بالموت. وعن أمه «هيلدا» التي كانت تريد الحفاظ على «فلسطينية» الأسرة من الأكل إلى اللهجة.